لا يسعك وأنت تتفحص المشهد السياسي المغربي إلا أن ترفع قبعتك احتراما لذكاء وقدرة الدولة (المخزن) على تدجين الأحزاب واحدا تلو الآخر، وفي نفس الوقت لا يسعك إلا أن تستغرب من غباء النخبة السياسية بالمغرب وعدم قدرتها على استنباط الدروس والعبر من الأحداث والوقائع التي حفلت بها الساحة السياسية بعد الاستقلال. شخصيا كنت آمل أن يستفيد حزب العدالة والتنمية من تجربة حزب الاتحاد الاشتراكي في علاقته بالدولة، وكيف تحول من رقم صعب في المعادلة السياسية بالمغرب لما كان ناطقا باسم آمال ملايين المغاربة المتعطشين لبناء دولة مؤسسات يحترم فيها المواطن ويسود فيها القانون، إلى حزب يعيش اليوم على أنقاض تاريخ عريق صنعه مناضلوه بين جدران السجون وفي المنفى، حزب صار اليوم يختبئ وراء أحزاب مخزنية الصنع حتى يضمن بقاءه في دائرة السلطة بعد أن سلبه بريقها، فكان ذاك البريق الذي يستهوي الأشخاص المأسورين بحب الجاه والمال سببا رئيسيا في فقدان الحزب الكبير لهالته بعد أن صار مناضلوه لا يعبرون عن إرادة الشعب، فصار من كان يشجب بالأمس القريب تحت قبة البرلمان منددا ومتوعدا من مغبة تفويت قطاعات عمومية للخواص، هو من يسهر شخصيا على بيعها وبثمن زهيد، وصار من كان يدافع عن الطبقات المسحوقة هو من يعفي الشركات وأصحاب رؤوس الأموال من الضرائب.....فصار الحزب بذلك كما نراه اليوم حزبا كباقي الأحزاب بل رقما كسائر الأرقام بعدما تم تدجينه وتقزيمه في الساحة السياسية. كنت أتمنى أن يستفيد حزب العدالة والتنمية من هذا المشهد، وأن تكون نخبه واعية بما يعتمل في الساحة السياسية المغربية، وأن يقدروا الأمور أحسن تقدير حتى لا يأتي اليوم الذي يصير فيه الحزب رقما كباقي الأرقام، كنت أمني النفس أن تكون تجربة الحزب تجربة فريدة تتحقق معها آمال الملايين من المغاربة كما وقع في تركيا. لكن للأسف يبدو أن الحزب فقد البوصلة بعد بلوغه لا أقول للسلطة ولكن لتسيير الشأن العام، حيث لم يستفد بتاتا من تجربة الاتحاد الاشتراكي، ولم يتعظ بها، لقد آثر الحزب أن يتنكر للأصوات التي اعتقدت أنه الأمل، وارتمى في حضن "المخزن" ينفد فقط تعليماته و أوامره، التي كان الهدف منها إحداث قطيعة بين الحزب والمتعاطفين معه تمهيدا لتدجينه وإفقاده بريقه فيصير هو الآخر رقما آخر جديد في سلسلة الأرقام الحزبية المغربية الفاقدة للشرعية الشعبية. فعلا لقد استطاع المخزن اليوم أن يوسع الفجوة التي أحدثها بين الحزب وباقي أطياف الشعب المغربي، استطاع بقدرته المدهشة أن يجعل وزراء الحزب يظهرون بمظهر المعارضين لإرادة الشعب، غير المحترمين لإرادته الحرة التي تكفلها السوق الحرة، فخرج وزراءه متحدثين باسم تلك الشركات مرة مبررين ومرة مدافعين ومرة مهددين في خطوة غير محسوبة البتة، فصاروا بذلك في خط المواجهة المباشرة مع الشعب الذي منحهم ثقته، وتحولوا من مدافعين عن مصالح الشعب ضد غطرسة وجشع الشركات إلى ناطقين باسمها وباسم أصحابها، فاستطاع بذلك المخزن اليوم الاستفادة من حملة المقاطعة، وأن يقلب الطاولة على حزب العدالة والتنمية بالدرجة الأولى بأن جعله في مرمى نيران المدفعية الفايسبوكية للشعب بعد خرجات مسؤولي الحزب غير المسؤولة، وبذلك سيكون المخزن بعد اليوم مطمئنا من أن الحزب صار كالباقي يؤثت به المشهد ولا يحمل أي إضافة نوعية يمكن أن يقلق بشأنها، بعد أن استطاع أن يجعله يتذوق حلاوة الارتماء في أحضان السلطة، وبذلك يبقى موعدنا مع الإصلاح مؤجلا إلى أجل لا يعلمه إلا الله.