حدثان مهمان ميزا الحالة السلفية في المغرب خلال الأيام القليلة المنصرمة، الحدث الأول تمثل في اللقاء التشاوري الذي نظمته ثلاث جمعيات حقوقية بالرباط(منتدى الكرامة، الوسيط، عدالة) تحت عنوان: 'من أجل فهم مشترك للحالة السلفية وسؤال المشاركة في الحياة العامة' بمشاركة جمعيات وفعاليات حقوقية وممثلين عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان ومحامين وأكاديميين، وحضور أقطاب ما يصطلح عليهم برموز'السلفية الجهادية' في المغرب، ومعتقلين سلفيين سابقين.. هي المرة الأولى التي يلتئم فيها جزء من النخبة لمدارسة الحالة السلفية في المغرب، ومحاولة بناء فهم مشترك لها، عبر توصيف خلفياتها الفكرية وخطابها وسياقاتها التاريخية ومسارات تشكلها، ونوعية التمايزات التي تخترقها، وذلك بحضور ممثلي التيار السلفي أنفسهم. وقد ساهم النقاش في توضيح الكثير من المواقف والالتباسات ذات الطبيعة الفكرية المرتبطة بالاتجاه السلفي وبالأفكار الجاهزة اتجاهه، وكذا التحديات المطروحة عليه في علاقة بمجموعة من الأسئلة الراهنة: إشكالية العنف والتدبير السلمي للاختلاف، مع ملامسة بعض المواقف من بعض المفاهيم الأساسية في الدولة الحديثة: الديموقراطية، التعددية، النظام البرلماني، موقع المرأة... كما تم استعراض حجم الانتهاكات والتجاوزات التي طبعت مسار هذا الملف، والإشكالات المرتبطة به والتي لازالت عالقة وعلى رأسها وضعية المعتقلين السلفيين داخل السجون والذين يتراوح حول 500 معتقل. ومن الأسئلة التي كانت محل نقاش مستفيض سؤال الاندماج الاجتماعي ومعاناة السلفيين معه، المتمثلة في الإقصاء من برامج الاندماج داخل السجن وكذا في تعطيل حقوقهم المدنية والمهنية في علاقة بالإدارة والمصالح العمومية. الحدث الثاني الذي صنعه السلفيون بأنفسهم هذه المرة، هو إعلان مجموعة منهم عن تأسيس جمعية دعوية بمدينة الدارالبيضاء. فلأول مرة يقدم معتقلون سلفيون سابقون بمعية نشطاء آخرين عن إعلان تنظيم جديد يحمل إسم: 'جمعية البصيرة للدعوة والتربية'. مؤشرات هذه الخطوة برزت منذ خروج حسن الكتاني وأبوحفص من السجن حيث سبق لهما أن عبرا معا عن رغبتهما في الاستمرار في العمل الدعوي، بالموازاة مع التعبير عن موقف الرفض القاطع لخطوة تأسيس حزب سياسي سلفي، رغم جاذبية النموذج المصري، بحيث يرفض أبو حفص أي مقارنة مع التجربة المصرية ممثلة في حزب النور معتبرا بأن مثل هذه المقارنة هي تسطيح للأمور وقلة وعي وإدراك بطبيعة العوامل التاريخية والثقافية والسياسية المختلفة بين المغرب ومصر. دلالات الحدث الأول تشير إلى بداية حلحلة هذا الملف الذي ظل يلطخ صورة المغرب في مجال حقوق الإنسان أمام المحافل الدولية، وبداية التعاطي معه بطريقة تشاركية يتلمس فيها الجميع سبل حل هذا الملف المعقد..فأمام تسجيل سيل من التجاوزات والانتهاكات التي شابت عشرات المتابعات للعديد من أفراد التيار السلفي بالمغرب، منذ سنة 2001، في ظرفية دولية وإقليمية اتسمت ب'الحرب على الإرهاب'؛ تبرز الحاجة الماسة إلى ضرورة الحفاظ على أمن واستقرار البلاد..