بنكيران: وفد حماس لم يحصل على التأشيرة لدخول المغرب وجمعنا أزيد من مليون درهم حتى الآن    المباراة الوطنية الخامسة عشر لجودة زيت الزيتون البكر الممتازة للموسم الفلاحي 2024/2025    أخنوش يمثل أمير المؤمنين جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    اختيار فوزي لقجع نائبا أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    مناظرة جهوية بأكادير لتشجيع رياضي حضاري    العثور على جثة بشاطئ العرائش يُرجح أنها للتلميذ المختفي    تتويج 9 صحفيين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    الجامعي: إننا أمام مفترق الطرق بل نسير إلى الوراء ومن الخطير أن يتضمن تغيير النصوص القانونية تراجعات    بواشنطن.. فتاح تبرز جاذبية المغرب كقطب يربط بين إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة    جديد نصر مكري يكشف عن مرحلة إبداعية جديدة في مسيرته الفنية    بدء مراسم جنازة البابا في الفاتيكان    مؤتمر "البيجيدي" ببوزنيقة .. قياديان فلسطينيان يشكران المغرب على الدعم    الملك محمد السادس يهنئ رئيسة تنزانيا    جيدو المغرب ينال ميداليات بأبيدجان    المغرب يرفع الرهان في "كان U20"    المغرب يرسّخ مكانته كمركز صناعي إفريقي ويستعد لبناء أكبر حوض لبناء السفن في القارة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    إطلاق مشروعي المجزرة النموذجية وسوق الجملة الإقليمي بإقليم العرائش    برهوم: الشعب المغربي أكد أنه لا يباع ولا يشترى وأن ضميره حي ومواقفه ثابتة من القضية الفلسطينية    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    هولندا.. تحقيقات حكومية تثير استياء المسلمين بسبب جمع بيانات سرية    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" ببني شيكر.. والدرك يفتح تحقيقات معمقة    شبكات إجرامية تستغل قاصرين مغاربة في بلجيكا عبر تطبيقات مشفرة    هولندا تقرر تمديد مراقبة حدودها مع بلجيكا وألمانيا للتصدي للهجرة    من تندرارة إلى الناظور.. الجهة الشرقية في قلب خارطة طريق الغاز بالمغرب    تتويج الفائزين في مباريات أحسن رؤوس الماشية ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2025    كرانس مونتانا: كونفدرالية دول الساحل تشيد بالدعم الثابت للمغرب تحت قيادة الملك محمد السادس    بدء مراسم تشييع البابا فرنسيس في الفاتيكان    ولاية أمن الدار البيضاء توضح حقيقة فيديو أربعة تلاميذ مصحوب بتعليقات غير صحيحة    ماذا يحدث في بن أحمد؟ جريمة جديدة تثير الرعب وسط الساكنة    المعرض الدولي للنشر والكتاب يستعرض تجربة محمد بنطلحة الشعرية    لقاء يتأمل أشعار الراحل السكتاوي .. التشبث بالأمل يزين الالتزام الجمالي    الشافعي: الافتتان بالأسماء الكبرى إشكالٌ بحثيّ.. والعربية مفتاح التجديد    المرتبة 123 عالميا.. الرباط تتعثر في سباق المدن الذكية تحت وطأة أزمة السكن    فليك: الريال قادر على إيذائنا.. وثنائي برشلونة مطالب بالتأقلم    سيرخيو فرانسيسكو مدربا جديدا لريال سوسييداد    مؤتمر البيجيدي: مراجعات بطعم الانتكاسة    مصدر أمني ينفي اعتقال شرطيين بمراكش على خلفية تسريب فيديو تدخل أمني    شوكي: "التجمع" ينصت إلى المواطنين وأساسه الوفاء ببرنامجه الانتخابي    الصين تخصص 6,54 مليار دولار لدعم مشاريع الحفاظ على المياه    الهلال السعودي يبلغ نصف نهائي نخبة آسيا    فعاليات ترصد انتشار "البوفا" والمخدرات المذابة في مدن سوس (فيديو)    وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    من فرانكفورت إلى عكاشة .. نهاية مفاجئة لمحمد بودريقة    جريمة مكتملة الأركان قرب واد مرتيل أبطالها منتخبون    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    على حمار أعْرَج يزُفّون ثقافتنا في هودج !    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ظاهرة يعرفها المجتمع المغربي: الرُّومي والَبْلدي في اللباس والأثاث
نشر في لكم يوم 12 - 08 - 2011

يحلّل الباحث الأنتروبولوجي حسن رشيق، في هذه الدراسة الجميلة والعميقة، ثنائية أساسية تخترق المجتمع المغربي، بكل فئاته وشرائحه، وهي ثنائية "الرومي" و"البَلْدي". ويبين أنهما مصطلحان بقدر ما يتمايزان ثقافيا وأنتروبولوجيا، بقدر ما يتجاوران لدى شرائح واسعة في شكل اللباس وفي طريقة تأثيث المنازل.
