أحمد رباص في الصباح الباكر من يوم 8 يناير 1992 مات عبد الرحيم بوعبيد الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والشخصية الكاريزمية التي شاركت جموع غفيرة في موكبها الجنائزي الذي امتد من مسجد السُنّة إلى المقبرة المجاورة للبحر بمدينة الرباط. وما أثبت هذه الكاريزمية، ضمن معطيات أخرى، هو أن عبد الإله بلقزيز، المفكر والكاتب المغربي المعروف، اعتبر قبل بضع سنوات أن الفترة التي رحل فيها الراحل الكبير عبد الرحيم بوعبيد، هي الفترة التي بدأت السياسة والعمل الحزبي يشهدان فيها اندساساً غير محسوب لمنظومة قيم كانت برانية على العمل السياسي والعمل الحزبي في المغرب، لعله آخر الكاريزمات الكبيرة في تاريخ المغرب.. إلى حدود هذه اللحظة، لا وجود لمكتب محلي في أكدز يمثل الحزب..الإخوان في نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل يحاولون تعويض هذا الغياب بحكم أن نقابتهم شكلت الذراع العمالي/الاجتماعي للحزب مع أنه يراد لها ان تكون منظمة جماهيرية ديمقراطية مستقلة..في هذه الفترة، كنت مقيما في كوخ طيني واقع غير بعيد عن مدرسة آيت مْلَكْتْ، خلفها بالضبط في سفح الجبل وسط الصخور..لا شيء يغري بالبقاء هنا خارج أوقات العمل..لذا، كنت منجذبا إلى قرية أكدز التي تمنيت كثيرا أن أعمل وأقيم فيها لعدة اعتبارات أسوق منها ما يلي.. تقع أكدز في الجنوب الشرقي للمغرب، وبالضبط بين مدينتي ورزازات وزاكورة السياحيتين تحيط بها من كل جانب جبال سلسلة الأطلس الصغير، ويتميز مناخها بالطابع الشبه صحراوي، أي أنه مناخ شبه قاري بارد شتاءا وحار صيفا، أما بالنسبة للغطاء النباتي فيغلب عليه الاكاسيا أو ما يسمى محليا ( بالطلح). وقد سميت أكدز بهذا الاسم (حسب الروايات الشفوية) نظرا لانها كانت مركز تجمع القوافل التجارية المتجهة الى السودان أو القادمة منه، حيث تتكدس في منطقة أكدز لأخد قسط من الراحة إستعدادا لإكمال الرحلة، وكانت في القديم تسمى “أكدس” والتي جاءت من التكدس اي التجمع ومع مرور الوقت تحول الاسم من أكدس الى أكدز. وتعتبر أكدز ممرا كبيرا للسياح الذين يقصدون رمال مدينة المحاميد. ويبلغ عدد سكانها حوالي8.000 آلاف نسمة غالبيتهم يتكلمون اللغة الامازيغية ( تشلحيت). ويعتمدون غالبا في عيشهم على الفلاحة، فالمنطقة عبارة عن واحة يخترقها وادي درعة والذي يعتبر أطول نهر في المغرب حيث يبلغ طوله 1200 كيلومتر ويصب في مدينة سيدي افني.وأغلبهم يعتمدون على محصول الثمور والذي يتم جنيه في فصل الخريف مع بعض الزراعات المحلية وبعض الخضر المتجة للاستهلاك العائلي أي لسد الاحتياجات الخاصة ويتم بيع الباقي منها في السوق المحلي. إلى جانب ذلك هناك نشاط تربية المواشي الذي يعد إلى جانب النشاط الزراعي مصدر الرزق الشبه الوحيد بالمنطقة. لكن في السنين الاخيرة وبفضل توافد أعداد كثيرة من السياح الأجانب وحتى المغاربة منهم يلاحظ اتجاه أبناء المنطقة إلى الاستثمار في المجال السياحي حيث لوحظ تزايد المخيمات ودور الضيافة وبناء فندق وظهور العديد من البزارات المختصة في بيع بعض الحلي والملابس التقليدية، كما لوحظ توافد بعض الأجانب الذين بدأوا في الاستثمار في المجال السياحي في المنطقة. ومن أهم المعالم التي تشتهر بها المنطقة هناك جبل كيسان الذي يعد أول ما يترأى للناظر عند الاقتراب من مدينة أكدز حيث نراه شامخا من بعيد. كما أن المدينة تشتهر بقصباتها وبدواويرها القديمة كقصبة القايد علي وقصبة تمنوكالت حيث تعد أشهرها . سكانها يتميزون بكرم الضيافة، وخصوصا مع الأجانب فعند دخولك أكدز لا تحس بأنك غريب عنها فكرم أهلها ينسيك الغربة وهمومها..