أزمة حكومية في بداية الطريق، أفضل من انتظار نهاية ولاية حكومة الزعيم الإسلامي المغربي عبد الإله بن كيران وبدء المساءلة. وبقدر ما شكل موقف «الاستقلال» لناحية التلويح بالانسحاب من الحكومة إحراجاً لرئيسها وكل شركاء الائتلاف، بقدر ما فرض على التجربة الناشئة ممارسة النقد الذاتي. بخاصة أن أكثر الأصوات حدة في معارضتها تصدر من داخل الائتلاف وليس خارجه. مهما كانت الصيغة التي ستحسم في الخلافات القائمة وسط البيت الحكومي، وأقربها تضييق فجوة التباعد وفتح صفحة جديدة في العلاقة بين مكونات الائتلاف الراهن، لا بد أن تنتج عنها تنازلات، كان الجسم الوزاري في غنى عنها، لو أنه اعتمد منهجية الإصغاء والحوار. وبديهي أن من لا يقدر على الإصغاء للأصوات الداخلية سيكون أبعد عن استيعاب أصوات أخرى تصرخ خارج الحكومة. فالإنتشاء الذي عاشه «العدالة والتنمية» بعد اشتراعيات 2011، أفقده الحاجة إلى تجسيد خيار المشاركة في اتخاذ القرارات. وقد يكون عذره في ذلك أنه ينظر إلى كل من يعارضه بأنه يريد رأسه. والحال أن انتصاره الكاسح دفع شركاء سياسيين إلى منافسته والاصطفاف على يساره في الدعوة إلى تسريع الإصلاحات العميقة. فيما كانت الأزمة الطارئة تتطلب الكثير من ضبط النفس، ارتدى الجدل حولها أبعاداً أخرى. ليس أقلها السجال الدستوري حول استخدام هذا الفصل أو ذاك في التعاطي مع الوضع المفاجئ. فقد ذهب «الاستقلال» إلى طلب تحكيم ملكي، انطلاقاً من صلاحيات رئيس الدولة في صون الدستور ورعاية حسن سير المؤسسات. ورد «العدالة والتنمية» بالصلاحيات المخولة دستورياً لرئيس الحكومة في الحسم في استقالة الوزراء. ولم يكن الجدل بعيداً عن مقاربات سياسية يصب تأويلها لفائدة فرقاء الحكومة المتخاصمين. فيما الأزمة التي ألقت بظلال قاتمة على الوضع الدستوري للحكومة كانت تتطلب إطفائياً من خارج الصف. لكن الاستقلاليين كانوا أكثر دهاء، فقد أعلنوا الانسحاب من الحكومة من دون اللجوء إلى استقالة وزرائهم، وتجاوزوا رئيس الحكومة من منطلق أن خلافاتهم الجوهرية قائمة معه. وفي غضون ذلك تركوا الباب مفتوحاً على كل الاحتمالات. أبعد من موقف «الاستقلال» الذي استمر في الحكومة إلى حين صدور التحكيم الملكي، أن باقي فصائل المعارضة التي كان في وسعها عدم تفويت الفرصة الذهبية، أبدت في غالبيتها موقفا داعما ل «الاستقلال»، أقله الإعلان عن عدم استعدادها لتعويض فريقه الوزاري. ما شدد الخناق على «العدالة والتنمية» في اختيار بديل محتمل لتأمين غالبية نيابية. غير أن ذلك لا يستبعد حدوث تحول في المواقف، والراجح أن المؤشرات الأكثر دلالة تميل إلى إكمال حكومة بن كيران ولايتها. طالما أن لا خيار أمامه في حال الوصول إلى الباب المغلق، غير الدعوة إلى إجراء انتخابات البلديات التي لم يحدد موعدها بعد. كما أن تنظيم انتخابات مبكرة يظل محفوفاً بالمخاطر. وذهب قياديون في الحزب الإسلامي الحاكم إلى الجهر بأنهم سيواصلون معركتهم من موقع المعارضة أو الحكومة. ولا يعني هذا التلويح سوى قابلية العودة إلى مربع الصفر. بيد أن إسلاميي المغرب الذين حملتهم رياح الربيع العربي إلى واجهة الحكومة يدركون أن المعطيات الإقليمية والمحلية تغيرت، وأن المأزق الذي يواجه الفترات الانتقالية في بلدان كانت مسرح حراك عاصف لم يعد مشجعاً. بدليل أنهم يعزفون على نغمة الإصلاح في إطار الاستقرار، بعد أن خاضوا الانتخابات بلواء الحرب على الفساد والاستبداد. ويذهب خصومهم إلى أن حيازة الثقة في الانتخابات لا يوازيه شعور مماثل في تدبير الملفات الاقتصادية والاجتماعية. وإن كان يصعب على أي فريق حكومي تحقيق اختراق كبير في ضوء الأزمة الاقتصادية وضغط الزمن. وإذ يعبئ كل طرف أنصاره لتعزيز موقفه حيال أي صيغة اقتراحية لتجاوز الأزمة، سيكون عسيراً على «الاستقلال» و «العدالة والتنمية» أن يمضيا على طريق المصالحة وكأن شيئاً لم يحدث، فقد نجم عن الأزمة تفكك الائتلاف الحكومي. وأصبحت «الحركة الشعبية» و «التقدم والاشتراكية» في وضع حرج، إن مالا في اتجاه «الاستقلال» كان مصير الحكومة الانهيار، وإن ساندا «العدالة والتنمية» حكما على نفسيهما بالمصير الذي ستؤول إليه المعركة في حال تطورت المواجهة إلى طلب سحب الثقة الذي تنتظره فصائل المعارضة. لكن «الاستقلال» الذي عرف بتمرسه وتجربته لا يريد تصويب الطلقة الأخيرة في اتجاه الحكومة، وإن شجعه في ذلك التزام أحزاب المعارضة عدم الهرولة نحو الكراسي الوزارية. فقد أبقى على الخيط الرفيع الذي يشده إلى الموقعين معاً، داخل الحكومة وخارجها. ولعله يرغب في تفادي تصنيفه كجزء من لوبيات مناهضة الإصلاح، كما يروق للحزب الإسلامي وصفها. والرابح الأكبر في هذا النزال الحزبي الذي تطور إلى أزمة سياسية هو قرار التحكيم الذي في إمكانه ضخ دم جديد في عروق السلطة التنفيذية، أو ترك الفرقاء كافة يتحملون مسؤولياتهم إزاء الوصول إلى المآزق. مع أن الأزمة ليست دستورية، فإن حلها دستورياً يظل أقرب الاحتمالات، لكن المرء لا يستحم في النهر مرتين.