تُحيلُ دراسة تمثُّلات الغرب، عموما، على الخطاب العالِم، وتتجاهل العديدَ من المَقوُلات المادية التي تفيدنا بما يقوله النّاس، وبما يفعلونه في حياتهم اليومية. في حين تستند مقاربتنا أكثر على دراستنا السابقة حوْلَ الطقوسي والأُضْحية. بدءا، سينطلق الدخول إلى عالم التمثلات من مصطلحات محلية، ومن المفاهيم التي تتضمّنها. وترتكزُ نقطة انطلاقنا على تصنيف ثنائي محليّ يحيل أحد مصطلحاته على مفهوم الغرب. ففي الوسط القروي والوسط الحضري، يتمّ تصنيف العديد من المنتوجات الاستهلاكية اليومية (الصّابون، الزّيت، الزّبدة، الخميرة إلخ) إلى رُومية وبلديّة. تدل لفظة "رومي"، المشتقة من "الروم"، على ما هو مسيحيّ، وعلى كلّ ما هو غربيّ. أما لفظة "البلدي"، فتعني حَرْفيّا "ابنُ البلد"، وتنطبق حصْرا على كلّ ما هو "محليّ" و"أهليّ".
أمّا المرتكز الثاني لملاحظتنا، فيتكون من وقائع تمارَس فيها هذه الثانية، وهي وقائع تتصل بتنظيم فضاء البيت وبعادات مرتبطة باللباس. هناك ممارسات جديدة لتأثيث البيت تميّز بين الصالون الرومي والصالون البلْدي (في الخطاب "العالِم" يُستعمل كذلك تعبير: صالون أوروبيّ/ صالون مغربيّ). وينطبق نفس التقابل على مستوى اللباس، حيث يتم التمييز بين اللباس الروميّ ( اللباس الغربي الحديث) واللباس البلدي (اللباس التقليدي).
عندما كان فيلامْ يَعْبُرُ، في بداية الخمسينيّات، مدينة فاس، قامَ بزيارة "أسرة حديثة مشبعة بالحداثة، حيث يعترف مُضيفنا، الذي يقيم علاقة مع الأوروبيين منذ سنوات، بأنه جدّ متحرّر من العادات والتقاليد، وليستْ لديه أحكام مسبقة ضدّ المشروبات الكحولية، كما أنه فخور جدا لكوْنه يقدّم زوجته للأوروبييّن (وليس للمغاربة). ثم إنه يستعملُ ... غرفة واحدة كبيرة مؤثثة على النحو التالي: في الوسط، مقابل الباب، هناك سرير لشخصيْن، سرير عصري تحيط به سجّادات ومناضد صغيرة عليها مصابيح ( ... ). وعلى اليمين، توجد غرفة الأكل من طراز" أروقة باربيصْ" مصنوعة من خشب ناصع ولامع، بالإضافة إلى كراسٍ وصوانٍ واطئ برّاق. وعلى اليسار، صالون تقليدي مغربي (بلْدي) وأرائك ووسادات ومائدة منخفضة قُدّمتْ لنا فيه أكلة جد تقليدية " (فيلام، بدون تاريخ، ص. 63). صاحبنا المضيف، الحداثي المتحرّر من العادات والتقاليد ، لم يقدّم الطعامَ لضيْفه الفرنسيّ في غرفة الأكل الأوروبية (التي توجد مباشرة بجانبها )، بل في الصّالون التقليدي. أما أثاث البيت، فكله مستوْرَد باستثناء الصالون المغربي الذي أبدعه، كما نتصوّر، صُنّاعُ مدينة فاس.
