منذ انفجار الانتفاضة الأم الكبرى فى السابع من شهر ديسمبر عام 1987 يكون قد مرّ واحدٌ وثلاثون حولاً على إنطلاقها فى فلسطين الصّامدة ،هذه الإنتفاضة كانت صيحة مدوّية، وبداية انطلاق تضحيات جِسام ، وعطاء وسخاء فى النفس، والقلب، والرّوح ،والوجدان،وبكلِّ غالٍ ونفيس فى هذه الارض الطيبة المعطاء ، كانت إيذاناً بعناق النضال المتواصل ، وكانت قسَماً علانياً صادقاً صريحاً للدفاع عن حوزة الوطن الغالي المسلوب ظلماً، وعدواناً ،وقهراً، وقسراً،وبهتاناً،كانت هذه الإنتفاضة الجماهيرية والشبابية والنسائية زغاريد صادحة فى حناجر الأيامى،واليتامى، والأرامل، والثكالى، ولدى آباء وأمهات الشهداء الأبرار، والشهيدات الطاهرات. كانت مهرجانات للتسابق، والتباري بين الرجال، والنساء، والأطفال، والشباب، والشيوخ، لمعانقة الملائكة النورانييّن فى علياء السّماوات ومعارجها السّامقات، الجميع من أبناء وبنات فلسطين انطلقوا فى هذه الإنتفاضة كهبوب رياح عاتية، مسلّحين بجرأة الأجداد ، وحماستهم ،انخرطوا جميعهم فى مواجهات عنيفة دامية مع الخصوم من جنود الإحتلال الغاشم ،و اقاموا العيادات العلاجية المتنقلة لتضميد قروح الجرحىَ المكلومين برصاص العدوّ الظالم، وتقديم المواساة للعائلات الثكلى،وواجب العزاء لأمّهات وآباء الشهداء الأبرار، لقد شكّلت هذه الإنتفاضة الكبرى سدّاً منيعاً، وجداراً صلباً ،كانت كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا، يُوحّد صفوف الصّامدين ،ويشجّع أفواج المتعطشين للنّصر المبين ،ولقد عملت هذه الانتفاضة على شلّ أسلحة العدوّ، وتقديم درس للخصم العنيد لن ينساه أبداً فى الشجاعة، والبسالة، والحشد، والإقدام إذ كانت تعتمد أساساً على حِجارة أرض فلسطين الطاهرة ، بالإضافة إلى استعمالها فى حالات عديدة لأسلحة تقليدية متوارثة مثل المرايا، ومنجنيقات الحجارة، والمولوتوف،وسواها من وسائل الدفاع، ولقد اتّسمت هذه الإنتفاضة بالتكاتف، والتكاتل، والتقارب، والتداني، والتحابّ،والتضحية والفداء،والإلتئام والإلتحام، وقهرالإحتقان المكتوم ،وإعلاء صوت الغضب السّاطع الذي انبثق من أعمق أعاميق مخادع القلوب. وعلى الرّغم من انعدام الوسائل الإعلامية السّمعية والبصرية الواسعة خلال انطلاق الانتفاضة الأولى ، وعلى الرّغم من حظر التجوال، والتنقال، وعلى الرّغم من إغلاق الجامعات ،والمدراس، ووقوع الآلاف من المعتقلين أسرىَ فى غياهب السّجون الإسرائلية المقيتة، وزنازينها الرهيبة، فإن ذلك لم يكن له أدنى تأثير على سير الحياة اليومية المتواترة فى مختلف المجالات،وهكذا شكلت هذه الإنتفاضة منذ انطلاقها تحدّياً صارخاً للاحتلال الإسرائيلي وأذياله وأعوانه . أصداء الإنتفاضة كان التوتّر والتذمّر يشمل مختلف المناطق الفلسطينية ، فى غزّة الصّامدة،وفى مدينة القدس الخالدة، الاعتداءات المتكرّرة اللاّمسؤولة لاسرائيل مهّدت السبيل لانبثاق ردود فعل عنيفة أنذرت بتحرّكات، وانتفاضات لأبناء فلسطين البررة وشبابه االنّضر ، الشئ الذي اعتبره البعض إرهاصاتٍ، وأماراتٍ لإنطلاق إنتفاضات جديدة بعد الإنتفاضة الأولى والثانية ،ممّا زاد من تصعيد الموقف فى مختلف الواجهات. العديد من الإعلاميين، والصحفيّين، والمراسلين من مختلف أنحاء العالم تابعوا عن كثب، هذه التحرّكات وقاموا