نسى أو ينسى أو يتناسى المصريون هذه الأيام مطلب «العيش»، وأغمضوا أو يغمضون أو جاري إغماض أعينهم عن أمل «الحرية»، وصبروا أو يصبرون أو يحاولون الصبر على حلم «العدالة الاجتماعية». فالدنيا أولويات، والأيام دول، والحياة اختيارات. وهم يعلمون علم اليقين أنهم باتوا في مواجهة خيارين لا ثالث لهما: الدولة أو اللادولة، الوطن أو الدويلات والإمارات والتفتيتات، النظام أو الفوضى الخلاق منها والعقيم، الجيش أو الميليشيات، قمع الإرهاب وما حوله أو حرب شوارع. ويشير المشهد الحالي إلى أن الخيار الشعبي يميل ميلاً فطرياً واضحاً منزهاً عن الأيديولوجيات ومترفعاً عن النعرات ومنزوع التوجهات تجاه الدولة وإن كانت عميقة أو فاسدة أو حتى فاشلة، والوطن وإن كان قاسياً أو مرهقاً أو حتى حارقاً، والنظام وإن كان قمعياً أو شمولياً أو حتى ديكتاتورياً. حسم المصريون من غير الإسلاميين أمرهم. معظم من كان يصرخ بالأمس القريب «يسقط يسقط حكم العسكر» صمت اليوم وبعضهم يهتف بالصوت العالي «الشعب والجيش يد واحدة»، بل ويعرف في قرارة نفسه أنه لو عادت مصر أدراجها إلى حكم شبه عسكري أو شبه شمولي، أو شبه ديكتاتوري، فهو أرحم وأحن وأفضل من حكم ديني سيأخذه إلى الجنة حتماً، إن لم يكن عبر الإتجار بالدين والتدليس باحتكار الهدى والحق، فباستحقاق جنة الخلد لفرط عذاب الدنيا في ظل الفاشية السياسية الملتحفة بالدين. لسان حال كثيرين يشير إلى أنه لو كانت الأقدار حتمت عليهم المفاضلة بين المر والأمر منه، فالتصويت بغالبية كاسحة ساحقة من نصيب المر. محمد بائع جوال بحسب التصنيف الاقتصادي ثابت بحسب التوصيف الجغرافي حيث يكاد ينافس محطة القطار العريقة في ثباته في ميدان رمسيس. يقول محمد بحدة بالغة ووضوح صادم: «لا سيسي ولا إخوان ولا أوباما ذات نفسه. مصر للمصريين والشوارع لنا. تقول لي قال الله وقال الرسول جاهد في سبيل الله، أقول لك جاهد هناك بعيد عن هنا. تقول لي أميركا قالت، أقول لك تقول كما تريد على نفسها. ولو رست على عودة مبارك، أقول لك يا ريت». وكان له ما أراد. عاد الرئيس السابق حسني مبارك إلى دائرة الضوء بعد أشهر لم يمت فيها مرة واحدة كما اعتاد إبان حكم المجلس العسكري في 2011، وبعد أسابيع انصرفت خلالها أنظار الشعب عن محاكماته الأسطورية ونظاراته الشمسية وابتساماته الدرامية بإخلاء سبيله ووضعه تحت الإقامة الجبرية. هذه العودة لم تفتح الباب فقط أمام صراخ وعويل ناشطين على «الثورة التي كانت» و «يا ثورة ما تمت» و «الحلم الذي أجهض» و «مبارك الذي عاد»، ولم تضخ دماء الاستقواء فقط إلى جماعات «آسفين يا ريس» و «أبناء مبارك» و «فلوله»، لكنها فتحت الباب أمام أذناب جماعة «الإخوان» وحلفائها لمحاولة جمع جزيئاتهم ولم فتاتهم لركوب الموجة الثورية الغاضبة من خروج مبارك وإعادة مشاهد النصف الثاني من «ثورة يناير» بعد انضمام «الإخوان» إلى الثورة على رغم أنها وصمتها بكثير من النعوت في بداياتها ورفضت مع إسلاميين آخرين الخروج على الحاكم. الخروج على الحاكم ليس وحده المتأرجح في مصر بين الحرمانية والشرعية، فالمتأرجحات كثيرة والثوابت قليلة. وبدل المعارك الفرعية والمشاحنات العنكبوتية التي كانت تملأ الأثير على مدى الأسابيع الماضية بين مشككين في وطنية الجماعة ومخونين لضمائر المفوضين للجيش، وبدل الاقتتالات الشديدة بين أصدقاء ومعارف انقسموا حول فض اعتصام «رابعة العدوية» بين داعم لأي نوع من أنواع الفض لهذا «الاعتصام الإرهابي الدموي المكفر للآخرين المهدد للأمن العام» ورافض للفض العنيف مؤكداً ضرورة «الحنية» وحتمية «الطبطبة» من قبل قوات الأمن حتى وإن كان اعتصاماً ملوثاً بالعنف مدنساً بالقتل، تحولت دفة الجدل وتغيرت وجهة النقاش صوب الطريق من «طرة» إلى «مصر الجديدة». بعضهم يطالب بإعادة محاكمة لمبارك، وآخرون يؤكدون حقه القانوني في إخلاء السبيل، وفئة ثالثة ترى أن الخسارة ليست فادحة، وأن المكسب الوحيد الذي تحقق من «ثورة يناير» هو كشف وفضح والقضاء على مشروع الإسلام السياسي وما يحمله من تفتيت ودماء وعنف يستحق التضحية، ومن ثم فإن محاربة النظام السابق وملاحقة «فلوله» باتت أهون وأسهل بعد انكشاف المدسوسين. لكن الغالبية العظمى، مع تفاوت درجات الغيظ والغضب والصدمة من خروج مبارك، تبذل جهداً إرادياً في تحويل دفة الاهتمام إلى ما هو آني. وتظل الحكمة الشعبية والخبرة الفطرية والمجسات الطبيعية هي صاحبة الصوت الأعلى في مصر على رغم أنف ناشطي «فايسبوك» وفاعلي «تويتر» ونجوم الفضائيات وتجار الدين ومنظري الشاشات وخبراء المراكز الحقوقية منها والتنموية. «أم هاني» زوجة صاحب الكشك الصغير في الشارع الفرعي قالت كلمتها وأعلنت موقفها بعدما احتدم نقاش مجموعتين من الشبان وقفوا يشترون زجاجات المياه. مجموعة «مبارك فاسد وخروجه لا يصح» ومجموعة «كان فاسداً لكن أرحم من مرسي» امتثلتا لقرارها الحكيم: «لا مبارك ولا مرسي ولا يحزنون. ربنا ينجينا مما نحن فيه الآن من إرهاب ودماء، ثم نبدأ الحساب من جديد على مياه بيضاء. أم الشهيد لن تنسى ابنها الذي مات في عهد هذا أو ذاك».