عندما يتوّفر للناس فضاء كبير، فإنَّ معضلة الاختيار بين نمطيْ التأثيث تُحَلُّ بإحْداث صالون مغربيّ وصالون أوروبيّ. "في هذا الشأْن، مازال التقليد صامدا حتى لدى البرجوازيّ المتشبّع بالعادات الأوروبية. فغالبا ما نصادفُ عدة بيوت كلّ غرفها مؤثثة وفْق الطراز الأوروبيّ، باستثناء الصالون الذي يظلّ نسخة طبق الأصل للاستعمال القديم: أرائكُ واطئة، سجّادات مزركشة، ستائر ملونة، وزرابي رْباطية. وفي بعض البيوت الموسرة ، يوجد صالونان اثنان: أحدهما ذو شكل أوروبي، والآخر ذو شكل مغربي. ومهما يكنْ من أمْر، فإذا لم تكن هناك سوى غرفة واحدة ينبغي أن تبقى مطابقة للتقاليد، فهي دائما الصالون المغربي " (آدم، 1968، ص.140). وقدْ كان فيلام لاحظ ، في سياق حديثه عن اليهود المغاربة، الذين يعتبرُهم أناساً يعشقون "الحياةَ الأوروبية في أدقّ تفاصيلها "، أنَّ "الالتزام الوحيد بالعادات القديمة يكْمُنُ في التواجد المستمر لنمطيْن من الصالونات: الأوّل مفروش على الطريقة الأوروبية، والثاني على الطريقة المغربية..." (فيلام، د.ت.ص.82) .
وفي سياق إجابتهم عن سؤال حول معرفة ما إذا كانوا يتمنّون تأثيثَ بيوتهم "بطريقة محْض تقليدية، أو بطريقة مختلطة "، فضّل 93% من التلاميذ الذين يدرسون بالثانوي بالدار البيضاء وفاس (418)مستجْوَبا) الحلّ المختلط، و4% الشكل الأوروبي، بينما فضلتْ نسبة 1% الشكل التقليدي (آدم، 1963، ص. 107-108). إنّ المزج بين الشكليْن ليس وَقْفًا على جيل الآباء فقط، بلْ إننا نجد العديد من الأزواج الشباب يحافظون، لحدّ اليوم، على نفس المزْج، عندما تسمح ميزانية البيت وفضاؤه بذلك.
أَنْ يفهمَ المرءُ مبرّرَ وجود هذا المزج، يعني أن يضبط دلالات واستعمالات هذيْن النمطيْن من التأثيث: الصالون الرُّومي مؤثث بطريقة غربية ، وهو مجهز، عموما، بأريكة ومقعديْن وطاولة مركزية (وأحيانا طاولاتان ووسادتان الخ) . أما الصالون البلدي، فإنه يعيد بطريقة تفاخرية إنتاجَ الأثاث التقليدي لغرفة البيت الرئيسية . وتتكون من مقاعد مغطاة بأفرشة ووسادات، والكلّ يستند إلى الحائط ويغطي البيت برمته. الصالون البلدي يستهلك الفضاء، ولا يقبل منافسة أثاث آخر مثل الدولاب والخزانات. ولتعميق الطابع البلدي للصالون، يُضاف الزليج (الفسيفساء الموشّى على الحائط). وأحيانا يشكل وضع الجصّ اللمسة الأخيرة: يتعلق الأمر بخليط من الجبس المنحوت الذي يزيّن سقف البيت، أو يُنْقَشُ على القسم الأعلى للحائط. ويمكن أنْ يكون هذا التزيين أيضا بالخشب المنحوت بزخارف تقليدية.