وهو ما يستدعي فهم الخريطة الفكرية للسلفيين، وفرز المجموعات القليلة التي مارست العنف ولازالت مصرة على نهجها الفكري، عن السواد الأعظم الذي لم يتورط في أحداث عنف وذهب ضحية المقاربة الأمنية والاعتقالات العشوائية التي خلفتها صدمة التفجيرات الإرهابية بمدينة الدارالبيضاء سنة 2003. هذه المقاربة تعترضها صعوبات كثيرة أبرزها أن التيار السلفي ليس كتلة تنظيمية متجانسة وإنما هو تجمع لحالات فردية توحد بينها المظاهر الخارجية، لكنها ليست مستوعبة في إطار تنظيمات واضحة، وهو ما يعقد عملية الفرز الضرورية لحل هذا الملف.. ولذلك فإن الخطوة التي أقدم عليها كل من 'الشيخين' حسن الكتاني وعبد الوهاب رفيقي (أبو حفص) تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح للإسهام في تنظيم الحالة السلفية، وخاصة في شقها الذي ينعت ب'الجهادي'، والتقدم بخطوات عملية في هذا الملف. طبعا، التحديات التي ستعترض هذه الخطوة ستضع السلفيين أمام إشكالات من نوع آخر، فالانتقال من الخطاب الدعوي الخاص إلى الخطاب الدعوي العام وما يترتب عن ذلك على مستوى إعادة قراءة الواقع والتكيف والاندماج مع البنية الاجتماعية والسياسية في راهنيتها وتقلباتها؛ ستفرض على مسؤولي التنظيم الجديد التحلي بالكثير من المسؤولية والوضوح في الخطاب والحذر من الأخطاء، بغية تفويت الفرصة على دسائس الخصوم..فقد ساهم ضعف التواصل في تكريس صورة نمطية ساهمت في صناعتها بعض وسائل الإعلام، وهي صورة عززت موقع بعض التوجهات الداعمة لنوع من 'الإسلاموفوبيا' ضمن سياق دولي جعل ضمن أولوياته خلال المرحلة السابقة محاربة الإرهاب، وهو ما جعل المنتمين للتيار السلفي هم أول ضحايا هذه الاتجاهات. اليوم بدأت تتضح بعض المسالك الممكنة لحل الاشكاليات العالقة ذات الصلة بالحالة السلفية، في أفق تقليص التوترات والتقاطبات الفكرية الحادة داخل المجتمع، والتحفيز على الإدماج الإيجابي لها في الحياة العامة وهو ما يتطلب قدرا كبيرا من الحكمة والحرص على المصلحة العامة، سواء من طرف الدولة ومؤسساتها الأمنية، أو من طرف السلفيين أنفسهم. وذلك في أفق التأسيس لسياسة تصالحية تسهم في تصحيح الوضع المتوتر بين الأطراف ذات الصلة بهذا بالملف؛ عبر العمل على إطلاق سراح معتقلي السلفية ممن لم يتورطوا في العنف، أو أعلنوا عن مراجعات داخل السجن ؛ وتمتيع باقي المعتقلين بحقوقهم داخل السجون كما هي متعارف عليها في القانون وفي المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مع بذل مجهودات ملموسة لإعمال مبدأ التأهيل الاجتماعي لفائدة المعتقلين السلفيين المفرج عنهم وتوفير الدعم المادي لهم ومساعدته على الاندماج في الحياة العامة، وهو ما من شأنه أن يسهم في نزع فتيل التوترات القائمة والمحتملة في علاقة الدولة بالحالة السلفية والعمل من أجل مشاركتها الإيجابية في الحياة العامة. إن من شأن اعتماد ثقافة الحوار الفكري والسياسي الطويل النفس أن يؤسس لوعي جماعي يؤمن بحتمية العيش المشترك داخل وطن واحد مع الحفاظ على اختلافاتنا وتمايزاتنا في إطار من الاعتراف المتبادل والإيمان بالتعايش المشترك، وبناء جسور من الثقة ما بين جميع التيارات على أرضية واحدة تنبذ العنف والتكفير كما تنبذ الإقصاء والتمييز.