بعد مرور 12 عاماً على رحيله، ربما كان الملك الحسن الثاني الذي حاربه العقيد القذافي بكل الوسائل لإطاحة نظامه، أقرب اليوم الى ذاكرة الرجل المنبوذ. وحين تلقى الحسن الثاني أشد اللوم من أصدقائه الأميركيين والغربيين حول إبرامه اتفاق الوحدة بين نظام ملكي وآخر خارج التصنيفات، كان يرد بأن الانفتاح على ليبيا أقرب الوسائل لجذبها الى مسار التغيير. بيد انه حين تناهى الى علمه ان كل شيء ممكن، إلا ان يتغير العقيد، مزّق معاهدة الاتحاد العربي – الأفريقي واتجه على نحو مغاير للبحث في صيغة جماعية تكفل بعض التغيير، تحت لواء بناء الاتحاد المغاربي. لكن التاريخ سيذكر ان العقيد الليبي حين وضع قفازاً على يده، كي لا يصافح الملك الذي جالس رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، رد ملك المغرب بأنه سيأتي اليوم الذي لن يجد فيه القذافي أي يد ممدودة تصافحه. فقد كان يتمنى عليه أن يغير بعض عاداته وكثيراًَ من عقليته. تصور في المرة الأولى ان الجدل الفكري سيقنع السياسيين في الغرب بوجاهة إعطاء القذافي فرصة سانحة تعاود دمجه في نسيج العلاقات الدولية. وبعث المفكر المغربي عبدالله العروي ليحاور كبار الساسة الغربيين. ثم راهن في المرة الثانية على الدمج الاقتصادي والسياسي الذي في إمكانه إذابة التناقضات الليبية في سياق الاتحاد المغاربي، من منطلق ان الترويض على المشي الجماعي أفضل تمرين سياسي. لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق. كان أقرب الى القذافي أن يواجه نفسه، عبر قليل من النقد الذاتي، سيما وقد تأتى له أن يغادر قلعة باب العزيزية ويجول في بعض عواصم العالم المتحضر، بدل أن يواجه العالم برمته، فالشعب الليبي هو من طالب بضرورة إقرار إصلاحات سياسية عميقة، وليس ذنباً أن ينادي المظلوم برفع الظلم عنه. ولكن الذنب ان تواجه الصدور العارية بطلقات الرصاص. يذكر ان الحسن الثاني طلب من القذافي يوماً أن يختار بين تسليم مواطنيه المتورطين في قضية لوكربي، وتعريض مصالح بلده وشعبه الى ما هو أكبر من الحصار الاقتصادي. أنذره بأن الوقت ليس في صالحه، واحتاج الأمر الى سنوات من الإذلال والعقوبات كي يقتنع القذافي بأن فترة الإفلات من الضغوطات الدولية انتهت بانهيار المعسكر الشرقي، وان أي تسوية لا تلغي تداعيات الصرامة في «حال العود» على حد تعبير فقهاء القضاء المغربي، إذ يعود مرتكب الجنح أو الجرائم أو المخالفات الى ممارسة نفس الأخطاء، وليس من طريق التعويضات المجزية يمكن دائماً الخروج من النفق. فالأضرار تبقى منقوشة على الذاكرة. ولأن النصيحة جزء من التعاقد الأخلاقي، لم يفتأ الحسن الثاني يطلب من العقيد الانتقال من «فرضية الثورة» الى واقع الدولة. بما يعنيه ذلك من التزامات على الدولة تجاه شعبها والآخرين، لا تجعل الليبيين يشعرون بأنهم استثناء بين الشعوب. كان يفعل ذلك وهو يردد أنه لن يقبل دولاراً واحداً من الجماهيرية الليبية. وان المغرب في إمكانه ان يسدد فاتورة توريد النفط من خزينته الخالصة. وشاءت الأقدار أن تدلل على أن الدولار يمكن ان يساعد في تسوية مشاكل تطاول المعاملات التجارية وتبادل المنافع، لكن لا يمكنه أن يصنع سياسات قائمة، من غير اقترانها بالاندماج في الفضاء الطبيعي لتحولات العصر. غيّب الموت الحسن الثاني وبقي القذافي من الرجالات الخمسة الذين أبرموا المعاهدة التأسيسية للاتحاد المغاربي في مراكش. حدث ذلك في 17 شباط (فبراير) 1989. غير ان انتفاضة الشعب الليبي ستحمل بدورها تاريخ السابع عشر من الشهر ذاته بعد أزيد من عقدين. لم يسعد القذافي وقد أصبح رئيس قمة مغاربية لم تلتئم ان يحتفل بذكرى إقامة الاتحاد المغاربي. فقد تحول الرقم 17 الى نذير. لم يتلق رسالة تهنئة واحدة، حتى من نوع العتب، فقد سدت كافة الأبواب في وجهه. لعل التوصيف الذي يربط الحكم بالحكمة هو ما كان يحتاج اليه «ملك ملوك أفريقيا». فبعض الحكمة جعلت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يجاهر باستقالته، على خلفية هزيمة حزيران 1967. فزادته شعبية، بيد ان «الأمين على القومية العربية» لا يريد الى الآن ان ينصت الى الأصوات الجمهورية التي تطالب برحيله. ولا من نصيحة.