الصالونُ الروميّ، عموما، هو المكان الحميميّ للعائلة حيث تشاهد التلفزيون وتسمع الموسيقى. وهو كذلك المكان الذي تستقبل فيه الأصدقاء والأقرباء حين لا يكون عددهم كبيرا. مبدئيا، لا تتناولُ فيه الطعامَ، لكنْ يمكن في أقصى الحالات أن تقدم فيه المشروبات. وبالمقابل، يبقى الصالون البلْديّ، في الغالب، فارغا بلْ مهجورا. لكنه ينتعش وتعود إليه الحياة أثناء الحفلات والاستقبالات حيث يغدو موضوعا للعرْض وإثارة الإعجاب.
وقدْ أدّى إدخال الصالون إلى مضاعفة الأشياء (نوْعان من الصالونات)، ومن ثم إلى تكييف الأثاث "التقليدي"، الذي لم يكن يطلق عليه اسم صالون بلدي، لأن هذه التسمية حديثة العهد ولمْ توجد إلا من خلال تقابلها مع الصالون الروميّ. إن الأثاث السابق، المكوّن من العناصر نفسها، كان يشار إليه بلفظة لا تحيل على أية ثنائية، وهي "بِيتْ الضّْيافْ" (بيتُ الضّيوف). لقد كانت تسمية إحدى غرف البيت شكلا من أشكال الإشارة الصريحة إلى وظيفته، وهو الأمر الذي لا نجده في تعبير "صالون بلديّ"، الذي هو تعبير مُبْهم ومُلْتبس. إنه يتكوّن من كلمتيْن يجبُ عادة أنْ تلغيَ إحداهما الأخرى. فالصالون في المغرب هو بالضرورة عصريّ، ومن ثمَّ، فوراء كلمة "بلدي"، ينبغي التعرُّف على تحوّلات في تصوّرات الغرب وتصوّرات التراث التقليدي.
فلماذا، إذن، يتم اعتماد تعبير جديد للإشارة إلى نمط تأثيث قديم؟ ذلك لكوْن الصالون البلدي، خلافا ل"بيت الضيوف"، ليس معْزولا، بل يقتسم نفس الفضاء، أي فضاء الاستقبال، مع الصالون الروميّ. الاستقبالُ، في الغالب، هو "فضاء نصف مفتوح، وبدون حواجز، لكنه يشتمل على علامات ثابتة إلى حد ما، مثل الجدارات الصغيرة والمشربية واختلاف المستويات، التي تسمح برؤية أو تبيُّن فضائيْن فرعييْن، أو ثلاثة فضاءات فرعية متباينة: "صالون مغربيّ" (بلديّ أو تقليديّ حسب التعبير العربي الفصيح) مجهَّز، إذن، بمقاعد تحيط بالغرفة، و "صالون عصري" (مازال يُطلق عليه اسم أوروبيّ) مجهّز بأرائك وكنبات ومدفأة وفضاء صغير حميمي..." ( نافي – بوشانين، 1988، ص. 287). إنَّ المكانَة التي يحتلها الصالون البلْدي جديدة، فاسْمُهُ ودلالته يرتبطان بتجاور مع نمط تأثيثيّ غربيّ. ففي اللحظة التي أراد فيها بعض أغنياء المدينة تأثيثَ فضاء كبير (الشقق الواسعة، الفيلات)، آنذاك انبثقت فكرة الصالون البلدي، المُشَيَّد من خلال تعارضه مع الصالون الرومي الذي أدخله الأوروبيون إلى المغرب.
لا يشير التعبير الجديد "صالون بلدي"، في الحقيقة، إلى نمط تأثيثي قديم وتقليدي، بقدر ما يشير إلى تعايش حديث بين نمطيْن تأثيثييْن يستجيبان لوظيفتيْن مختلفتيْن. يتعلق الأمر بتحويل دقيق ولائق قام به أهلُ المدينة الذين لا يستطيعون، أو لا يريدونَ، التخلّي لا عن "التراث" ولا عن "الحداثة". غير أنَّ التّحويلَ والتراضي يتمّان وَفْقَ منظور جديد لما هو تقليديّ وغربيّ. يلجأُ الناسُ إلى التأثيث الغربيّ لكونه وظيفيّا في الحياة اليومية، دون أنْ يؤثر ذلك على البعد الجماليّ والطقوسيّ للتنظيم المنزليّ للفضاء.