بتغطيات متواترة حثيثة للتطوّرات التي عرفتها المنطقة وكانت غالباً ما تفضي إلى هيجان وغليان فى مختلف مناطق فلسطين المُحتلة ، تحدّث السياسيّون، والاعلاميون فى مختلف أنحاء المعمورعن إحتمال إندلاع انتفاضات جديدة، إذا ظلّ الإسرائيليون متمسّكين بتعنّتهم، وجمودهم، وبمواقفهم المُعرقلة لتحقيق أيّ "سلام"، وكتب الكثير، وسال مداد غزير عن مواجهات فعلية انفجرت بين أطفال وشباب فى عمر الزّهور وبين الآلة العسكرية القمعية الإسرائيلية المقيتة التي لا تقيم وزناً لرضيع أو صغير، أو لكهل أو شيخ كبير، أو لأمّ ثكلى، أولإمرأة مترمّلة،وكانت هذه الاعتداءات المتوالية للجيش الاسرائيلي تصل مداها وصداها إلى أقاصي بلاد الله الواسعة،إليكم نموذجاً منها : كاتب أرجنتيني يُشيد بصُمُود الإنتفاضة من أهمّ الكتب التي وقعت بين يدي فى هذا القبيل التي تعرضّت لشجاعة وجرأة هذه المواجهات ،والإنتفاضات كتاب يحمل عنوان" حرب الحجارة " للصّحافى الأرجنتيني " خورخي لاناطا " وهوكتاب صالح للقراءة في كلّ وقت وحين، طالما أنّ التعنّت الإسرائيلي مُستمر وقائم ومتمادٍ فى غيّه وجبروته الذي يندى له جبين البشرية فى كلّ مكان.هذا الكتاب لا ينحصر فى وصف تحرّكات أطفال صغار،أو انتفاضات شبّان يافعين للتصدّي بواسطة الحِجارة لمصفّحات، ودبابات جيش عنيد مُجهّز بأحدث وسائل القمع، والتقتيل، والتنكيل، والدمار في العالم وحسب، بل إنّ الكاتب ينأى عن هذه الوتيرة الإعتيادية لتصبح نصُوصُه سرداً أدبيّاً وصحافيّاً نابضاً لما يحدث حقيقة فى فلسطين. ومن ثم تكتسب نصوص هذا الكتاب قيمة أدبية هامّة إلى جانب محتواها الإعلامي سواء من حيث الأسلوب أو المضمون على حدٍّ سواء. ولذلك لم تتردّد دار النشر (إيديتورا 12) التي قامت بنشر الكتاب في إسبانيا إلى التأكيد عند تقديمه للقرّاء :" أنّ الكتاب الذي أمامكم هو كتاب حرب ، إلاّ أنّه في الوقت ذاته سرد واقعي مؤلم، وحكايات مُمتعة من صنف أدب الإعلام، والإستطلاعات، والرّحلات الذي عُرف به كبارالمراسلين الحربيّين، والمخبرين الأنغلوسكسونييّن" عمّا كان يجري فى العالم من تظلّم وتفاوت وتعنّت،وها هي ذي نفس الصّورة نراها تتكرّر من طرف إسرائيل ، وبالمقابل تواجهها شجاعة فائقة، وصمود،ونضال، ومواجهة بطولية مُستميتة من طرف الفلسطينيين يردّون بها إعتداءات، وتظلمات اسرائيل المتوالية. في عمق الأحداث الكاتب الصّحافي "خورخي لاناطا " في هذا الكتاب يسافر ،ويتنقّل ، ويسأل، ويلاحظ، ويراقب، ويغامر ،ويخاطر بنفسه ثمّ بعد ذلك يحكي لنا تجاربه اليومية المرّة المتواترة القاسية المُعاشة بين الفلسطينيين وجيش الإحتلال الاسرائيلي. إنها أخبار الأيام الحامية ،السّاخنة أيّام المقاومة والإنتفاضات وحروب الحجارة ، وتقابلها حروب الرّصاص، والمواجهات المتوالية يرويها لنا المؤلف في هذا الكتاب بمهارة ، وجمالية نادرة وأسلوب موفٍ بليغ، يحفل بالاثارة، والصّخب، قلّما نعثر عليه في لغة الصّحافة اليومية التي يرسمها لنا الإعلام المعاصر هذه الايّام ، إنّنا واجدون في هذا الكتاب حوارات مقتضبة، و نظرات عجلىَ في فضاءات لانهائية، أو تعليقات يلتقطها الكاتب فى عرض الطريق، حيث يغدو كلّ ذلك أمام أعيننا بمثابة مفاتيح تكشف لنا عن عقم ولامعقولية، ومدى شراسة هذه الحرب الضّروس التي لا مُبرّر