ليس لأحد أن يتشكك في الثورات والانتفاضات التي انهمرت على قحطنا السياسي الطويل، وأحيت الموات، إلاّ أن يكون مناهضاً للتغيير، مدافعاً عن الاستبداد والفساد وعن قواه التي اندحر منها مَنِ اندحر، ومازال الباقي منها ينتظر . ليس له أن يتشكك فيها، وهي تتسع نطاقاً وتشحذ المزيد من العزائم والإرادات، إلا أن يكون مايزال في نفسه بقية من أمل في أن يرى قوى الثورة المضادة تنهض من تحت رماد الحريق العظيم الذي أشعلته الشعوب في الحقبة السياسية النكراء البائدة، كي تعيد عقارب الزمن إلى وراء قريب . ليس له أن يتشكك في ما هو اليوم في حكم الحقيقة الفاقعة: نهاية عهد مظلم وبداية عهد جديد . الشك اليوم (هو) في مقام الشبهة - حتى لا نقول البيّنة على سوء الطّويّة - أو شيء بهذه المثابة . ليس له أن يتشكك في الثورات والانتفاضات: استقلالِ قرارها وعدالةِ مطالبها ورحابةِ الآفاق التي تفتح، ولكن له أن يخشى عليها كل خشية، وأن يضع يده على قلبه وهو يتابع الفصول الجديدة منها وهي تتلاحق أمام ناظريه وتنهمر أخبارها على مسمعه . والخشية هذه مشروعة ومبرّرة تماماً لأن في الوقائع والحقائق والتطورات ما يحمل عليها . وهي، إلى ذلك، نابعة من شعور الحرص على مستقبل هذه الثورات والانتفاضات، وعلى رؤيتها تنتهي إلى إحراز الأهداف الكبرى التي من أجلها اندلعت، وعلى طريقها قدّمت التضحيات . ما أغنانا، إذاً، عن بيان الفارق بين شك يحبط ويخذل وخشية تروم أن تنبّه وتحذّر . ثمة الكثير مما يُخشى على الثورات والانتفاضات منه: مما يكيده الكائدون لها عن تصميم وإصرار وسبق ترصّد، وأكثرهم في الخارج، ومما يرسمه لها من مسار ومآل بعض من لا يُحسنون إدارة مرحلة التغيير، وأكثر هؤلاء في الداخل . قلنا “الأكثر" في الحالين، لأن في الخارج من لا يعنيه كثيراً أن يرى هذه الثورات والانتفاضات تسقط أو تخفق في مسعاها إلى تغيير الأحوال، حتى لا نقول إن في ذلك الخارج من يبدي أشد التعاطف مع - والمناصرة لهذه الثورات كما هي حال القوى الديمقراطية والحيّة - الشعبية والمدنية - في العالم، ولأن في الداخل قوى الثورة المضادة - وفي جملتها فلول العهد البائد - من التي تتحيّن فرصة الانقضاض على مكتسبات الثورة، أو توليد أسباب إغراقها في تناقضات لحظة التغيير أو المرحلة الانتقالية بعد إنجاز التغيير . وإذا كان يسعنا أن نسمّي القوى المعادية للثورة - في الداخل والخارج - بقدر من اليسر لأنها تقليدية ومعروفة، فإن الذي قد يحتاج إلى جهد ويقظة أكبر هو معرفة من يساعد بأفعاله تلك القوى المعادية، فيوفر لها الأداة المحلية: حتى وإن حصل ذلك على نحو غير موعىً به! وما السياسات والخيارات الخاطئة في الداخل تلك التي تضع مستقبل هذا الربيع العربي على كف عفريت! لهذا الخوف ما يبرره اليوم، يكفي المرء أن يلقي نظراً على بعض ما يقلق في أوضاع هذه الثورات والانتفاضات كي يتبين حاجتنا إلى شد الانتباه إلى أقصاه، وإلى تدارك ما يقبل التدارك . ليس في أوضاع تونس ومصر ما يريح في هذه الأيام . نجح الشعبان الكبيران