ثمَّةَ حالة قصوى توضّح أكثر هذا الترابط بين الأوروبيّ والوظيفيّ من جهة، وبين التقليديّ والاحتفاليّ من جهة أخرى: تاجر غنيّ من مدينة فاس بنى في بداية الخمسينيات منزليْن في حديقته الفسيحة والكثيرة الأشجار. "طرازُ أحدهما تقليديّ وَهّاج مخصَّص للاستقبالات الفاخرة، في إطار من البذْخ الكبير، سواء للصُّنّاع والتجار الأوروبيين ... أو للعائلات المغربية الكبيرة التي يريدُ أن يتباهى أمامها بتفوّقه. أما المنزل الآخر، المصمَّم بطريقة أكثر عصرية، فهو ذو طراز أوروبيّ شكلاً وأثاثًا. هذا المنزل، الذي يتواجد فيه صاحبه باستمرار، خلال الاستقبالات الكبرى، للنساء اللواتي، بفضل الحديقة، لا يحرجهنّ وجود الأجانب بالقرب منهنّ. " (فيلام، د.ت.، ص. 80). ليس الاستقبالُ فقط هو الذي ينقسم إلى جُزْء تقليدي وآخر عصري، بل الفضاء المسكونُ برُمّته.
يُسْنَدُ للروميّ، أي الغربيّ، بُعْدٌ تقنيّ ونفعيّ، في حين يُسنَد للبلدي بُعد احتفاليّ ورمزيّ وعاطفيّ. كما لو أننا نرْمي من وراء استعمال كلمة "البلْدي" إلى تعيين حدّ للتغْريب الكليّ. فهناك مجالات يعتبر فيها البلْدي، الذي رُوجِعَ وأعيد فيه النّظر، ملائما. المجال الطقوسي يكون ملائما جدا. الصالون المغربي فضاء احتفالي وفضاء احتياطي ينقذ الصالون الأوروبي عندما يتجاوز عدد الضيوف، أثناء الأعياد والحفلات، طاقته الاستيعابية.
إنَّ ثُنائيّة (بلْدي-رُومي)، شأنها في ذلك شأن ثنائيات تصنيفية أخرى، تكون خادعة إذا تناولنا العناصر التي تنتمي إلى كلّ صنف على حدة بطريقة معزولة. فلا يتعلق الأمر بتجاور نمطيْن من التأنيث، بلْ ببنْيَة تأثيثية جديدة، وإن كانت للعناصر التي تكوّنها وظائف ودلالات مختلفة في سياقات سابقة. من المحتمل جدا أنْ يتخلص أحد الأشياء، عندما يوجد في نسخ كثيرة، من وظيفته الموضوعية لصالح استعمال رمزيّ ما (تيزن، 1983). فالصالون البلديّ غالبا ما يُخْتَزَل في وظيفته الطقوسية والإستتيقية، في حين أن الوظيفة النفعية يقوم بها الصالون الرومي.
يستوجبُ الأثاث البلديّ والروميّ فضاءً واسعا. والحال أنّ القليل من الناس هم الذين يتوفرون على إمكانية امتلاك هذيْن النمطيْن من الصالونات. لكن بالنسبة للذين لهم الوسائل والإمكانيات، فمن النادر أن يختاروا امتلاك عدة صالونات أوربية. ومن ثمّ، إذن، لا تكون مضاعفة الأشياء ناتجة فقط عن أسباب تفاخرية. غير أنّ المضاعفة لن تكون ممكنة إلا عندما تُضْفى على الأشياء القديمة قيمة معينة. وبخصوص موضوعنا، فإنّ إضفاء القيمة على شيء قديم، معناه إعطاؤه وظيفة طقوسية واحتفالية. ويتضح ذلك أكثر على صعيد اللباس، حيث يكون اختيار الممارسات أوسع بكثير.
