كنت- ولا أزال- أقول إن الدولة المدنية هي الدولة التي يحكمها دستور ذو مرجعية بشرية، وقوانين محققة لمبادئه علي مستويات الممارسة العملية لحياة الناس، في تفاصيلها المتنوعة والقوانين كالدستور، تهدف إلي تحقيق المصالح العادلة لكل المواطنين بلا استثناء. وقد أكدت مرارا أن الدولة المدنية الحديثة هي دولة مؤسسات تقوم علي الفصل الحاسم بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإنها دولة ديمقراطية قائمة علي حق الاختلاف والتمايز، وذلك بقدر ما هي دولة مواطنة لا يمكن أن تسمح لأحد بالتمييز بين مواطنيها علي أساس من الثروة أو الدين أو الجنس أو الانتماء السياسي، فجميع المواطنين سواء أمام دستور الدولة الذي يجمع بين كل المواطنين دون تمييز، وذلك علي نحو يتجسد معه المعني الحقيقي لمبدأ المواطنة الذي لا يمكن أن تقوم من دونه دولة مدنية حديثة، هي- في آخر الأمر- دولة وطنية دستورية، قائمة علي التعددية الحزبية سياسيا، وتنوع التيارات الفكرية ثقافيا. وقد تمسكت النخبة الثقافية المصرية والعربية بهذا المفهوم للدولة المدنية في مواجهة نقيضين لدلالاتها وحضورها الواعد. النقيض الأول هو الدولة الدينية التي نجح التعصب الديني أن يقيمها في أفغانستان مع حكم طالبان ابتداء من عام1995، وذلك في السياق الذي يذكرنا بحكم الملالي في إيران.1979 وقد ارتبط كلا النموذجين وما حاول أن يتشبه بهما من نماذج مقاربة لمشروعات دول دينية سابقة في السعودية الوهابية ولاحقة في السودان وأمثالها. وهي نماذج نتج عنها التمييز القسري بين المواطنين علي أساس من تأويلات دينية متطرفة. أعني تأويلات تلغي معني الدساتير الحديثة، ولا تعرف الفصل بين السلطات، ولا تعترف بمبدأ المواطنة ولا حتي بمعني الوطن والوطنية. وكان النموذج الأفغاني بما اقترن به من فظائع، وما سمح به ورعاه من إرهاب القاعدة، كابوسا لا يزال يخيف المثقفين المستنيرين من رعب الدولة الدينية. يشبهه في ذلك الكابوس الذي اقترن بحكم الجنرالات الذي شاع في العالم الثالث، وبخاصة أمريكا اللاتينية. وقد شاهدنا صورا منه في العالم العربي، اتفقنا علي تسميتها بالدولة العسكرية، وذلك منذ أصدر أنور عبد الملك كتابه مصر مجتمع يحكمه العسكريون بالفرنسية سنة.1962 وقد ظلت الدولة المحكومة بالعسكريين مناهضة للديمقراطية، غير عابئة بشيء سوي احتكار السلطة والثروة، كارهة للدستور والانتخابات النزيهة، فهي التي اقترنت بتزوير الانتخابات وصياغة دساتير علي هواها، ممارسة أشكالا من التمييز، اقترنت برفض الاختلاف بكل أشكاله، واعتقال المعارضين من كل اتجاه. ولم يكن الدين لدي هذا النوع من الدولة سوي وسيلة تحقق المبدأ القديم الملك بالدين يبقي، والدين بالملك يقوي أقصد إلي تأويل الدين لمصلحة النخبة العسكرية القائمة. وهو الأمر نفسه الذي يحدث في نموذج الدولة الدينية التي تحتكر السلطة والقوة والثروة في المجتمع علي أساس من تأويلات دينية تبرر مصالحها المادية اقتصاديا واستبدادها المطلق سياسيا. هذان النقيضان الكارثيان كانا وراء صياغة النخبة المصرية والعربية مفهوم الدولة المدنية الحديثة بوصفه سفينة النجاة التي تنجو بالوطن من شرور الدولة الدينية وكوارث الدولة العسكرية. ولكن البعض لايزال يتوهم أن الدولة المدنية الحديثة نموذج واحد، موجود في العالم الغربي الرأسمالي الممتد من أوربا إلي