شعار “العالم قرية صغيرة” يلخص باقتضاب شديد كيف أن التواصل بين بني البشر صار أسهل بكثير عما كان عليه قبل الثورة التكنولوجية و خاصة المعلوماتية، فصارت الأخبار تصل بسرعة البرق و المعلومات تنتشر كالنار في الهشيم، وأصبح شبكات التواصل الإجتماعية مسكنا يأوي إليه الناس، كل و غايته، لكن هذه الثورة أو بالأحرى هذه الطفرة التكنولوجية، كشفت عن وجهنا الحقيقي الذي طالما كان محتجبا وراء خطابات رسمية تتدعي الطهرانية، بحيث أعطت شبكات التواصل الإجتماعي بكل أصنافها و باقي وسائل الإعلام، فرصة للظهور و الإنتشار،للجميع بقدر متساوٍ، و هو ما دفع بالتافهين و النكرات و المغمورين لتسلق سلم النجومية و الشهرة، عبر نشرهم و قيامهم بأشياء تافهة و سمجة وعبثية حتى، مع أن التفاهة لم تعد محصورة في وسائل التواصل الإجتماعي فقط و إنما لها أسس في مجتمعنا احيث سادت القيم الرأسمالية التى تحاول تَسْلِيعَ كل شيء، و أحد مظاهرها أيضا الإنقلاب المروع للقيم، إذ صار الشخص الإنتهازي و الوصولي، و اللص و الغشاش و المتملق في نظر العامة رجلا ذكيا و فطنا، بينما الإنسان الصادق و النزيه والقنوع صار شخصا بليدا و ساذجا، الشيء الذي أدى إلى إلغاء القيم و التباس مفاهيمها أو حتى كما قلت انقلابها، بحيث لم يعد معروفا الفرق بين الخير و الشر و الصالح و الطالح، و لم يعد هناك قدرة على التمييز بين أهل العلم عن من لبسوا ثوبه، كل هذا و غيره يشير إلى أننا دخلنا عصر التفاهة. فماذا تعني التفاهة؟ هل هي مظهر من مظاهر العيش أم أنها أسلوب عيش يميز أشخاصا دون سواهم؟ و لماذا يجد التافهون إقبالا في مجتمعنا؟ و من يصنع التفاهة؟ لكن أليس ما نصفه بالتفاهة يدخل في خانة الحرية الشخصية؟ أم أن التفاهة تتعدى الأفراد لتنعكس على المجتمع برمته؟ و كيف السبيل للقضاء عليها؟ يعرف “معجم المعاني” العربي التفاهة بكونها ” نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، و أيضا الحقارة و الدنائة، و ما لا أهمية له. فنقول تَفِهَ الطعام صار بلا طعم أو ذوق، و تَفِهَ الولد في تصرفه، بمعنى كان غبيا، بليداً، و تَفِهَ العمل، قَلَ وحَقُرَتْ قيمته، تَفِهَ الرجل و التافه هو الحقير السيرة”. إذن التفاهة باختصار هي الحقارة و البلادة و اللامعنى و فقدان القيمة. طبعا كثيرون تنبؤوا بعصر التفاهة و لعل أبرزهم نيتشه عندما أعلن عن موت الإله، و كأنه كان ينبهنا إلى حلول التفاهة والعدم الآخذين في الانتشار حيث خداع القيم وانهيار الحضارة وتفكك السرديات، و للحديث عن كيف تنشأ التفاهة و مظاهرها بالمجتمع الآن، لابد من الذهاب رأسا إلى أهم مؤلف كتب في هذا الشأن و هو “نظام التفاهة” la médiocratie للفيلسوف الكندي ألان دونو Alain Deneault الذي صدر سنة 2015، و قامت بنقله إلى اللغة العربية الباحثة الكوتية مشاعل عبد العزيز الهاجري. و الذي يوضح فيه ألان دونو كيف أن سيطرة و هيمنة التافهين على العالم الآن تمت دون حرب بالمعنى الكلاسيكي للحرب، و أحد مظاهر هذه السيطرة حلول التَعْلِيب محل التفكير العميق، وهذا ما عبر عنه دونو بطريقة ساخرة قائلا: ” لا لزوم لهذه الكتب المعقدة، لا تكن فخورًا و لا روحانيًا، فهذا يظهرك متكبرًا، لا تقدم أي فكرة جديدة فستكون عرضة للنقد، لا تحمل نظرية ثاقبة، وَسِع مُقْلَتَيْك، إرخ شفتيك فكر بميوعة أي بمرونة و قابلية للتشيك و كذلك، عليك أن تكون قابلا للتَعْلِيب، لقد تغير الزمن، فالتافهون أمسكوا السلطة”. إذن نحن نعيش أوج عصر التفاهة بحيث بات عقد الزواج أهم من الحب، ومراسيم الدفن وطقوسه أهم من الميت، و اللباس أهم من الجسد، و قداس الأحد أهم من الله ، على حد تعبير الروائي الأوروغوياني إدوارد جاليانو، و نحن نقول صار الحضور لخطبة الجمعة و الصلاة في المساجد أهم من الله و ما يدعو و ينهى عنه. فما سبب انتشار التفاهة في العالم و تحكم التافهين فيه؟ يقول ألان دونو أن هناك سببن أولهما إقتصادي و أخر سياسي. على المستوى الإقتصادي يرى أن هناك تغيرا حدث على مستوى مفهوم العمل، بحيث صارت المهنة وظيفة فقط، لكسب المال والبقاء. و يسوق مجموعة من الأمثلة هنا أقتبس منها مثال بائع الكتب و المجلات الذي نادرا ما يكون قارءا لها و العامل بمصنع تركيب السيارات الذي لا يعرف كيف يصلح السيارة إذا تعطلت. و حدث أيضا تنميط في العمل في استحضار لمفهوم تايلور و التايلورية، و هو ما أنتقده بحس ساخر الممثل العالمي شارلي شابلن في فيلم “الأزمنة الحديثة” أو حتى في فيلم “مستر بوليس” لفريتز لانغ. بينما السبب الثاني سياسي يقول دونو و ذلك من خلال حكم التكنوقراط واستبدال الإرادة الشعبية. هنا بدأت سيطرة التافهين، و أول هؤلاء رئيسة الوزراء البيرطانية السابقة مارغريت تاتشير، و قد تمت هذه العملية عبر استبدال مفهوم السياسة بمفهوم “الحَوْكَمَة” أو الحكامة بلغتنا في المغرب، و أيضا استبدلوا مفهوم الإرادة الشعبية، بمفهوم “المقبولية المجتمعية” أي الشعبوية، و مفهوم المواطن ب “الشريك”. عندها صار الشأن العام مجرد تقنية “إدارة” لا أقل و لا أكثر، و ليس منظومة قيم و مبادىء و مفاهيم عليا، و أصبحت الدولة مجرد شركة خاصة، و المصلحة العامة مفهوما مغلوطا أو ملتبسا مع المصالح الخاصة للأفراد، بينما الناشط السياسي مجرد ناشط عند لوبي يدافع عن مصلحته مقابل ثمن يأخذه، و هنا أصبحت قاعدة النجاح ليست هي الإستحقاق والكفاءة و غيرها، بل شعارها “إلعب لعبتك”، كل هذا ناتج عن عملية التنميط السابقة في العمل، و العمل على تسليعه و تشييئه، عبر إفراغه من مضمونه الإنساني، ناهيك عن تفريغ السياسة و الشأن العام من مضمونهما، وهكذا صارت التفاهة نظام كامل على مستوى العالم و ليس حكرا على بلد دون سواه، و الصورة الأكثر تعبيرا عن هذا التحول المروع، يقول دونو هي مفهوم “الخبير”، الذي حل محل المثقف، حيث أن الخبير ممثل للسلطة و مستعد لبيع عقله لها، في حين المثقف الحقيقي طبعا يحمل قيم الإلتزام تجاه قيم و مثل عليا إنسانية، قبل الإلتزام تجاه شعبه، لذلك فالجامعات اليوم التي تمولها الشركات الكبرى صارت مصنعا لإنتاج الخبراء و ليس المثقفين، الشيئ الذي يفسر العداء المطلق للحكام و الحكومات للعلوم الإنسانية المقلقة بما فيها الفلسفة، و استبدال ذلك بالتعبير بكل افتخار عن ضرورة ربط التعليم بسوق الشغل، و هو ما عبر عنه أحد رؤساء الجامعة بالقول “على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات”، إذن لا مكان للعقل النقدي الباحث المتساءل، مما يحول الإنسان إلى مجرد موجود في خدمة حاجيات السوق الرأسمالية. لكن كيف نجحت الدول و منها المغرب عبر التعليم في خلق التفاهة مثلا؟ لا شك أن اكتساب مهارات و قدرات الفهم و التحليل و التركيب و من بعدها النقد و المساءلة، تتطلب إتقان أدوات التفكير الأولى ألا و هي اللغة، لذلك كانت اللغة أحد المداخل يقول ألان دوبو، بحيث تمت محاربة لغة التفصيل والتحليل بدعوة أن ضيق الوقت لا يسمح، أو على الأقل لربح الوقت أكثر، و ذلك عبر اعتماد التبسيط الخطر و الفج والتسطيح، لتصبح اللغة لغة خشبية جوفاء، كلها حشو و تكرار ممل، و بألفاظ طنانة لكنها مجردة من أي عمق إجتماعي أو قوة أخلاقية، و هكذا من خلال ضرب القدرة على التحكم في اللغة يفقد الإنسان القدرة على التفكير و الفهم السليم ناهيك عن التحليل، أما النقد فأبعد ما سيكون عنه، و بالتالي يتحول إلى مجرد إنسان أشبه بالآلة، مستعد لتنفيذ ما يُطْلَبُ منه، تحت طائلة كسب المزيد من المال و البقاء على قيد الحياة بشكل أكثر رفاهية و استهلاكا، و