كانت نساء المدينة، فيما مضى، يرتدين على الطريق التقليدية "الحايْكْ"، وهو عبارة عن قطعة ثوب واسعة من الصُّوف الأبيض كانت المرأة تتدثر به قصد الخروج لقضاء مآربها. إلا أنه ابتداء من الخمسينيات، دخل الجلبابُ في منافسة قوية للحايْك قبل أن يزيحه في العديد من مدن المغرب. وقد استطاع الجلبابُ أن يفرض نفسه رغم تشدّد الوطنيين والسلطات المغربية الذين اعتبروه مناقضا للعادات والتقاليد. بل إنّ باشا مدينة فاس قام باتخاذ عقوبات زجْرية ضدّ النساء اللواتي أصْرَرْنَ على ارتداء الجلباب (فيلام، د،ت.، ص. 61).
بعد ذلك عرف الجلباب عدة تحوّلات. "فالجلباب، الذي كان في البدء كلاسيكيا ومقتبسا عن الرجل بكل بساطة، بدأ هو نفسه في التطوّر. وبالفعل، فإن المرء يشهد منذ سنتين أو ثلاث سنوات [نهاية الأربعينيات] ميلاد موضة حقيقية ظهرت بفاس، حيث شرعت النساء الأنيقات في ارتداء جلابيب بِقِطَع من الثوب حول العنق والكتف، وبأكمام متصلة بكتْفيات على طريقة البذلات النسائية الحديثة المزينة بأزرار أمامية (...). ويُعتبر هذا شيئا جديدا تماما. إنه محاولة حقيقية لتحديث لباس مغربي بامتياز. " (فيلام، د، ت.، ص. 61). بيد أن التحوّل الأهمّ، وهو كذلك لكوْنه لم يمسّ الشكل فحسب ، بل مسّ أيضا بنية الجلباب ككلّ، قد جرى في بداية الستينيات حين اختارت بعض النساء الشابات ارتداء جلباب بدون غطاء رأس وبدون خمار.
وبموازاة مع التحوّلات التي طرأت على البذلة التقليدية الحضرية، انتشرت البذلة الأوروبية ، بصفة أساسية، بين الفتيات المتمدْرسات، وفيما بعد بين النساء اللواتي يشتغلن خارج البيت ( العاملات والموظفات خصوصا). ويُقصد باللباس الرومي جميع الملابس التي تمّ إدخالها حديثا، وكان ارتداؤها يقتصر على النساء الغربيات فقط (تنورة، فستان...). أما اللباس البلْدي ، فينطبق على الملابس التقليدية التي أُنْتجت بطريقة يدوية (جلباب، قفطان، قْميصْ " الخ). وكانت بذلة الرجال الأكثر انتشارا تتمثل في الجلباب (لباس خارجي بأكمام قصيرة وغطاء للرأس )، والبُرْنُسْ ( لباس خارجي فضفاض جدا ، بدون أكمام و يشتمل على غطاء للرأس ) والحايْك ( بوزنصينو، 1988، ص. 139، العروي، 1977 ، ص. 31) . وكانت "البَلْغَة" هي الحذاء الأكثر انتشارا في المدن خصوصا، بالموازاة مع "الرّزة" (العَمامة) التي توضع على الرأس، وهي عبارة عن " قطعة ثوب طويلة بجدائل زخرفية تُلفّ حول الرأس (فيلام، ص. 58 ).
وتجدر الإشارة إلى أنه، خلال فترة الاستعمار، حتى أولئك الذين كانوا يفضلون البذلة الأوروبية، كانوا يتساهلون على مستوى عمرة الرأس. لقد أصبح الطربوش، المزين بأهداب حريرية سوداء ( بوزنيصنو، 1988، ص.143 ) هو عمرة الرأس المميزة لرجل المدينة. فبارتداء البذلة الأوروبية دون تخليها عن الطربوش ، كانت النخبة المَدينية تسعى إلى التميز عن الآخرين غير المسلمين. أما اليوم، فلا يُلبس الطربوش، عموما إلا مع الجلباب.