الولاياتالمتحدة. ولكن تجارب العالم الآسيوي الجديد، صنعت نموذجا موازيا للدولة المدنية الحديثة، موجودا في اليابان والصين وماليزيا، وامتدادا إلي تركيا. هذا النموذج أكد أنه يمكن لحزب ذي صبغة دينية( سماوية أو غير سماوية) أن يؤسس دولة مدنية حديثة، لا يكون الدين عائقا لها بحال من الأحوال. والنموذج الأوضح لذلك هو نموذج ماليزيا مهاتير محمد. هذا الرجل الذي قاد الحزب المعبر عن الأغلبية المسلمة، واستطاع أن يبني نموذجا آسيويا لدولة مدنية حديثة، دينها الإسلام. ومن الواضح أن التجربة الماليزية كانت في ذهن قادة حزب العدالة والتنمية التركي الإسلامي الصبغة، إذ مضوا في بناء نموذج تركي لدولة مدنية حديثة. ولكن نجاح مهاتير محمد من ناحية وجول وأردوغان من ناحية ثانية، في تأسيس دولة مدنية حديثة، يرجع إلي أنهم عندما وصلوا إلي الحكم تركوا الموروث الديني بكل خلافاته الفقهية والتأويلية، وتقبلوا القواعد والمبادئ المجردة للدولة المدنية الحديثة، وهي قواعد ومبادئ لا تستند إلي نصوص دينية مباشرة أيا كانت صفتها المذهبية، ولكنها ليست خارجة- في التحليل النهائي- علي المبادئ الكلية، ليس للدين الإسلامي وحده، بل لكل الأديان. وهو الأمر الذي يمكن أن نجد ما يماثله- والقياس مع الفارق- في الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا أو الحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا، فكلا الحزبين يعلم- ويقبل بداهة- أن عليه التخلي عن صفته الدينية بمجرد أن يتولي حكم الدولة المدنية في بلده. وكلاهما يعلم أن الدولة بمعناها التجريدي لا دين لها، وأنها أشبه بماكينة ضخمة تعتمد علي آلات وآليات ذاتية الحركة. وهدفها النهائي- في آخر الأمر- هو تحقيق السعادة لكل أبنائها، وذلك بما يلازم هذه السعادة من تجسيد وتحقيق قيم ومبادئ العدل والحرية والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطني علي السواء. وعندما أتحدث عن إمكان وجود دولة مدنية حديثة في بلد إسلامي، فقد كنت أعني ذلك علي وجه التحديد. وأضيف إليه علي سبيل التوضيح- ما نصح به أردوغان في زيارته مصر ولحلفائه الإخوان بألا يخافوا من العلمانية، واعترف بأنه مسلم دينا علي المستوي الفردي وعلمانيا في إدارة شئون الدولة. ولأن الإخوان لم يفهموا الشرط الحاسم لتأسيس دولة مدنية، فإنهم وضعوا جرثومة الدمار في حزبهم: الحرية والعدالة، فخلطوا بين الحكم والتمكين، وبين السياسة والتديين، وبين إدارة دولة شبه مدنية وأخونة هذه الدولة، فكانت النتيجة أن تسلطوا، وانفردوا بالحكم، وتجاهلوا وجود قوي سياسية مغايرة لهم في الوطن، وهي شريكة لهم بحكم المواطنة، وفي ظل الشروط الديمقراطية التي عصف بها الإخوان، فسعوا إلي تفكيك الدولة، وتحويل مصر إلي إمارة، يبدأ منها حلم الخلافة الذي تهوسوا به، وكانت النتيجة الفشل الحتمي في إدارة الدولة، وإثارة غضب الملايين الذين تحولوا إلي معذبين في الأرض، فكانت ثورة30 يونيو عقابا لهم، واسترجاعا للوطن الذي حاولوا سرقته، وتدنيس قداسة ترابه الوطني. وليست هذه النهاية خاصة بالإخوان وحدهم، بل هي قابلة لأن تنطبق علي عنق أي حزب ذي صبغة دينية، يحاول أن يعبث أو يتحايل علي أحد المبادئ الأساسية التي لا تقوم من دونها الدولة المدنية الحديثة، وهو فصل الدين( كما يتأوله هذا الفصيل أو ذاك) عن السياسة التي هي مدنية بالضرورة. "الأهرام"