عادل امليلح تشكل مسألة صناعة النخب ضرورة حاسمة لأي تنظيم اجتماعي، وهي غاية كل تنظيم سياسي أو سلطة سياسية، تهدف إلى الحفاظ على توازن السلطة وديمومة النفوذ.. وذلك عبر عملية زراعة وصناعة النخب عبر كافة المستويات الأفقية والعمودية، وتعد ظاهرة صناعة النخب من صميم مؤسسة المخزن في المغرب، وهي قديمة قدمه ومرتبطة بتطوره، فتارة دعمته وتارة أخرى كانت سببا في اضعافه، فكيف يتم إذن صناعة النخب في مغرب اليوم؟ ولماذا نعتبر أن هذا الموضوع يشكل الأساس لفهم مؤسسة المخزن وبنياته؟ فقبل أن ننخرط في الإجابة عن الأسئلة التي طرحناها آنفا، فإنه من الضروري كذلك طرح سؤال مهم نعتبره مدخلا محوريا للإجابة، وهو من يمتلك المجال في المغرب؟ لأن الفاعل المجالي والاجتماعي هو ما يعكس في الواقع العيني امتدادات النخب المخزنية وسلوكها.. فلطالما شكل المعطى العقاري الأساس الفعلي لصناعة النخب داخل العالم القروي، فتوزيع الأرض كان يشكل أداة فاعلة لشراء النخب والتعاقد معها، من خلال عملية الارضاء والموالاة.. ولذلك فالنخبة كانت نخبة قروية بالأساس نظرا لدور القبيلة كفاعل اجتماعي وسياسي طبع التاريخ الحديث للمجتمع المغربي، وكان ذلك يشكل رهانا كبيرا على التوازنات القبلية، إما لضمان نفورها المستمر أو التحجيم من دورها من خلال كسر شوكتها خاصة تلك القبائل التي كانت خارجة عن سلطة المخزن، أو ما سيسمى فيما بعد بقبائل السيبة، وما ينطبق على القبيلة ينطبق على الزاوية خاصة تلك التي تحولت أدوارها من الديني إلى السياسي.. وهكذا ظل المخزن يمارس التأطير السياسي والاجتماعي من خلال توزيع الأرض وتشكيل النخب الضرورية لبسط نفوذه وسيطرته على المجال، بينما في المدن شكلت التجارة الأساس الفعلي في صناعة النخبة الحضرية، مثل تجار السلطان وغيرهم، كما أن القرب من السلطان والقصر كان يسهل الحصول على الامتيازات التجارية والجبائية، بالإضافة إلى دور التجار في تموين الخزينة السلطانية ومد دار السلطان بالسلع الضرورية وغيرها، لذا شكلت التجارة معطى أساسي لصناعة النخبة في الأوسط المدينية، وذلك بفعل عدم أهمية العقار الحضري، الذي يرجع أساسا إلى قلة الساكنة الحضرية في مغرب الأمس.. بيد أنه مع دخول الاستعمار الأجنبي للمغرب سيبدأ السلطان بشكل خاص والمخزن بشكل عام في فقدان سلطته على المجال لصالح المقيمين العالمين والقناصل الأجانب وغيرهم، بل ساهم ذلك في تقوية نفوذ بعض النخب التقليدية مثل القياد والبشاوات وغيرهم.. فظهر طلب اجتماعي جديد على نخبة محلية لتسيير أجهزة الاستعمار، لذلك جاء دور المدرسة العصرية التي عملت على تخريج نخبة إدارية ذات ثقافة عصرية، وهي نخبة تمتلك رأسمال رمزي أكثر مما هو مادي، غير أن هذه النخبة سرعان ما ستنفلت من دوائر الاستعمار لتتحول ضده، وتبنت مشروع التحرير والاستقلال، الذي لم يكن ممكنا من دون اعادة تقوية مؤسسة العرش، ذلك أن النخبة الجديدة لم تكن تمتلك مشروعية التأطير لمجابهة الاستعمار وخدامه، فكان لابد من إحياء العرش وتأجيجه في مخيال الشعب، لضمان وحدة وطنية قادرة على مواجهة الاستعمار، سواء في البوادي أو المدن، وحاولت هذه النخبة استثمار كل