وباستثناء هذه المرحلة الاستعمارية، فإنّ البذلة الأوروبية الحالية (خلافا للصالون الأوروبي)، تلبس لوحدها ولا تقبل منافسة العناصر التقليدية. والشيء نفسه كان ينطبق على البذلة التقليدية. فالجلبابُ، على سبيل المثال، كان يلبس بصفة عامة مع سروال تقليدي و"بلغة"، لكن نادرا ما كان يلبس مع سروال طويل وحذاء عصري. إلا أنه غالبا ما يتفق أن يتوفر كل من الرجال والنساء، رغم ارتدائهم اليومي للبذلة الأوروبية، على خزانة للملابس التقليدية، كلٌّ حسب إمكانياته المادية. وكما هو الشأن بالنسبة للصالون، فإن ارتداء اللباس البلدي يُخصص، بشكل متزايد، للسّياقيْن الطقوسي والاحتفالي المرتبطين عموما بالمناسبات العائلية والدينية. ففي هذه المناسبات ترتدي النساء الملابس التقليدية. أما القفطان وألبسة أخرى مثله ( " التّكْشيطة "، " القْميصْ" ) فتلبس بمناسبة الحفلات والأعياد. وخلافا للجلباب، فإنّ القفطان يلبس مع أحذية عصرية ( أما "الشرْبيل" فلا يلبس إلا من طرف نساء بلغن سنا معينة). ويعتبر الحِداد، كذلك، سياقا لا يُحبذ فيه ارتداء الملابسة الرّومية. فلكيْ تعبر المرأة عن حزنها، وتقدم تعازيها، عليها أن تلبس جلبابا فقط بدون غطاء من الغالب.
أما فيما يخصّ الرجال، فإنّ الجلباب ما فتئت تزداد قيمته يوما بعد يوم. وهكذا فإنه يُلبس يوم الجمعة (بمناسبة الصلاة الجماعية) وخلال أيام العيد. غير أن هذه القاعدة تعرف نوعا من المرونة، ذلك لأن الرجال غالبا ما يرتدون خلال الأعياد والمآتم اللباس الأوروبيّ.
إنَّ اللباسَ البلديّ، الذي كان يشكل جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية للمغاربة، بدأ يتجه نحو الارتباط بالأعياد والمناسبات التقليدية. وهكذا، فإنَّ ثنائية: بلْدي/ رومي تؤسّس يوماً بعد يوم ذلك الفصل ما بين اليوميّ والنفعي من جهة، وما بين الاحتفالي والطقوسي من جهة أخرى. يُعتبر اللباس البلدي، بالنسبة للناس الذين يرتدون يوميا ملابس غربية، خاصا بالجوّ الاحتفالي. لكن، لضمان استمرارية تراث معين، ينبغي تجديده وتكييفه وإعطاؤه وظيفة طقوسية واحتفالية، قبل أنْ يطويَه النسيان، أو في أحسن الأحوال، قبل أن يتكلَّس داخل المتاحف.
فمقابل إجراء عملية انتقاء، وجدت البذلة التقليدية، التي غيّرتها الموضة الأوربية، ملاذها الأخير في الاحتفالي، وشرعتْ في القيام بوظيفتها الجديدة من خلال تكيُّفها مع الموضة الحالية في مجال اللباس ( ملابس أضيق وأخفّ...). نجد هنا نفس الآراء التي عبر عنها جان دْرُومُونْدْ حين كان ينصحُ الجنودَ المغاربة، في القرن التاسع عشر (1855)، بالتخلص من " الألبسة الواسعة التي كانتْ تَعُوق تحرُّكاتهم، وارتداء ملابس أكثر التصاقا بالأجساد تسمح بحرّية أكثر" (ذكره عبد الله العروي، 1977، ص.30).
لم تستطعْ كلُّ أجزاء البذلة التقليدية أنْ تتكيف مع الوظيفة الجديدة؛ فلا القفطان ولا "الفَرَاجيّة" (التي يرتديها بالخصوص المتعلمُون وتجارُ المدينة)، ولا الحايْك...، استمرتْ في التعايش مع اللباس الأوربي (بوزنصينو، 1988، ص.140 وما بعدها).