لها ، والتي تأبىَ اسرائيل المتعنّتة إلاّ أن تزيدها أواراً ، واشتعالاً،وإضراماً . يصل المؤلف الى منطقة المواجهات فيجد نفسَه فى عمق الأحداث، ويدفع به فضوله ليرى ويلمس أنّ مجتمعاً يزعم ويدّعي لنفسه أنه يدافع عن قضية عادلة، وهو المجتمع الاسرائيلي، فإذا به فى حقيقة الأمر هو ذو قضية غير عادلة، بل ظالمة عمياء يدير ظهرَه بإمعان وبلا مبالاة لحقوق الطرف الآخر. كما يجتهد الكاتب الأرجنتيني باحثاً عن أصول هذا الصّراع فنجده يغوص في متاهات ثقافية تبدو غريبة ومتباعدة. ويحاول جمع خيوط هذا المشكل العويص، وحبك حكايات لكتابه الذى يذهب فيه أبعد من مجرّد إعلام إخبارى، أو سردي فإذا به يتنقّل بين المكاتب والثكنات، ويجوب الأزقة والشوارع، والدروب، ليكشف لقرائه عن الوجه الآخر البشع لهذه الحرب اللعينة، ولهذا الحصار الجائر ، هذا الوجه الذى يُخفى وراءه أفدحَ الجرائم، وأحلك المآسي التي عرفها التاريخ، إنّ القارئ المتتبّع لهذه الحكايات بعد طول تجوال وتنقال ينتهى به المطاف إلى تجربة قاسية ومؤلمة تجعل مؤلف الكتاب في دوّامة من القلق والتوتّر إزاء هذه الصّراعات والمواجهات التي تعرفها هذه المنطقة من العالم منذ ما يربو على سبعين عاماً . حيث يعمل الكاتب على نقل ،ووصف، وتصوير، ورصد ذلك كلّه في صور حيّة ،وأحداث مؤلمة، وإيماءات حميمية ، فى أسلوب أدبي صحافيّ رفيع. لمن تقرع الأجراس كتاب "خورخي لاناطا" يتميّز بسرد صحافيّ في قالب أدبيّ رائع ، قوامه أسلوب جذّاب حافل بالعبارات الآسرة، والمُركّزة، والمُوفية، والبليغة، والمؤثّرة . إنّ المؤلف يعمد إلى وصف الملامح، وتصويرالأماكن، ونقل الأحداث بدقّة متناهية، وبمهارة فائقة، إنه كاتب يجيد فنّ الحوار ، سواء كان حواراً ذاتياً بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الآخرين، أو بين شخصيات حكاياته الحقيقية المُستلهمة من الواقع المرير المعاش. إننا واجدون فى هذا الكتاب سخرية مرّة،وتهكّماً فاضحاً، من تعنّت رجال الدّرك، والحرّاس،والشرطة، والجنود أو من المسؤولين الإسرائليين بشكل عام، وتخوّفهم من الصّحافيين ، وفرارهم من وسائل الإعلام ، إنّه يصف لنا وصفاً دقيقاً مظاهرَ الذّعر والهلع اللذين يعلوان محيّاهم ، والرّعب الذي يملأ قلوبهم ، ويتابع الكاتب أثرهم، ويقتفي أخبارَهم، ويرصد تحرّكاتهم ،وحرصَهم على عدم إطلاعه علي حقيقة الوضع، سواء داخل إسرائيل، أو في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. إنّ قارئ الكتاب يشعر وكأنّه يتابع فصولاً من رواية " لمن تقرع الأجراس" للكاتب الأمريكي "إرنست همنغواى" الذي كان هو الآخر مراسلاً صحافياً خلال الحرب الأهلية الاسبانية،(1936-1939) نظراً لعناصرالإثارة والتشويق في الكتاب، وهكذا يسترسل الكاتب "لاناطا" متنقّلا من مشهد الى آخر، ومن واقعة إلى أخرى، ومن حدث إلى آخر، ومن مواجهة عنيفة إلى أخرى ، ومن معاناة قاسية إلى معاناة . وتصل السّخريّة مداها ، وتبلغ أوجها في الكتاب عندما يصف المؤلف سِحَنَ وملامحَ الإسرائيليين الذين يلتقي بهم وكيف أنّ وجوههم متباينة، لا تجمعهم صفة واحدة مشتركة، كما هو الشأن مع باقي شعوب العالم، وهم بالتالي قليلو الشّبه بعضهم ببعض لإنتمائهم إلي أجناس،وإثنيات، وأعراق ،ومجتمعات مختلفة نائية. كما تظهر هذه