الأخطاء التي ارتكبها المستعمر بدءا بالظهير البربري إنتهاء بنفي السلطان محمد بن يوسف.. لكن مع أفول الاستعمار وبروز عهد الاستقلال، طُرحت مسألة النخبة نفسها بقوة، فالمخزن وإن كان قد وجد نفسه أمام دولة مجهزة بتجهيزات عصرية وتأطير ترابي لابأس به، فإنه أيضا وجد نفسه أمام تحديات كبرى، ولعل أبرزها توزيع أراضي المعمرين، واستعاب التمدد الحزبي لبعض الأحزاب مثل الإستقلال والاتحاد الوطني.. التي كانت تضم نخبا عليا لها رصيد رمزي مهم وشبكة علاقات ممتدة اقليميا ودوليا راكمتها عبر مواجهة الاستعمار الاجنبي، وستظل هذه النخبة أساس مغرب الإستقلال حتى مطلع القرن 21م وكان كل هم المخزن أن يستوعبها عبر تعاقدات اجتماعية مثلما حدث مع حكومة التناوب، ودفاعه عن التعددية الحزبية للتخفيف من تمركز النخب وخلق نخب توازن جديدة، لكن كيف يتم انتاج النخب في مغرب اليوم؟ لقد استطاع المخزن اليوم بفضل أجهزة إدارية ثابثة ممتدة عبر ربوع الوطن وبفضل وسائل الإعلام أن يحقق اختراقا كبيرا، فتزايد التنظيم الاداري أدى إلى أفول نجم القبيلة التي انحصرت أدوارها في مهام محدودة جدا ومناطق غالبا تصنف ضمن المغرب غير النافع أومغرب الهامش، وأصبح الفاعل المركزي سواء في المجال الحضري أو القروي هو الإدارة الترابية التابعة أساسا لوزارة الداخلية، بينما تم مصادرة الإستقلال الديني للقبائل والزوايا لصالح وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، وأصبح الفعل الأساسي في صناعة النخب يتم عبر الإدارة، التي تحصل على التمويل من خزينة الدولة، فالفقيه كما الشيخ هو يشتغل لصالح المخزن وفق أجر شهري يحصل عليه، مما ساهم في صناعة نخب محلية واسعة قريبة من السكان وتعيد انتاج بنيات المخزن وبالتالي تحافظ على نفوذه وسلطته، فالتنظيم الإداري المغربي يكرس صناعة نوع جديد من النخبة ليس مهمتها شراء الولاء ولا بناء التحالفات، وإنما الغرض منها اعادة انتاج مؤسسة المخزن عبر كل المستويات الترابية والمجالية، وهذه النخبة ما يميزها أساسا الاستفادة من الريع بمختلف أشكاله، والذي يخولها النفوذ والسلطة في مستواها المجالي، بينما كان من الممكن أن يشكل المجتمع المدني بديلا حقيقيا لتخريج نخبة توازن، تتماهى مع النخبة المخزنية، غير أن انفراد وزارة الداخلية بتسيير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، سرعان ما ساهم في استعاب هذه الجمعيات عبر التمويل، مما جعل من الجمعيات مؤسسات لصناعة نخبة مخزنية جديدة، تتماهى في مهامها مع النخب الإدارية، في حين فإن النخب الكبرى التي لها ثقل في وزنها السياسي، ويمكن أن تشكل مساسا بمصلحة المخزن ما يزال يتم التعاقد معها، من خلال الريع والعقار، خاصة في المدن، فالريع العقاري الذي ازدهر بفعل التوسع المفرط للساكنة الحضرية، وانقلاب الوزن الجيوسياسي والحيواقتصادي لصالح المدن، جعل المخزن يتخلى عن مهامه في المجال القروي لصالح المدن التي تشكل ثقل المجتمع المغربي المعاصر ورهاناته، باعتبارها محضنا وخزانا لكل الظواهر الاجتماعية التي يجب العمل على احتوائها، كالبطابة عند الشباب، والألترات، وحاملي الشهادات، والحركات الدينية.. مما