ربما ينظر كثيرون إلى الحُكم القضائي الأميركي الذي ألزَم موقع «فايسبوك» بدفع تعويضات إلى مستخدميه تعويضاً عن استخدامه معلوماتهم الشخصيّة من دون إذنهم، تصديقاً لشكوك متطاولة عن سلوك مواقع الشبكات الاجتماعية. وفي مختتم شهر آب (أغسطس) الفائت، أصدر القضاء الأميركي حكماً قضى بأن يدفع «فايسبوك» عشرين مليون دولار إلى مستخدمين رفعوا دعاوى قضائية ضد ذلك الموقع استناداً إلى شكوكهم بأن «فايسبوك» لا يحترم خصوصيّة معلوماتهم الشخصيّة، بل يبيعها لشركات الإعلانات من وراء ظهورهم. وعلى رغم أن بيع المعلومات الشخصيّة شمل 120 مليون مستخدم، إلا أن القضاء ارتأى أن مجموعة قليلة من هؤلاء هي التي رفعت دعاوى قضائية، ما يجعل المبلغ كافياً لتسوية هذه القضية. أضافت هذه الحادثة بعداً آخر إلى مسألة سلوك الأفراد في العصر المعلوماتيّ. هل يجب أن يكثروا من وضع معلومات شخصيّة عنهم في مواقع الإنترنت، أم أجدر بهم التكتم؟ وفي الحال الثانية، لماذا استخدام المواقع الاجتماعية؟ ما معنى الظهور على الشبكة العنكبوتيّة؟ وما هو الفارق الذي يصنعه إذا ارتبط النشاط على الشبكة مع التكتم والإخفاء والتستّر، وهي مفاهيم تناقض الصورة الشائعة عن تلك المواقع وضرورتها؟ علم الاجتماع والإنترنت لا تمثّل الأسئلة السابقة إلا جزءاً من نقاش عميم، بل إنه مألوف تماماً، عن السلوك الرقمي. وازداد تعقيداً بعد الفضيحة التي فجّرها خبير المعلوماتيّة الأميركي إدوارد سنودن، بكشفه أن السلطات الرسميّة الأميركية تمارس تجسّساً واسعاً على مواطنيها، بل على مواطنين وحكومات في دول حليفة لها، إضافة إلى تلك التي تُعاديها! بدهي القول إن مسألة السلوك المعلوماتيّ هي أشد تعقيداً من الكلمات السابقة، بل إنها تشمل أبعاداً نفسيّة واجتماعية وثقافية متشابكة. من الناحية النظرية، يمكن القول إن السلوك المعلوماتيّ Information behavior من أكثر نواحي البحوث ثراءً في مجال علوم المعلوماتيّة المعاصرة. ومن المستطاع رصد بداية الاهتمام بهذا السلوك في الأعمال الأدبية التي تلت 1978، إذ سُلّط الضوء عليه في الأعمال النقدية للكاتبتين الأميركيتين ديرفين ونيلان في عام 1986، التي تعطي نموذجاً من الجهود الحثيثة التي بُذلت لصوغ نظريات جديدة عن السلوك المعلوماتيّ للبشر. وترافق ذلك مع تغيير في طريقة التفكير التي انتقلت من الاهتمام بالنُظُم الرقميّة (مثلاً: دراسة الكاتب الشهير نعوم شومسكي «عالم واحد، نظام تشغيل واحد» عن نظام هيمنة نظام «ويندوز» على عوالم الكومبيوتر) إلى تركيز النظر على الكائن البشري الذي يستخدم المعلوماتيّة. فمع التغيير في طريقة التفكير عند اختتام القرن الماضي، أولى الباحثون اهتماماً متزايداً بالمستخدم وخصائصه. واعتُمِدَت مقاربات مختلفة لدراسة السلوك المعلوماتيّ لدى مجموعات بشريّة متنوّعة. كذلك طُوّرَت منهجيات جديدة بالاقتباس من حقول أخرى، مثل العلوم الاجتماعية. بيد أن غالبية الأعمال في هذا المجال ما زالت متناثرة. وباتت الحاجة مُلِحّة إلى ضمّ ذلك المتناثر من الأعمال في دراسة مجملة. ويُعتبر كتاب «نظريات عن السلوك المعلوماتيّ»Theories of Information Behavior الذي ألّفَه كارين فيشر وساندرا إرديليز ولين ماكشني، طليعيّاً في تقديم نظرة شاملة إلى معظم النظريات البارزة عن السلوك المعلوماتيّ وهيكلياته الأساسيّة. ووُضِعَ هذا الكتاب ليشكّل دليلاً للباحث. ويتناول بعض النظريات والمناهج المبدئية الأساسية. ويعرض لبعضها القديم، على غرار «نظرية المنطق» التي فكّرت فيها ديرفين، ويُقدّم أيضاً النظريات الأكثر جدّة مثل مبدأ الآفاق المعلوماتيّة. ويضمّ هذا الكتاب 75 فصلاً سطرها 85 عالماً ذائعو الصيت من 10 دول مختلفة. وتتميّز الفصول الثلاثة الأولى بطولها وبكونها تمهيدية إلى حد الكبير. ومثلاً، يقدّم