استيقظت جدران عمارات وبنايات شارع طلعت حرب المؤدي إلى الميدان المتنازع عليه وهي تئن تحت وطأة عشرات اللاءات ومطالبات الرحيل وتوعدات الانتقام ووعود الإسقاط وتلويحات القصاص وتهديدات الثوار. كانت ليلة ليلاء، لكن متوقعة. وبدت شمس الصباح متوترة، لكن متحسبة. فالميدان حيث كانت الثورة وبعدها أمواجها القابلة للركوب وبينهما مليونياتها العارضة للعضلات السياسية حيناً والدينية أحياناً اتخذ عدته وشحذ قوته واستلهم قدرته ويقف حالياً مستعداً لإعادة كرة الزاحفين واستقبال جموع المحتفلين واحتواء قوات المؤمنين لجموع الشعب سواء كانوا من الزاحفين أو المحتفلين. ميدان التحرير الذي شهد ليل أول من أمس الجولة الأولى من المحاولات «الإخوانية» المستميتة للسيطرة عليه زحفاً كان شاهد عيان على انطلاق النفير العام مجدداً مطالباً شباب الشرعية وطلاب الشريعة بالصمود والثبات والمحاولة مراراً وتكراراً لاحتلال، أو باللغة «الإخوانية» استعادة السيطرة، على رمز الثورة. الميدان الذي أوصله «ثوار يناير» إلى العالمية وتعرض على مدى عامين ونصف العام لمحاولات متكررة ومتنوعة للاحتلال والغزو والتشويه والخطف والامتهان بات ميدان الصراع المقبل بين الشعب و «الإخوان»، فكلاهما يدعي أحقيته في الملكية وجدارته بملء «الصينية». مباراة ليل أول من أمس التي حلم «الإخوان» بالفوز بها حتى تؤهلهم للقاء القمة يوم 6 الجاري، انتهت ستة - صفر لمصلحة الشعب. ستة دقائق هي مجموع الوقت الذي تمكن خلاله فريق «الإخوان» من البقاء في الميدان، وهي الدقائق التي أسفرت عن دفاع فطري عن أرض المعركة من قبل جموع الباعة الجوالين بإيعاز ودعم من أصحاب المتاجر الذين عانوا الأمرين طيلة موجات ركوب الثورة العاتية التي أغلقت الميدان مرة برفع رايات الجهاد، ومرة بالتلويح بأعلام «الإخوان»، ومرة ببسط سيطرة الطرف الثالث على الصينية رمز الصمود ومعقل التحدي. دفاع الباعة الفطري عن الميدان عضدته قوات الأمن المستنفرة منذ أيام تحسباً لدعوات أنصار «الشرعية والشريعة» واستجابة طلاب محبين للجماعة وأخوات متيمات ب «الإخوان» وكانت النتيجة طرداً سريعاً من قلب الميدان. واتباعاً للعادة «الإخوانية»، جاء الطرد السريع والمقت الرهيب والدفاع العتيد عن الميدان من شر جماعة «الإخوان» معنوناً في أدبيات وتغريدات وتدوينات رافعي الأصابع الأردوغانية باعتباره «نصراً عظيماً» و «فتحاً مبيناً» و «كسراً أكيداً» لحاجز الخوف. حاجز خوف «الإخوان» من الاقتراب من ميدان التحرير لم ينافسه سوى حاجز الكراهية الآخذ في النمو في نفوس المصريين تجاه «بتوع رابعة» المتهمين شعبياً بأنهم أناس يعانون فقدان بوصلة التفكير وافتقاد ملكة التدبير وافتقار القدرة على التصديق. بائع الجرائد الشهير في أول ميدان التحرير أفرد قسماً خاصاً لبيع صور ملونة، وملصقات مزركشة، وسلاسل متنوعة تحمل صور وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي. يقول: «هذا الركن ليس حباً في السيسي بقدر ما هو نكاية في بتوع رابعة. أعرف تماماً مفعول صورة السيسي المدمر عليهم. شيء ممتع جداً أن تشاهدهم وهم يحاولون دخول الميدان ظانين إنهم متخفين مموهين». شارع طلعت حرب