يجعل الرهان كبير جدا، لدرجة أن الأمر يتطلب بالإضافة إلى النخب، قوة عملية لضبط الوضع، لذلك فالمهمة في مدينة اليوم مراقبة الشارع وافراغه من كل القوى المادية الحية عبر العنف المباشر.. ولا يتوقف الأمر هنا، فهناك نخب يتم تجنيدها للتأطير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تعمل على التأطير المستمر، ودراسة سلوك المواطنيين وتوجيههم، ومراقبة أصحاب الرأي المخالف خاصة تلك التي تستطيع احداث ثأثيرا اجتماعيا وتمتلك قاعدة جماهيرية ولو بصيغة ضيقة.. مع الإستعداد التام لتحجيم كل الأدوار لكل النخب غير المخزنية، من نشطاء وصحافيين ورجال التعليم.. وهذا الفعل ليس سلبيا، فكل تنظيم سياسي تشكل الهيمنة قاعدته، سواء كان ذلك ضمنيا أو مصرحا به، وهكذا فالتمويل المؤسساتي والتأطير الإداري والقانوني يشكل الأساس الفعلي لبناء النخب في مغرب اليوم، بيد أن هذه النخب ضعيفة ولا يمكن أن تضبط الوضع مطولا، فكثرتها أدت إلى افقار المجتمع واضعافه، وهي نخب بدون أي عمق ثقافي واجتماعي، ولا ترتكز في علاقتها مع المخزن على أي مشروع اجتماعي أو سياسي، عكس نخب الأمس، وهذه النخب وإن كانت تستغل الريع والنفوذ الذي عادة ما يرهنها لاعتبارات خارجة عنها، جعلها نخبة معيقة لتطور المجتمع وتقدم المخزن ذاته، وباعتراف الملك محمد السادس في أكثر من مرة حول ضعف الخدمات الإدارية، والمساواة والتوزيع العادل للثروة، لكن العيب في هذه النخبة لا يتجلى هنا، وإنما في بؤس هذه النخبة التي لا تستثمر في الثقافة والفكر والفن، وهي نخبة تقنية ميكانيكية لا تؤمن بالضرورة بتطورها من خلال تطور المجتمع، فتوسيع دائرة الدخل مثلا يمكن أن يساهم في تنامي الاستهلاك وكذا تزايد الإنتاج والادخار.. مما سيرسخ النفوذ السياسي من خلال امتلاك موارد ضرورية لصناعة نخب جديدة، وهذا سيجعل المخزن في حاجة مستمرة لتمويل خارجي، أي نخب خارجية، ربما تمس بسيادته وتصادر سلطته، أو تجعله في حاجة إلى إتخاذ خطوات رجعية من خلال إعادة احياء القبيلة والزاوية، بغية تشكيل نخب شبيهة بالنخب التقليدية، وهذا غير ممكن، بفعل تغير شروط اليوم عن الأمس، وبفعل الوظائف الجديدة التي يتيحها التقدم التكنولوجي والمعلوماتي، كما أن هناك تحدي سيبرز مستقبلا، وهو تكون نخب مالية شبابية بالخارج، تمتلك موارد مهمة ستمكنها من مجابهة المخزن ونفوذه خاصة وهو يسير نحو الانفتاح الشامل، ولذا لابد من مصوغات للعمل على استعابها مستقبلا، وسيكون من الصعب ارضائها عبر التمويل والتسهيلات في إطار الريع، بل سيكون من الصعب التعاقد معها، فكما تجاوزت التكنولوجيا التأطير الكلاسيكي ستتجاوز هذه النخب التأطير الحالي، ولذلك فإن المخزن لكي ينتج نخبا ضرورية عليه الاتجاه نحو الاهتمام بالثقافة، وأن يحافظ على نخب التوازن من خلال منح هامش من الديمقراطية، وكذا توسيع صلاحيات الهيئات المنتخبة من خلال اقراو لا مركزية قوية، لتخفيف من حدة التركيز المفرط للنخب الذي يعيق المجتمع، والتخفيف من الريع الذي ينهك المجتمع، ويولد تيارات مضادة لا تخضع لأي تأطير، مما سيصعب التعاطي معها عندما تنضج وتختمر لتصبح فاعل اجتماعي حقيقي، كما أن التركيز على