لم أترك ميدان التحرير إلا مع الساعات الأولي من صباح السابع والعشرين من يوليو الماضي. وكان وجداني وقتئذ، ولا يزال، ممتلئا بمشاهد اليوم الذي انصرم، وأنا وسط أمواج هذا السيل العرم من أبناء الشعب الذي أعادني إلي الثقة فيه استجاباته الوطنية الصادقة التي أتباعد عنها لأتأملها في هدوء وروية، بعيدا عن فورة الانفعالات الوطنية. وكان السؤال الأول الذي ورد علي ذهني: هل كان من الممكن أن تخرج هذه الملايين التي زادت علي الأربعين لو دعاها محمد البرادعي أو أي سياسي آخر غيره من جبهة الإنقاذ؟! بالقطع الإجابة بالنفي. ولكن لماذا السيسي؟! لأن الملايين رأته بحدسها الثاقب أهلا للثقة، ومثالا وطنيا للعزيمة والإرادة الحاسمة، ورمزا علي الإدارة الوطنية التي لا تقبل المهادنة أو أنصاف الحلول في سياق إيمانها بالحق، وما تعتقده محققا لمصلحة وطنها وحريته واستقلاله. ولذلك لم تكن هناك من صور في التحرير أو غيره من الميادين إلا للسيسي، ولعبد الناصر إذا أردنا الحصر. ولم توجد صور أخري لأحد من جبهة الإنقاذ أو لقيادات أخري غيرها من المجموعات السياسية التي أصبحت الجماهير تحركها وتوجهها، خصوصا بعد أن عجزت هذه القيادات عن تحريك الجماهير، أو دفعها إلي الحركة، وبعد أن استقر في وجدان الجماهير غربة هذه القيادات عنها وانقطاع خطوط الاتصال بين نخبة إصلاحية وجماهير تتلهب بنيران ثورة غضب تريد أن تنفجر. وجاء شباب تمرد بصدقه وعفويته وحركته المتصلة بالجماهير التي رأته في كل مكان علي أرض مصر، فوثق به الشعب ثقته في البراعم الواعدة من أولاده. واستجابت الأمة كلها إلي نداء تمرد; ووضع شباب تمرد الذين وثقت بهم الأمة خطة الطريق الصحيح إلي الديمقراطية الحقيقية، فقبلها السيسي وجيشه الذين جاءت استجابتهم علي قلب رجل واحد. ومضت خطة الطريق في التحقق التدريجي المؤكد. لكن أنصار الرئيس المعزول والمستفيدين منه في الداخل والخارج، قاوموا استكمال خطة الطريق ومضوا في تشويه الحقائق، وأسرفوا في دعاوي الباطل، ولجأوا إلي العنف والإرهاب، ونجحوا في تضليل قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي، وأشاعوا صورا مكذوبة عن ما هو حقا وصدقا ثورة شعبية حقيقية، وليست انقلابا عسكريا كما يدعي الضالون والمضللون( بكسر اللام وفتحها). وكان الادعاء علي قدر كبير من التخييل والإيهام بفضل أجهزة وخبرات إعلامية بارعة في التضليل، ولذلك اضطر الفريق عبد الفتاح السيسي للعودة إلي قائده الأعلي- الشعب- مرة أخري. وكانت الاستجابة مذهلة، حيث خرج إلي الميادين ما زاد علي الأربعين مليونا وليس الثلاثين. هذا عن الاستجابة. أما عن الإرادة السياسية فلم ترتفع إلي تحديات الموقف، ولم تستمد من حسم الناس حزم الإرادة وثورية الفعل، ولاتزال عاجزة عن تصحيح الصورة أمام الإعلام والمؤسسات الغربية والأمريكية، رغم أن لديها نائب رئيس جمهورية للعلاقات الخارجية محنكا، ووزير خارجية ممتازا، وهيئة استعلامات تعينها فضائيات تديرها أجهزة إعلام فقدت خبرة التعامل مع المجتمع الدولي والتأثير الفاعل فيه. ولا تزال هذه القوة الضاربة عاجزة عن مواجهة إعلام شراذم الإخوان وقناة الجزيرة. نعم، هناك تنظيم دولي للإخوان، وهناك حلفاء دوليون أقوياء للإخوان. لكن لدينا ما هو أقوي من ذلك كله، يتمثل في الحقائق التي لا بد من كشفها وتوضيحها توضيحا لا ريب فيه في كل مكان. ليس هناك انقسام بين شعب مصر، وإنما هي قلة منظمة، تدير عملياتها الإرهابية من ميدان رابعة العدوية والنهضة وشبه جزيرة سيناء. هذه القلة أو الأقلية ذ بلا فارق- لابد من إيقاف إرهابها: ترويعها للناس، قتل الأبرياء، استغلال الأطفال والنساء كدروع بشرية... إلخ، كل هذه أعمال إرهابية ولا حل لها سوي المواجهة الأمنية الثورية وتطبيق القانون الرادع بلا هوادة. ويجب أن يعرف الجميع أنه لا مصالحة مع إرهابي يحمل السلاح أو مع مجرم ارتكب جرائم قتل أو حرض عليها. أما من لم يفعل ذلك، ولم يرتكب جرما في حق هذا الشعب العظيم فمرحبا به في أي حوار وطني أو مصالحة وطنية. ومادمت قد وصلت إلي هذه النقطة فلابد من تحرير أسباب الصراع والخلاف. إن موضوع الصراع والخلاف سياسي أصلا، يرتبط بالحكم والوصول إلي كرسي السلطة. وهذه قضية سياسية مدنية وليست قضية دينية علي الإطلاق لذلك لابد من إغلاق هذه الثغرة تماما إذا أردنا مستقبلا ديمقراطيا واعدا لهذه الأمة. وهو فصل الدين عن السياسة، والنص علي ذلك في الدستور. ويتبعه ما يلزم عنه، وهو عدم تكوين أحزاب علي أساس ديني حتي لا تتكرر هذه الفتنة التي تقف الإدارة السياسية الحالية إزاءها مترددة مرتعشة اليد غير حاسمة. وهو أمر محسوب عليها وليس لها. وحتي لو نجحت في فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة; فقد أهدرت وقتا ثمينا بترددها وخوفها من ردود أفعال عالمية متوهمة في تقديري. ولذلك فإن المؤاخذة تظل باقية. ولايزال رأيي المتواضع قائما أن هناك بونا بعيدا بين الذين لم يتوقفوا عن مد الثورة بما لايزال يبقي علي وهجها المقدس، وهؤلاء الذين جيء بهم من منازلهم الآمنة ليكونوا أعضاء حكومة، لايزال أداؤها عاجزا مترددا في مواجهة تجمعات إجرامية إرهابية، الإدارة السياسية في المواجهة الحاسمة التي لا مفر منها، والتي لا أظن أنها ستنتهي بفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة; فالتحديات الخطرة لاتزال قوية علي كل المستويات، وهي تحتاج إلي إدارة سياسية بالغة الوعي سريعة الحسم. "الأهرام"