ويمكن أن نقول الشيءَ نفسَه عن الصالون البلْدي الذي لمْ يستمر في الوجود إلا مقابل تكييف دقيق مع الأذواق الحديثة. الصالون البلدي ليس سوى تحوّل للصالون التقليدي، الذي هو عبارة عن غرفة "مستطيلة الشكل وممتدّة، لا يتجاوز عرضها 80،2 متر، أيْ ما يكفي لاستعمال سقف خشبي. لكنْ مع دخول بلاط الإسمنت المسلّح، بدأت المساحة تميل إلى التغيير". لقد أصبح الصالون البلدي "أقرب إلى الشكل المربّع منه منه إلى الشكل المستطيل. ومع أنه ذو جذور تقليدية، فإنه ابتعد، في غالب الأحيان، من الناحية الزخرفية، عن النموذج، أيْ من حيث اختيار الأفرشة، وعلوّ وعرض المقاعد، وعناصر الزخرفة الجذارية، إلخ" (نافي – بوشانينين، 188، ص. 287).
ونقدم فيما يلي الكيفية التي ترمي من ورائها إحدى أكبر دور صناعة الأثاث (ريشبوند) تكييف الصالون التقليدي. في إحدى صفحاتها الإشهارية تقدم رؤية غربية أكثر عن هذا الصالون. أولا، تبدأ بتقديم سلبياته: "صالونكم المغربي لم يعد ينال إعجابكم، ومللتم من هذه الأرائك العالية جدا، التي تعلّقون فوقها أكثر مما تجلسون عليها، والثقيلة جدا بحيث لا يستطيع تحريك إحداها إلا عُصبة مجتمعة من الناس، بالإضافة إلى سرعة اعوجاجها بحيث نضطر باستمرار لشدّ الثوب مرّة ثانية. ثم إنكم تخافون من اللحظة المحتومة المتمثلة في ضرورة حلّ الخياطة لتصبين الصوف وتجفيفه. أخيرا، وخصوصا، لقد آن الأوان، إذن، بالنسبة لكم لاكتشاف مقعد ريشبوند "أمبريال" النابض، فقد سبق وحَوَّل الصالون المغربي، في العديد من البيوت، إلى غرفة للحياة اليومية الجميلة بين العائلة ومع الأصدقاء. وهو ليس عاليا جدا ويضمن راحة مثالية وخفيفة. مصنوع من نوابض الفولاذ الصلد غير القابل للاعْوجاج، الذي يمنحه مظهرا وديمومة مدهشيْن".
مع الصّناع الكبار لأدوات التأثيث، أصبح الفاصل بين نمطيْ الأثاث ملتبسا. ومع مثل هذه الحجج الوظيفية، بات الصالون المغربي شبيها بالصالون الأوروبي. فالصانع الحديث يسعى إلى دفن علة وجود الصالون التقليدي. يعاب على الفراش التقليدي كونه عاليا جدا، كما لو أنّ الإنسان المديني الميسور لا يستطيع وضع كمية أقلّ من الصوف. الصالون البلدي هو أوّلا مدهش، والصوف النفيس هو عنصره الأساسي، وكلما كان الصوف أكثر، كلما كان المرء معلقا.
يعاب على الفراش التقليدي كونه ثقيلا ، لكن الخدم موجودونَ في بيت الرجل الميسور الحال. كما يعاب على الصالون التقليدي كونه فارغا، لكن ماذا نفعل بالفضاءات الكبيرة التي لا يمكننا الجلوس فيها كل يوم ؟. نحن ننسى أنّ الصالون البلدي له علاقة بمنطق الوفرة والاحتفال. لكن مع المنطق الحالي، منطق النُّدْرة والحساب، سوف نقنع بالأفرشة المتشابهة، ومع ذلك سيبقى الناس يطلقون الاسمَ القديمَ نفسه.
ماذا يتبقى من الأثاث والملابس التي يطلق عليها نعت "البلْدي"، عندما ترتبط بأطر فضائية وزمنية جديدة، وبوظائف ودلالات جديدة ؟يبقى الاسم بكلّ تأكيد. وتبقى، مثلما هو الشأن في كل احتفال، فرحة تقوية المظهر الجمالي، والانفصال عن اليومي الذي يهيمن على النفعي، تبقى متعة جَمّاع النوادر الذي يَعْرض قطعا عن مجموعته النفيسة، ووهم الحفاظ على الخصوصية وإشهار الهوية.
*تقديم وترجمة مصطفى النحال
---
تعليق الصورة: صالون مغربي تقليدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.