القوة من خلال التفكير في خلق نخبة أمنية سيفقد المخزن صروته بالخارج مما قد يؤثر على موقعه مستقبلا، كما قد يتسبب في إعاقة المجتمع، هذا بالإضافة إلى تهميش المدرسة العمومية، وإضعاف الأساتذة، سيدفع المخزن إلى أن يصبح أكثر رجعية، لأن تكلفة ذلك كبيرة جدا.. لذا وجب القول بعمق، أن نخبة المستقبل ينبغي أن تكون نخبة علمية وثقافية، نخبة عصرية منفتحة وتمتلك مشروعا حضاريا، فالمخزن سيكون في حاجة لهذه النخب مستقبلا لتدعيم موقعه في النظام الاقليمي والدولي، لأن المغرب يعرف انقلابا جيوبوليتيكي وجيواستراتيجي مهم للغاية، ولن تكون نخبة الإدارة ولا نخبة الأمن بقادرة على إدارة هذا التغير، بل وحدها النخب التي تستطيع تقديم قراءات علمية وتصورات موضوعية، تمتلك مقدرة على التفاوض تاريخيا واستراتيجيا، كفيل بأن يسهم في تعزيز مكانة المخزن دوليا.. وخلاصة القول فإن ظاهرة صناعة النخب مسألة حيوية في كل تنظيم اجتماعي، وهي ضرورية للضيط الاجتماعي والسياسي، ومهما تكن خلفياتها ومبرراتها الموضوعية والأخلاقية، فإنها ليست ثابثة في شروطها، وإنما ديناميكية، مما يتطلب تغييرا في الوظائف والأدوار بشكل مستدام، وإن مؤسسة المخزن في المغرب راكمت تجاربا كبيرة في صناعة النخب الضرورية، لكن وجب القول، إن الشروط الملاحظة البسيطة اليوم تكشف عن خلل موضوعي، في وظيفة النخبة الحالية التي لا تدافع عن أي مشروع سياسي واجتماعي أو اقتصادي، وهي نخب غير مرنة في وظيفتها مرتهنة للاستهلاك، بل تعيد إنتاج المركز بكل ثقله في مجتمعات محلية، مما يعيق تقدم البلاد ويسهم في سخط العباد، والدليل ضعف الثقة في المؤسسات والعزوف عن التصويت في الانتخابات، والسخرية الشعبية من النخب المحلية والوطنية سواء في صفتها الشخصية أو المؤسساتية، وهذا أخذ في التمدد ويستوعب مستويات عليا، لذا يجب التفكير مليا، بأن طموح المغرب مستقبلا ينبغي أن تعبر عنه نخب مثقفة، تمتد عبر مكاتب للدراسات ومدارس للتنظير، تدعم طموح المغرب، وتخفف من الاحتكارات التي يمارسها االقصرالتي أصبحت تطبع كل تفاصيل المجتمع، وينتج عنها تناقضات سيصعب العمل على ردمها في المستقبل، بينما الجدير أن تبقى هذه الاحتكارات ضمنية غير معلنة كليا، فالنخبة الحالية تجعل من القصر تبريرا لسلوكها غير المسؤول، فتضعفه ضمنيا، لذلك فالمخزن في المستقبل ونخبه بمثابة مغامرة كبرى، وما من بد للتضحيات الجسيمة، فإما الانخراط الشامل في اقتصاد العولمة وثقافة العولمة لمسايرة حركة العصر وذلك سيتطلب نخبا جديدة، أو الانطواء وراء الأنماط الأكثر تقليدية وانغلاقا وذلك سيعيق تقدم المجتمع الذي يجعل موقعه الحيوي شئنا أم أبينا الجغرافية تتجاوز الاعتبارات التاريخية، فرهان الجغرافيا هو رهان سلوك جيوبوليتيكي متبصر، أما رهان التاريخ فإن العولمة أحجمته كثيرا، وعليه سيواجه مخزن المستقبل تحديات لن تكون نخبة اليوم قادرة على حلها، لأنها نخبة التهميش والإقصاء، التي تفتقد لفعل الوسط، وتنزاح مع غلوائها في المساس بالتوازنات الماكرو والميكرو اجتماعية.. وأن ذاتية النخبة ستاطلب الانكباب أكثر على المؤهلات الفردية للترقي الاجتماعي من خلال الرأسمال الرمزي.