فنان آخر رحل عنا ودون سابق إنذار، اختار أن يرتاح من وعثاء سفر الريشة والكلمة مع أن الموت لا يقتل المبدعين، تجربة تشكيلية امتدت لأزيد من أربعين سنة من المسار الفني المتسم بالتمرد والتغيير والمراجعة النقدية والتفاؤل، تجربة ظلت ولا تزال تحلق في سمائها كل ألوان الطفولة والبهاء وخفة الروح وبهاء الألوان وعنفها الدلالي، مسار تشكيلي تبلور في حلقة تدعى بجماعة الدارالبيضاء، وكانت نواته حركة 65، أما الناطقة باسمه فكانت مجلة «أنفاس» التي كان يديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، أما محمد شبعة فهو أحد فرسان هذا الزمن الطليعي الثائر آنذاك، كزمن ظل يراهن على ثقافة وطنية تتوخى الحذر من ثقافة غربية تشبع بها وغيره من الفنانين، لكنه كان واعيا بضرورة تذويبها بالتراث الشعبي والزخرفي والموروث البصري القروي، لصنع تجربة تشكيلية تحمل مقومات الفن المغرب الأصيل، مقاومة كل أشكال التهجين والاستلاب التي تطول الإبداعات التقليدية والفن الشعبي. ويعد محمد شبعة من بين الفنانين المغاربة القلائل مثله في ذلك مثل القاسمي والمرابط، ممن عكسوا كلهم وبعمق الجدلية بين الثقافي والفني، ممهدا لفنه بفرش نظري وأساس عقلاني لم يظل أسيرا له، بل حلقت ألوانه بكل فرح وزهو وبراءة وطفولة، مؤمنا أن الفن التشكيلي سيظل معطوبا أجوف ما لم يصاحبه جدال ونقاش فكري يسلط الضوء على هفوات وثغرات يمكن أن تعوق تطوره واستمراريته ونضجه. لهذا ظل الفن التشكيلي عند محمد شبعة منفتحا على أسئلة قلقة كأسئلة الهوية والسياسة والمجتمع والعالمية، ومدى قدرة الفنان على مقاومة وحشية وعنف اليومي والخروج سليما معافى من عالم يفقد فيه الإنسان إنسانيته. لقد ظل محمد شبعة، رحمه الله، متحفظا وحذرا من الفطرية في الفن المغربي، مثلتها كوكبة أولى من الفطريين تضم أحمد الرباطي وعبد السلام بن العربي بن الفاسي والجيلالي بن شلان، ثم الشعيبية طلال فيما بعد، مما ولد رد عنيف لدى فنانين شباب في الستينات والسبعينات من بينهم محمد شبعة، اعتبروا الفطرية كحركة فنية شجعتها السياسة الاستعمارية وروجتها خارجيا، متوخية مسخ الإبداعات التقليدية والفن الشعبي وتشويههما، ملحا في الآن نفسه على ضرورة العودة للفن الشعبي القروي والفن التراثي المغربي العربي الإسلامي وفن الهندسة المعمارية. فبالإضافة لانشغالاته الفنية المتميزة، فقد كانت له تجارب بيداغوجية مثمرة بكل من مدرسة الفنون الجميلة بالبيضاء ومعهد تطوان للفنون الجميلة الذي أشرف على إدارته وهيكلته وكذا المعهد الوطني للهندسة المعمارية، لهذا ظلت المدينة دائما ضمن أولوياته، لطالما أحس باحتضارها وضياع هويتها وخصوصيتها الثقافية، ولطالما نادى بضرورة التدخل لإعادة الاعتبار «لثقافة المدينة»، وضخ دم جديدة في علاقة المديني بمدينته بحيث لا تظل علاقة سكن فقط، بل علاقة حلم وسعادة وعشق دائم. لقد ظل محمد شبعة كغيره من الفنانين المغاربة يشتكي من صعوبات جمة تؤرقه وتقض مضجعه، ك«الفقر الفني» على حد تعبيره، وضعف البنية التحتية «المتاحف، وسائل الإعلام، قاعات العرض والمعاهد الفنية، التي ظل يدافع عنها في أغلب حواراته، إضافة إلى غياب التربية والثقافة الفنية، فالفنان حسب الراحل، لا يمكن أن يبدع إلا بوجود شروط اجتماعية واقتصادية ملائمة، وسوق وطنية واسعة تقف ضد كل أنواع الاحتكار والاستحواذ البورجوازي للنخبة الفنية الجادة والشابة، قلق ظل واضحا في أغلب حواراته وكتاباته المتأرجحة بين الرضا على منجز فني متحقق، وقلق على أفق فني سيتلاشى ما لم تتوفر الشروط التاريخية الكفيلة باستمراريته. فهناك في ذلك البرزخ الفاصل بين الحضور والغياب، يقيم محمد شبعة، بخفة الألوان المحتملة، يحرس مملكته الفنية في صمت وشموخ وامتلاء، لم يكن حضوره المتفرد مصادفة، بل عن جدارة وثراء الموهبة، ولم تصنعه أبواق الإعلام ولا العلاقات العامة، عرف بعمقه الفني والإنساني كيف يغرف الجمال والصفاء من فظاظة الحياة وقتامتها، وانفلت بيسر من شرنقة النموذج والتكرار، واختار الرهبنة في قزحية اللون والريشة لغسل أرواحنا وتطهيرها من قذارة العالم، فهو لم يمت، سيظل حيا يشعل للأبد ضوء الفرح والجمال في أرواحنا وفي أحلك فترات حياتنا، وستظل ألوان طفولته حية لن تشيخ ولن تبهت، تنبض بالجمال بالبهاء وبكل معاني الصفاء والعمق الإنساني.