تحدٍّ كبير ذاك الذي أقدمت عليه المخرجة المغربية ليلى مراكشي حين اختارت 3 ممثلين عربا بارزين للمشاركة في فيلمها الجديد «روك القصبة». إن الفيلم يسجل لمراكشي أنها فازت بالممثل المصري الكبير عمر الشريف الذي أدى دورا كان فيه الغائب ذا الحضور الطاغي. أما عنوان الفيلم فمأخوذ من أغنية قديمة بالاسم نفسه لفريق الروك الإنجليزي «كلاش»، تعود إلى ثلاثين سنة خلت، تفتتح بها المخرجة فيلمها بينما تحلق الكاميرا فوق شواطئ طنجة ورمالها المزدحمة بالسابحين، بلباس البحر أو بالقفطان. في عرض خاص للفيلم جرى في معهد العالم العربي في باريس، بحضور رئيسه جاك لانغ وزير الثقافة الفرنسي الأسبق، قدمت مخرجة الفيلم وطاقمه نبذة عن العمل الذي بدأ عرضه في الصالات هذا الأسبوع. إنه إنتاج فرنسي قدمت فيه شركة «باتيه» حصة كبيرة ولا علاقة له بفيلم إسرائيلي يحمل العنوان نفسه نزل إلى العرض، مؤخرا. يمكن إيجاز الحكاية بأنها لحظة المواجهة التي تعيشها عائلة لحظة وفاة كبيرها، تاركة زوجة و3 بنات شابات، الأمر الذي يجعلهن عرضة لطمع العم في التركة، قبل أن نكتشف أن للراحل ولدا من الخادمة التي تقيم مع الأسرة منذ عقود. وتؤدي الممثلة الفلسطينية القديرة هيام عباس دور لالا عايشة، الزوجة التي تكتم سر زوجها وتقبل بأن تشاركها امرأة أخرى فيه، حتى لو كانت خادمتها، لأنها أحبته وتريد أن تحافظ على بيتها من التصدع. كما تقوم الممثلة والمخرجة اللبنانية نادين لبكي بدور مريم، الابنة المهمومة بعمليات التجميل دون أن تجد اهتماما من زوجها. وهي تقول في أحد مشاهد الفيلم: «أنفقت 200 ألف درهم على الأشغال التي لم يستفد منها أحد... جملت صدري وبطني وأسناني لأنني لا أريد أن أكون مثل جدتي... عجوزا». لعل هناك من سيجد في الفيلم تصويرا لمجتمع نسائي يتمرد على التقاليد ويسعى لخوض حياة مختلفة. لكن العائلة التي يراها المشاهد لا تصلح لهذا الطرح لأن بناتها يملكن من الفرص ما يسمح لهن بتحقيق ذواتهن، ماديا وعاطفيا. أما الأب الذي من المفترض أن يكون بطريركا مسيطرا يتحكم في مصائر نسائه وبناته، فقد تجلى في الفيلم رجلا ودودا، ذا طبع فكاهي، عاشقا للحياة، فيلسوفا ومتفهما وأبا تتمناه كل بنت. ولعل الممثل المصري قلب الطاولة على السيناريو حين ارتأى أن يؤدي الشخصية بهذا المفهوم، لأنه الأقرب إلى مزاجه وخبرته الفنية والحياتية. يبدأ الفيلم بعمر الشريف وبه ينتهي، إنه رب عائلة مغربية من البرجوازية العليا، يشاء لها القدر أن لا تجتمع بكامل أفرادها إلا في جنازته. وهو الأب المتوفى الذي يتفرج، بكثير من الخفة والحكمة واللامبالاة، على نفسه وهم يغسلونه ويكفنونه ويقرأون الأدعية على روحه ويحملونه إلى المقبرة لكي يوسدوه التراب. والحق أن الأمر يتطلب كثيرا من الشجاعة لممثل تجاوز الثمانين أن يؤدي دور عجوز تقام له كل طقوس الموت، بشكل سينمائي خيالي يشبه التمرين على ساعة آتية لا ريب فيها. وللخروج من هذه الورطة لعب السيناريو على التماهي بين الحقيقة والخيال، فكنا نرى الميت يغادر دوره المنطقي ويأتي من وراء ستار شفاف لكي يتحدث مع حفيده الصغير الذي تسلل إلى الغرفة التي يرقد فيها الجثمان، تمهيدا لدفنه. كما نراه يجلس على صخرة ويتفرج على المشيعين وهم يدفنونه، أو يتجول في حديقة قصره في طنجة لكي يقطف لحفيده ثمار التين قائلا له إنها أول شجرة يزرعها في ذلك الروض الفاتن. ورغم أن مشاهد عمر الشريف في الفيلم تعد على أصابع اليدين، فإنه محور الأحداث والأب الذي هيمن على مقدرات امرأتين تعلقتا بحبه، و4 بنات كانت له الكلمة في مصائرهن، هربت منهن واحدة تدعى ليلى، لتموت في لندن، ثم نكتشف أنها كانت حبلى من ابن خادمة