السخريّة عندما يعهد الكاتب إلى إجراء مقارنات فى مستوى العيش بين الإسرائليين أنفسهم، بين اليهود الأشكناز، واليهود السفارديم، واليهود المزراحيون،واليهود الفلاشا،وسواهم، فضلاً عن مستوى العيش بين الإسرائيليين والفلسطينيين حيث تفصلهم هوّة سحيقة، وبرزخ واسع في هذا القبيل ، فالإسرائيلي الإشكنازي العادي يتوفّر على سيارة فارهة، ولديه هاتف منزلي، وآخر محمول، وهو يتوفّر على كلّ مستلزمات الحياة العصرية المريحة، كما أنّه يكسب ما ينيف على آلاف الدولارات شهرياً ، في حين لا تتوفّر الإثنيات الأخرى من اليهود أنفسهم على هذه المزايا والإمتيازات، وأما بالنسبة للمواطن الفلسطيني فإنّه لا يتوفرعلى هذه المستلزمات التي أصبحت تشكّل ضرورة ملحّة فى الحياة العصرية لدى أيّ مواطن من مواطني العالم، وهو حتى ولو كان يزاول العمل نفسَه، أو يشغل المنصب ذاته الذي يزاوله أو يشغله "الإسرائيلي" فإنّه يتقاضى مرتّباً أقلّ بكثيرممّا يتقاضاه هذا الأخير سواء في غزّة أو داخل إسرائيل نفسها . و هكذا يزداد الكاتب إمعاناً في السّخرية والتهكّم من المجتمع الإسرائيلي عندما يستمع إلى إذاعة ناطقة باللغة الإنجليزية في إسرائيل وهي- ويا للمفارقات العجيبة – تسمّى ب :"إذاعة صوت السلام"، وكانت تبثّ برامجها من على ظهر مركب ،ويقدّم الكاتب من باب السخرية والإزدراء أيضاً نتفاً وفقرات أو مقتطعات من نوعية الأخبار التي عادة ما تذاع أو تبثّ من هذه الإذاعة ، فإذا معظمها يدور حول أهوال الحرب ، والمواجهات ،والإنتفاضات، والمظاهرات،والإضرابات وأحداث الضفّة الغربيّة، وغزّة ،والقدس الشريف ،وسائر الأراضي الفلسطينية . سرد صحافيّ فى قالب أدبيّ وجاء الكتاب في شكل سرد أدبى مُسترسل، فى قالب صحافي سلس متّصل الأحداث، مترابط الحلقات، يوحى للقارئ بالفعل أنّه أمام نوع خاص من كتب أدب المخاطرة والمغامرة، وليس أمام تحقيقات صحافية، ومتابعات،وتغطيات،واستطلاعات إعلامية تنقل ،وتعالج، وترصد ، وتتابع،وتصف أخطر، وأعنف ،وأعوص قضية من قضايا العصر. وتنضوى أحداث ووقائع الكتاب تحت عناوين مثيرة مثل :"الخطّ الأخضر"( وهم الخط الذي كان يفصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلّة بعد نكسة 1967).و"أصوات الصّمت". و "الحرب والسلام"، و"بائعوالبرتقال "، "وأبيض وأسود"، و" طائرأسود". كما يتضمّن الكتاب أوصافاً دقيقة، ومتابعات سردية حثيثة للحياة اليومية المتواترة داخل إسرائيل، أو في الأراضى الفلسطينية المحتلّة، وهو رصد حيّ لعلامات، وأمارات القلق الدائم الذى يسود المجتمع الاسرائيلي على وجه العموم . وقد خصّ المؤلف الفصل الأخير من الكتاب للحديث عن الإنتفاضات منذ انطلاقها متنقّلاً بين المناطق، والأماكن،القرى، والمداشر، والضّيع، والبقاع، والأصقاع، فى مختلف الأراضي الفلسطينية سائلاً، مُستفسراً، مُستقصيا، مُتتبّعاً، راصداً، واصفاً، ناقلاً، وحاكياً. ويتميّز سرده بالدّفق النصّي المتداعي البليغ، وهو فوق ذلك كلّه شهادة حيّة ناطقة وصادقة تأتينا من بلد بعيد عنّا جغرافياً بلد التانغو والأدب الرفيع (الأرجنتين) ولقد كُتب هذا الكتاب بلغة حيّة واسعة الإنتشار يتحدّث بها اليوم ما يقارب 600 مليون نسمة فى العالم وهي اللغة الإسبانية. عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.