نضح صباح أمس بقصص وحكايات يشوبها الكثير من الضحك. وبين مؤكد إنهم (الإخوان) رغم حلق لحاهم الخفيفة وإخفاء شعاراتهم المقيتة واصطناع قدومهم في فرق صغيرة إلا أن أمرهم مفضوح وشكلهم معروف، وملوّح بأن «أول ما تلاقي الواحد من دول بدأ يتحسس بلاط الرصيف تتأكد أنه إخوان يستعد للجهاد بإلقاء الطوب»، ومرجح أن يتعرض الميدان لجولات شبيهة على أمل أن تسهل عليهم لقاء القمة يوم 6 الجاري وذلك بالتعرف الى أرضية الميدان وطبيعة جنباته وتركيبة مداخل عماراته، في إشارة خبيثة إلى عدم معرفتهم بميدان الثورة عكس ما يشيعون بأنهم «ثوار يناير»، يصول الشارع ويجول في حكايات عما جرى وتكهنات عما سيجري. ويجري حالياً على قدم وساق وضع الرتوش النهائية على إحدى السبل الإبداعية التي تنضم إلى جهود «الربعاوية» من أنصار الجماعة ومحبيها في محاولة لعودة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى القصر وكسر الانقلاب ومحاكمة «الكلاب». أحدث الإبداعات هو قناع «رابعيتا» المستنسخ من قناع «فانديتا» - الملقب «إخوانياً» ب «بانديتا» - لكنه بوجه أصفر مبتسم مزود بأربعة قرون تعتلي الرأس في إشارة إلى «رابعة» رمز الصمود والشرعية. «شرعية الميدان أقوى من شرعية الإخوان» تلوح على جدار يجلس أمامه بائع أجهزة نقالة مضروبة. يشير إلى العبارة ويقول: «الأيام دول. كتب أحدهم هذه العبارة حين سيطر «الإخوان» على مجلس الشعب، وحاولوا أن يلغوا شرعية الميدان. وها هم الآن يحاولون التمسح بشرعية الميدان، لكن هذه المرة يقف الشعب نفسه لهم وليس مجلسه». وحيث يجلس ضباط الشرطة بأعداد كبيرة في جنبات الميدان وأمامهم سيارات غفيرة للأمن المركزي تحسباً لشغب هنا أو لغط هناك، يمر المارة من أمامهم مشيرين لهم بعلامة النصر أو معضدين لهم بعبارات شعبية مثل «ربنا معاكم» و «كلنا معاكم» في مشهد عجيب لو ورد في فيلم سينمائي قبل عام واحد لاعتبره الجمهور شكلاً من الهزل أو ضرباً من الخيال. فالشرطة التي اختار «ثوار يناير» أن يطالبوا بإسقاط النظام في يوم عيدها الموافق 25 كانون الثاني (يناير) 2011 في إشارة واضحة إلى فساد نظام حور جهاز الشرطة لخدمة أركانه وحماية أفراده، باتت اليوم في نظر كثيرين «شرطة الشعب» التي تؤمنه وتحميه في غزوة التحرير. قرار جماعي غير معلن اتخذته قطاعات عريضة من المصريين بتأجيل الحساب وتأخير العتاب إلى حين زوال الغمة. وبين غمة «الانقلاب» وغمة «الإخوان»، ينتظر الميدان وشوارعه المحيطة ما ستسفر عنه الساعات المقبلة المؤدية إلى «يوم النصر». وبين حلم احتلال الميدان إيذاناً بانتهاء «الانقلاب» ونية حماية الميدان وتأكيد زوال «الإخوان»، تصدر أنات مكتومة عن جدران شارع طلعت حرب. ملصقات اعتلت بعضها بعضاً تركت كولاجاً سريالياً يحوي مطالبة برحيل حسني مبارك، ووعيداً لمجلس عسكري، وتأييداً لمرشح رئاسي خاسر مصحوباً بشطب على وجه مرشح «إخواني» ناجح، وتنشيطاً لحشد «إخواني» وتجييش سلفي و «تمرد» مصري، وأخيراً وبعد ليلة ليلاء أول من أمس لعنات مرشوشة «سيسي خاين» وأخرى مكتوبة «سيسي قاتل» وأمامها تجارة رائجة من صور وملصقات وقمصان عليها صور السيسي تندرج تحت بند «سيسي-مانيا» (ولع السيسي).