هنا يعود دون إلى شعار “إلعب لعبتك”، معتبرا أن كل نشاط يتم في الفضاء العام صار مجرد لعبة لا غير، و الغريب أن ما يمز هذه اللعبة هي كونها معروفة لدى الجميع، لكن لا أحد يتكلم عنها، و ليس لها حتى قواعد مكتوبة، إنها عبارة عن عقد سري، عقد مُتَوَاطَؤٌ بشأنه، و هو عقد مضمر و ليس مصرح به، لعبة تغيب فيها القيم و يحل محلها منطق الربح والخسارة، المادية و حتى المعنوية. و بذلك يصاب الجسد الإجتماعي بالفساد بصورة بنيوية، فيفقد الناس تدريجيا اهتمامهم بالشأن العام و المصلحة العامة و يحل محلها التركيز على الشؤون الفردية الضيقة، مقابل لا مبالاة تجاه ما هو مشترك. و هنا يفتح المجال للإعلام و الصحافة كي تقوم بدور الإجهاز على ما تبقى من قيم و أخلاق، رغم وجود بعض الصحافة ذات المرجعية الأخلاقية إلا أنها تذوب أمام الكم الهائل من صحافة “التابلويد” tabloid journalism أي الصحافة التي تركز على القصص المثيرة و على الفضائح و الملاهي و أخبار المشاهير، في عملية ابتزاز مفضوح، والتركيز أيضا على التنجيم و الوجبات السريعة، التي لم تنتج سوى ضحالة في الفكر و جماهير غقيرة عاجزة عن رؤية الصورة الكاملة على حقيقتها، نظرا لغياب الوعي الذي قام التعليم بتكريسه، مصيبا الناس بتخمة في الجهل رغم كونهم متعلمون لكنهم مجرد “أميون جدد” حسب تعبير مشاعل عبد العزيز الهاجري، و بالمقابل يتم التركيز بشكل مفرط على استهلاك الملذات، و البحث عن أسهل الطرق لذلك، إننا أمام إنسان “أمي ثانويا” مصنوع حاليا جراء نظام التفاهة، لأنه يملك معارف عملية باعتباره خبير، دون أن تقوده هذه المعارف إلى مساءلة ما يستند إليه من ركائز إيديولوجية، التي كانت أول حرب في هذا النظام التافهم قد شنت ضدها، من خلال الترويج إلى أننا دخلنا عصر نهاية الإيديولوجيا، و هو في الحقيقة عصر نهاية الإنسان بما هو كائن أخلاقي و دخول عصر الإنسان السلعة. و في محاولة لتحليل نفسية التافه قام بها ألان دونو باستعارة مفاهيم سيغموند فرويد مثل الكبث و العصاب، فإذا كان الكبث عند فرويد هو الإلتزام بمبدأ الواقع أي الأعراف و القيم الإجتماعية السائدة في المجتمع و التي تعمل على كبح الرغبات والغرائز، و ذلك عبر ما مفهوم القناعة مثلا، فإن المال أو الإستحواذ عليه في ظل نظام التفاهة صار أملا لتجاوز مبدأ الواقع. و لتجاوز هذا الوضع فإن دونو ما من وصفة سحرية هنا فالحرب على اسطلح عليه إرهابا أدت خدمة جليلة لنظام التافهين و جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية، بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر “ثورة تخديرية” جديدة يقول دونو، غرضها تركيز حكم التفاهة واستدامته كتعبير عن أزمات الرأسمالية الدورية. لذلك فإن مقاومة التجربة والإغراء وإعاده معاني و عمق الكلمات إلى المفاهيم، و ضرورة التلازم بين الفكر والعمل حتى لا يتحول الكائن البشري إلى مجرد آلة صماء. المطلوب أيضا أن نقاوم كل ما لا يشدنا إلى فوق، علينا كذلك ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل المفاهيم الكبرى، عبر استعادة معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الإيدولوجيا، السياسة، الثقافة، البيئة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق، الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام… وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل فالعامل عليه أن يفكر في ما يقوم به و لمن ينتحه و ما محله في دائرة الإنتاج و توزيع هذا الإنتاج و غيرها من أمور، بآختصار لا بد من استعادة إنسانية الإنسان قبل المال و الشهرة مادام “حب الشهرة هو أعلى درجات التفاهة” حسب تعبير الروائي الأمريكي جورج سانتايانا . و كل حجر و التافهون أبعد عنا