لكن أكدز ليس قبلة سياحية يقصدها سياح الداخل والخارج فقط، بل سوف نعلم فيما فيما بعد أن القرية تحتضن معتقلا سريا رهيبا.. أصبح المعتقل السري السيء الذكر والسمعة بأكدزذائع الصيت وطنيا ودوليا..هو أحد هذه الأماكن التي شهدت انتهاكات جسبمة لحقوق الإنسان خلال سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كما هو الشأن في معتقلات :تزمامارت ودرب مولاي الشريف ،قلعة مكونة….وغيرها من الأماكن السرية للاعتقال التي بلغ عددها الثلاثين . تناسلت الحكايات عن أبشع صور التعذيب والمعاناة بين أسواره كشفها الناجون من جحيمه خاصة بعد إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة و إدلائهم بشهاداتهم في الإعلام وفي جلسات الاستماع العمومية. وكان من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة جبر الضرر الفردي للضحايا وجبر الضرر الجماعي لمنطقة أكدز على غرار باقي المناطق التي تضم معتقلات سرية . وإذا ركز الإعلام والرأي العام الوطني والدولي على الانتهاكات في معتقل أكدز خلال فترة السبعينات والثمانينات ،فإن سكان أكدز يؤرخون لبداية المعاناة والانتهاكات منذ الشروع في تشييده في فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب من طرف أحد أعوان الاستعمار “التهامي الكلاوي” والذي ما يزال في ملكيته. اشتهر في تقارير الجمعيات والمنظمات الحقوقية ب”معتقل أكدز”نسبة إلى المنطقة التي يتواجد فيها، وعرف محليا ب”سجن الحد”. وهو في الأصل أحد قصور التهامي الكلاوي باشا مدينة مراكش و أحد أعوان الاستعمار الفرنسي، وهو عبارة عن قصبة ذات أسوار كبيرة و أبراج عالية شيدت بين سنتي 1948م و1953م، وذلك قصد تطويق قبائل مزكيطة والحد من قوة القبائل المقاومة للاستعمار ولهذا عرف المعتقل محليا ب”الحد”(أي الحد من نفوذ القبائل ومقاومتها). وتم اختيار المكان لأهميته الإستراتيجية ،باعتباره سوقا قديما لقبائل المنطقة وممرا رئيسيا للقوافل التجارية . وما زال سكان أكدز الذين عاصروا فترة أشغال البناء يتذكرون حكايات مؤلمة عن معاناتهم والممارسات الاستعمارية في حقهم. ما زال أحد الشيوخ (92سنة)، رغم كبر سنه، يحتفظ في ذاكرته بمعاناة وتعذيب القبائل المجاورة بشتى أنواعها :من عمل مجاني و إلزامي ومصادرة للممتلكات وحمل لمواد البناء وجذوع النخل عشرات الكلومترات لإيصالها، وبعد اكتمال أشغال البناء كانت القصبة مقرا لخليفة الباشا الكلاوي حيث تجمع الإتاوات والضرائب، ووسيلة لبسط النفوذ الاستعماري على قبائل المنطقة بالقوة والقهر.وبهذا تشكل قصبة الكلاوي (المعتقل لاحقا)المعروف محليا ب”الحد” ذاكرة وماض لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلا سنوات الخمسينات من القرن الماضي، ولم يكونوا حينها يدركون أن نفس المكان الذي عانوا منه كثيرا سيعاني منه بعد حوالي عقدين من الزمن مئات الضحايا من مختلف الأعمار والأجناس ومن مناطق نائية ومختلفة، بعد تحويله إلى معتقل سري رهيب، تبدأ فصول معانات يحكيها الناجون من جحيمه ويبدأ الجميع في مسلسل كشف الحقيقة . بعد جلاء الاستعمار عن المنطقة تحولت القصبة إلى معتقل سري غير نظامي وفيه تم إيداع المئات من ضحايا الاختطاف والاختفاء القسري بين سنتي 1975م و1984م .