الفصل الأول نظرة شاملة إلى بعض المبادئ النظرية الأساسية في بحوث علم المعلومات والأرشفة والمكتبات. كما يستخدم الأمثلة لتحديد 3 محاور يراها مهمة، هي: «نظرية المنطق» و «النظريات المتعددة» و «النموذج المعلوماتيّ». ويستعرض الفصل الثاني المنهجية التي تسير عليها «نظرية المنطق». ويرسم الفصل الثالث، تطوّر نموذج السلوك المعلوماتيّ الذي طوّر في العقدين الأخيرين. ويساعد الفصل الأول على فهم المبادئ النظرية في هذا المجال وتشعّباتها. فيما يشكّل الفصلان الثاني والثالث مرجعاً مفيداً للقراء الراغبين في معرفة المزيد عن المنهجية وعملية إطلاق النظريات المتصلة بالسلوك المعلوماتيّ. تأمّل عن سلوكيات مُعاصرة تشكّل بقية الفصول غالبية الكتاب. وتستعرض الأعمال النظرية في هذا المجال. إذ رُتّبَت وِفْقاً لحروف الأبجدية. وتشمل عناوينها «الحمولة العاطفية» و «البحث عن المعلومات على الشبكة العنكبوتية» و «سلطة التواصل الشبكي» وغيرها. ويسلّط كل من هذه الفصول القصيرة الضوء على مبدأ أو نظرية أو نموذج سلوك معلوماتيّ مُحدّد. وتحترم هذه الفصول الهيكلية التي تتناول وصف النظرية وأهدافها والإيحاءات المنهجية وفوائدها. كذلك يتناول الكتاب مبادئ متنوّعة في هذا الحقل المعرفي الحديث. ويُبرز أيضاً نماذج عن السلوك المعلوماتيّ (يرصد كل منها كاتب منفصل) ونظريات حوله، مثل «النظرية البيئية للسلوك المعلوماتيّ البشري» و «الانتشار المعلوماتيّ» و «التمَوْضُعْ الاجتماعي» و «استجابة القارئ الإلكترونيّ» و «البحث الأمثل» و «القلق في المكتبة» و «نظرية التدفّق» وغيرها. ويُضاف إلى تلك القائمة مبادئ متنوعة مثل «مصادفة المعلومات» و «وقت الفراغ الجدّي». ويخلص الكتاب في فصله الأخير إلى نظرية شاملة عن السلوك المعلوماتيّ في بيئات مختلفة. وتجدر الإشارة إلى ميزة لافتة في الكتاب هي هيكليته العامة، إذ يهتم بوضع فهرس فعّال في نهايته، يساعد في جعل الكتاب مرجعاً مفيداً. ويستهدف هذا الكتاب الشيّق الباحثين ممن ينشطون في مجال دراسة السلوك المعلوماتيّ. واستناداً إلى هيكليته وتنظيمه، يمكن استخدامه مرجعاً لحاملي الشهادات العليا والطلاب المختصّين في مجال البحوث الاجتماعية والمعلوماتيّة. وكذلك تشكّل المراجع الواردة في نهاية كل مداخلة، دليلاً يساعد السائلين على الوصول إلى المزيد من مواد البحث المُفَصّلة. ونظراً إلى أن الكتاب استهدف مجتمع البحوث، يكمن النقد الصغير الأساسيّ الموجّه إليه، في عدم تقديمه معلومات منهجيّة كافية في بعض المداخلات. وفي المقابل، يحتوي الكتاب عدداً كبيراً من المراجع، ما زاد من حجم الكتاب وإمكان استعماله دليلاً في البحث، وعدم الاكتفاء باعتباره مصدراً للمعلومات عن السلوك المعلوماتيّ. ونسبيّاً، تعوّض تلك الميّزة الأخيرة عن بعض التقصير في جمع المعلومات. ويبدو كذلك أن عدداً من المراجع البارزة جرى تجاهلها في بعض المداخلات. ففي الفصل الذي يتناول «مقاربة المجال التحليلي»، ثمة إغفال لذكر إحدى المقالات البارزة لهجورلاند الذي عرّف العالم بهذه المقاربة. وعلى رغم العدد الكبير من المساهمين في هذا الكتاب من بلدان مختلفة، ما يعني ضمناً أنه سيحتوي على مجموعة مختلفة من أساليب الكتابة، فإن العمل التحريري الجيّد جعل أسلوب الكتابة متماسكاً وواضحاً. لتلخيص ما ورد، يمكن القول إن هذا الكتاب يقدم نظرة شاملة عن عدد من الهيكليات المبدئية التي تساعد على فهم سلوك الناس المعلوماتيّ وتفسيره، بما في ذلك حاجات الناس إلى المعلوماتيّة، والعلاقات التي تتولّد نتيجة بحثهم عن المعلومات، وكذلك النشاطات المتصلة باستخدام المعلومات. كما يشكل كتاب «نظريات عن السلوك المعلوماتيّ» مصدر معلومات ضرورياً لأولئك الذين يرغبون في التعرّف إلى أسس البحث النظرية في هذا المجال الحديث.