في إطاحة طاغيتين فاسدين مفسدين، وبالكثير من أركان نظاميهما ورموزهما، وفي فتح الطريق أمام تدفق التاريخ في بلدين أقفل الطغاة أبوابهما أمام تيارات التطور . لكن الثورتين ما برحتا، حتى الآن، تعانيان تناقضات الميلاد وأوجاعه، وتشهدان صنوفاً من المنازعات المبكرة على السلطة ولمّا تستوفيا شروط العبور من المرحلة الانتقالية . ولسنا نشير، بهذا، إلى ما تلقيانه من ضروب التخريب والتعويق من قبل قوى الثورة المضادة من بقايا النظامين البائدين، وإنما نقصد إلى الإشارة إلى ما بين الشركاء في الثورة من فقدان ثقة بينهم ومن تهيّب متبادل لا يقدّم دليلاً طيباً على استقامة العلاقة بينهم في المستقبل على ما تقتضيه حاجة البناء المشترك للمستقبل، وواجب العبور بالبلدين من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة البناء الديمقراطي، ومن ضفّة الشرعية الثورية إلى ضفاف الشرعية الديمقراطية، إن الجدل البيزنطي، القديم والمتجدد، بين الإسلاميين والعلمانيين على أسس الدستور والقيم الحاكمة وعلاقة الدولة بالدين، مؤشر سياسي غير مريح، ويهدّد استفحاله بتوليد نزاعات قد تأكل رصيد الثورة برمته، لا قدّر الله، وقد تبني العلاقة بين الفريقين - في أفضل أحوال هدوئها - على غش متبادل ما أغنى تونس ومصر عن تبعاته! ومع أنه يسع المرء أن يقول إن هذه تناقضات عادية تعيشها كل ثورة في المراحل الأولى منها، وخاصة حينما تكون ثورة شعبية عفوية من دون قيادة، مثلما هي حال الثورتين التونسية والمصرية، فإن حال الفراغ التي خلّفها سقوط النظامين قد تستفحل أكثر إذا لم يقع سدّها بتوافق وطني صادق ومبني على فكرة الشراكة وما يستتبعه العمل بها من إقدام شجاع على تنازلات متبادلة لبناء القواسم المشتركة، ومن تصفية حساب جريئة مع منازع الاسئثار بالقرار أو احتكار السلطة والمستقبل . وهذا اليوم هو عنوان التحدي السياسي المصيري الذي يواجه الثورتين في تونس ومصر . إذا كانت هذه أحوال الثورتين اللتين نجحتا في أكثر البلاد العربية تمتعاً بالتجانس الاجتماعي والوطني (تونس ومصر)، فكيف بانتفاضات أخرى لم تظفر بنهاية سياسية نظير تلك التي ظفرت بها الثورتان المومأ إليهما؟ وكيف بها في مجتمعات عربية شديدة التنوّع في التكوين الاجتماعي حتى لا نقول إنها تعاني نقصاً فادحاً في التجانس والاندماج، وتعاني معارضاتها انقسامات وتشرذماً (ما خلا اليمن)، وضعفاً حاداً هو من مواريث عقود من غياب حياة سياسية في بلدانها؟! ليست وظيفة هذه الملاحظات والأسئلة أن تطعن في الثورات والانتفاضات، أو أن تنشر اليأس في النفوس من إمكان نجاحها، لكنها تبغي التنبيه إلى خطورة استسهال ما يجري على مسرح السياسة اليوم أو تصويره بمفردات انتصارية وتبشيرية، وإلى حاجتنا إلى وقفة مراجعة للتفكير في كل ما جرى، وكيف يجري، وإلى أين يتجه، وما السبيل إلى صون المكتسب وطلب الأفضل وتفادي غير المرغوب فيه . إن التغيير الديمقراطي حلم عظيم ومُلْهِم مِن دون شك، لكنه ليس سهل المنال كما قد يُخيّل إلينا في لحظة النشوة .