العائلة، وتزوجت صوفيا ومريم وظلتا مع زوجيهما في البيت الكبير، وسافرت كنزة إلى الولاياتالمتحدة لتعمل في التمثيل وتتزوج أميركيا وتنجب ابنا منه. إنه فيلم ناطق بثلاث لغات: العربية، بلهجتها المغربية، والفرنسية والإنجليزية. وفي المنشور الترويجي للفيلم تشرح المخرجة أن التعبير بعدة لغات يعكس الانفصام الذي تعيشه تلك العائلة التي تتمتع بمزايا أتاحت لها توسيع نظرتها للعالم. إن أفرادها يفكرون بالفرنسية ويتخاطبون بالعربية ويحلمون بالإنجليزية. ويعكس تعدد اللغات، أيضا، التركة الثقافية والكولونيالية لطنجة في القرن الماضي. نجحت المخرجة في اختيار موقع التصوير. وهي تقول إنها استوحت فكرة الفيلم من لحظة وفاة عم لها في الدارالبيضاء وحضورها أيام العزاء الثلاثة هناك، لكنها لم تعثر على منزل يصلح لاحتضان فكرتها هناك، فاختارت هذا القصر الطنجاوي البديع المشيد على النسق الكولونيالي، لا على نمط الرياض أو البيوت المغربية التقليدية. ويمكن القول إنه شخصية حاضرة ومؤثرة في سياق القصة مع شخصيات الفيلم، حيث استغلت المخرجة شرفاته وباحاته وغرفه الواسعة والشمس التي تغمر حديقته لكي تعكس الدعة التي تطبع الحياة في تلك البقعة، بخلاف الزحام الذي جاءت منه كنزة (تقوم بالدور الممثلة لبنى الزبال التي حققت نجاحا في السينما الفرنسية)، الوحيدة من بين بنات العائلة التي تجرأت وخرجت على المسار المقرر لها وسافرت إلى الخارج لتجرب حظها في الفن. أما ابنها الذي يحمل اسما أميركيا فهو الحفيد الذي يثير غضب الجدة لأنه لا يتكلم العربية، لكنها تحنو عليه وتتوصل إلى لغة مشتركة بينهما. ومن أجمل مشاهد الفيلم تلك الصداقة المفترضة التي تنشأ بين الحفيد وجده الميت. إنهما يتبادلان نظرات الارتياب في البداية، ثم يتآلفان ويلعبان سويا ويمزقان حاجز الرهبة بين طفل وبين جثة مكفنة وموضوعة فوق أكياس من الثلج. وهكذا نسمع عمر الشريف يقول للطفل: «أنا جدك يا ولد... وقد كان يجب أن أموت لكي أتمتع بلقياك». منذ اختيار يوسف شاهين له لبطولة «صراع في الوادي» عام 1954، أمام فاتن حمامة، أنجز ميشال ديمتري شلهوب، المعروف بعمر الشريف، 80 فيلما في مسيرة حياة حافلة امتدت 80 عاما. لقد أدى أدوارا لشخصيات من مختلف الجنسيات والأصول، لذلك كان في منتهى الإقناع وهو يرتدي القمباز الأبيض ويقوم بدور مولاي حسن بن عمور، الرجل المغربي الذي ورث أراضي واسعة وثروة أنفق الكثير منها على اقتناء السيارات النادرة والثمينة. إن عمر الشريف يؤدي الأدوار الصغيرة، أو القصيرة بالأحرى، بالشغف ذاته الذي أدى به دور الدكتور جيفاكو، قبل نصف قرن تقريبا، ونال عنه «الغولدن غلوب». ويمكن القول إن خبرته الطويلة ومسيرته التي اقترنت بأسماء كبار مخرجي القرن العشرين باتت تسمح له بأن «يتسلى» في أدائه ويقدم الشخصية من منظوره الخاص، مثل لاعب أو مقامر يستند على رصيد عالٍ. أما هيام عباس، الممثلة ذات الملامح الحادة والقوة الخفية النابعة من الداخل، فقد قدمت دورا لا يفترق كثيرا عن شخصيات سبق لها تقديمها، أي المرأة التي تكابر، رغم الطعنات، ولا تتنازل عن عنفوانها. وقد كان للدور أن يرتقي بالفيلم كله إلى مصاف التراجيديات العائلية المؤثرة، المستورة والسرية، التي تكفي وخزة صغيرة لكي تفضح تعقيداتها. لكن المخرجة فضلت أن تنهي الفيلم نهاية مفاجئة تختفي فيها النزاعات، بعصا سحرية، فتختفي مطامع العم ويحضر الصهر الأميركي على أقرب طائرة وتعود كل بنت إلى أحضان زوجها ويعترف الجميع بالابن غير الشرعي وتبقى والدته الخادمة في قصر العائلة، بدل أن تنفذ الزوجة قرارها بطردها، كأنهم جميعا كانوا ينتظرون موت العجوز لكي يتصافوا ويعيشوا حياة سعيدة.