وحسب مصدر حقوقي فإن مجموعة 3 مارس في تنغير كانت من أولى ضحايا هذا المعتقل بعد تحويلهم من تكونيت. وبعد ذلك، جيء بمجموعات من المعتقلين المقيمين في الأقاليم الجنوبية الصحراوية وبلغ عددهم حوالي 400 شخص من عدة مدن وأجناس وفئات عمرية متنوعة :رجالا ونساء وأطفالا ومنهم عائلات بأكملها أعمارهم تتراوح بين 12 و90 سنة. ومن المعتقلين أيضا مجموعة بنو هاشم في 1977م وهم خمسة طلبة :محمد الرحوي – محمد النضراني – مولاي ادريس لحريزي – عبد الرحمان قونسي وعبد الناصر بنو هاشم، اعتقلوا في الرباط ونقلوا من المركب البوليسي بأكدال إلى أكدز في 05 غشت 1977م وكانت ظروف الاعتقال رهيبة وسيئة للغاية، وهي كما يرويها المعتقلون، اتخذت أشكالا متعددة: حيث أجبر المعتقلون على البقاء باستمرار في وضعية ثابتة، إما قعودا أو جلوسا أو انبطاحا على الأرض أو وقوفا معصوبي العينين مقيدي اليدين، كما مُنِع التواصل والكلام بين المعتقلين.إضافة لسوء التغذية ،كما وكيفا، وتلوث المياه وانتشار الفئران والعقارب في الزنازن ،.ولم ُيسْمح بالذهاب إلى أماكن النظافة إلا ناذرا وحسب مزاج الحراس، أما الاستحمام فلا يتم إلا بعد شهور من الاعتقال.. وكان هذا الوضع يتسبب في معاناة نفسية خاصة للنساء في فترة الحيض، وانتشر القمل وغيرها من الحشرات المؤذية، وظهرت العديد من الأمراض بين المعتقلين وأصيب بعضهم بأمراض نفسية ومنهم من فقد الذاكرة . وتسبب عدم تقديم العلاجات الضرورية في الوقت المناسب في العشرات من الوفيات في المعتقل (حوالي 32 حالة وفاة ) دفنوا في المقبرة المجاورة للمعتقل، وكانت عملية الدفن تتم ليلا وبطريقة سرية دون علم أو إخبار أقارب المتوفين . وحسب شهادات كثيرة ومتطابقة للسكان المجاورين للمعتقل فإنه تم غلق كل الطرقات والمنافذ المجاورة للمعتقل ومنع المرور والتجول مما أثار الخوف والرعب لدى السكان الذين شبه أحدهم الوضع بأن السكان معتقلون خارج المعتقل، وذلك لشدة الإجراءات الأمنية حتى في واضحة النهار. وضُرِبتْ سرية شديدة عن معتقل أكدز، فسكان المنطقة لا يعلمون بهوية المحتجزين ويجهلون ما يقع داخل الأسوار العالية، ولا المعتقلون يدركون في أي مكان في الدنيا يتواجدون بعدما يدخلون المعتقل في جنح الظلام وداخل شاحنات مغطاة بإحكام، قطعت بهم مئات الكيلومترات ولعشرات الساعات، غير أن المعتقلين بفطنتهم – كما يروي أحدهم- استطاعوا فك لغز المكان المجهول والسري لاحتجازهم رغم انقطاعهم التام عن العالم الخارجي، وذلك من خلا ل حديث الحراس عن “أكدز” و”ورزازات” و”زاكورة” وعن السوق الأسبوعي يوم الخميس…وغيرها من القرائن التي تدل على أكدز الذي لم يسبق لهم أي علم به من قبل.. وفي إحدى الروايات أن أحد الممرضين دخل لمعاينة الحالة الصحية للمعتقلين فلاحظوا أن الورقة التي يحملها الممرض تدل على المركز الصحي بجماعة أكدز –عمالة ورزازات (في ذلك الوقت) وهذه الرواية أكد صحتها السيد محمد النضراني المعتقل السابق ضمن مجموعة بنو هاشم بأكدز.وكان تجميع كل هذه المعطيات وغيرها من القرائن مكن المعتقلين من تحطيم جدار السرية والمجهول وهو ما تعزز بعد عملية الإفراج والتقاء مختلف المجموعات التي مرت من المعتقل. وظلت عشرات العائلات تجهل مصير ذويهم المتوفين في معتقل أكدز لعشرات السنين، وبعد إدلاء بعض الناجين بشهاداتهم، كما ورد في شهادة السيد شاري الحو من مدينة كلميمة أثناء حديثة في جلسات الاستماع العمومية التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة ونقلتها وسائل الإعلام، حيث أفاد بوفاة اثنين من رفاقه خلال فترة اعتقالهم بأكدز. وقد اعتمدت هذه الشهادات ومعطيات مقدمة من طرف السلطة المركزية والوثائق المتوفرة لدى السلطات الإقليمية وشهادات تقدم بها موظفون سابقون عاينوا ظروف الوفاة والدفن لتحديد هوية العشرات من قبور المعتقلين الذين دفنوا في المقبرة المجاورة للمعتقل..