* 28 أبريل, 2018 - 03:49:00 تحظى دراسة المجتمع المدني براهنية قصوى بالنظر لتنامي أدواره في سياق تعدد وسائل التواصل الاجتماعي وما خلقته من هوامش جديدة أصبحت أقدر على توجيه أشكال الفعل الاجتماعي والسياسي، كما تبرز أهمية تحليل دور المجتمع المدني على المستويات السياسية والاجتماعية انطلاقا من قوته السببية في إصلاح مسارات تاريخية مختلفة، كان أبرزها النسق الغربي الذي ساهمت فيه الثورات السياسية و الاقتصادية، ومن ثم الدينامية الفكرية من خلال فلسفة الأنوار، في جعل بناء هذا المجتمع بمثابة حجر الزاوية في كل تحول ديمقراطي، و شرطا أساسيا لإرساء دعائم دولة عصرية على ثوابت متينة، قاعدتها الوعي بضرورة احترام حقوق الإنسان، و بأهمية توسيع مجال المشاركة الشعبية. ولذلك اعتبره جون لوك John Locke مجتمع المدينة، أو مجتمع التحضر الذي لا يتم إلا بسمو القانون، و ترسخ المؤسسات القادرة على ضمان الحريات. أما توكفيلTocqueville فقد أكد على دور الجمعيات، عبر دراسته للديمقراطية بأمريكا، في الحد من استبدادية الدولة، و أيضا في بروزها كعماد أساسي لتعليم الديمقراطية و المواطنة. يحيل هذا التلازم القائم بين المجتمع المدني و الديمقراطية على أهمية الدور التاريخي الذي قامت به مكونات هذا المجتمع في الدول الغربية، ولا سيما بعد سقوط جدار برلين و وتنامي تأثير ما يطلق عليه بالموجة الثالثة للديمقراطية في أوروبا الشرقية، حيث كان المجتمع المدني يعد بمثابة الفاعل الرئيسي في عملية التحول الديمقراطي التي عرفتها بولونيا مثلا. إن ما يبرر استحضار هذه الأمثلة هو مدى أهمية التركيز على كون هذا الدور هو في حد ذاته ترجمة للقوة السببية التي يتوفر عليها المجتمع المدني في العالم الغربي، و ذلك اعتبارا لنشأته و تطوره كلحظة فعالة و مفصلية في تشكل المسار التاريخي لتجذر الديمقراطيات الغربية. لا نتطلع في هذا المقام إلى الحديث عن أدوار المجتمع المدني بالديمقراطيات الغربية وتوصيفها، بل نكتفي باستحضار هذا الدور كمعطى استشاري يسهل علينا ملامسة نفس الإشكالية في العالم العربي، و ذلك من خلال مقاربتها عبر منظور نقدي يهدف إلى إبراز طبيعة العوائق التي تقف في وجه ميلاد مجتمع مدني مستقل و فعال. لقد كان الربيع العربي بمثابة فرصة تاريخية لبروز دور مكونات المجتمع المدني كفاعل ليس بالضرورة احتجاجي ولكن سياسي، لأنه كان محركا أساسيا للأحداث التي عرفتها مصر من خلال دور حركتي "كفاية" و " 6 أبريل"، ناهيك عن أهمية الدور الذي لعبته الحركات المهنية و العمالية في دعم الحراك الشعبي و تأجيجه في تونس. أما فيما يتعلق بالحالة المغربية ، فقد كان ميلاد حركة " 20 فبراير" بمثابة مؤشر على تطور الوعي الاجتماعي و السياسي لأفراد المجتمع، و هذا ما عكسته طبيعة المطالب التي تجاوزت سقف ما هو سوسيواقتصادي لكي تلامس مطالب سياسية كانت من قبل حكرا على الأحزاب السياسية بالمغرب. كل هذه المعطيات حملت في طياتها بشكل ضمني الكثير من المؤشرات الدالة على وجود دينامية و وعي اجتماعيين، إلى جانب تحول ديمغرافي متجسد في دور الشباب كفاعل أساسي في الحراك الاجتماعي، كانا من بين الأسباب الأساسية لبروز بعض مكونات المجتمع المدني كقوة دفع لعملية التحول الدستوري و السياسي في هذه الأقطار. لقد شكلت حالة الربيع العربي ، و ما بعدها ، مدخلا سياسيا، و أيضا معرفيا، لإعادة التفكير في شروط تدعيم أسس تواجد المجتمع المدني بأنساق سوسيولوجية ظل التشاؤم يصاحب كل نقاش فيها عن إمكانية و جود مجتمع مدني، و هنا نستحضر أساسا تصورات إرنست كَلنرErnest Gellner حول استحالة تحقيق فرضية وجود المجتمع المدني في العالم العربي/الإسلامي نظرا لعدم قابلية بنياته الثقافية و الاجتماعية لتبني نفس الشروط التي كانت وراء نشأته في الديمقراطيات الغربية. فحسب هذا التصور المعرفي لتأسيس و تقوية دور المجتمع المدني لا بد من توفر عدة شروط، من أهمها : الفعل الحر و الإرادي، المأسسة بمعنى التنظيم المعقلن، فضلا عن قبول الاختلاق و التنوع. نعتقد أن مبررات هذه النظرة التشاؤمية لازالت قائمة ، خصوصا وأن مخرجات الربيع العربي على المستويين الدستوري و السياسي تحتاج إلى فترة أطول لتتبلور نتائجها و تساهم في إحداث تحول ديمقراطي يدعم دور المجتمع المدني كطرف مركزي في معادلة دمقرطة الأنظمة السياسية، فالارتدادات المسجلة على المستوى الحقوقي و الالتفاف على مكتسبات الحراك الشعبي من طرف النخب السياسية المهيمنة و الدولة العميقة شكلا نكسة فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من مراحل إعادة إنتاج السلطوية و انتشارها في الفضاء السياسي و الاجتماعي ،على حساب دينامية فعاليات المجتمع المدني التي أصبح التضييق على أنشطتها يعيد الى الأذهان الواقع الذي كان قائما ما قبل الربيع العربي. ويكشف النموذج المصري هشاشة هذا التحول؛ حيث نلاحظ بأن وصول الجنرال السيسي إلى سدة الحكم كان بمثابة بداية هذه المرحلة السلطوية الجديدة المتميزة بالقطع مع كل المكاسب التي برزت مع الحراك الذي أدى إلى سقوط نظام حسني مبارك. فلقد أضحت مثلا طريقة و أسلوب السيسي في الحكم تؤشر على مدى استمرارية نفس الأسباب التي تفسر تعثر مسار دمقرطة الأنظمة العربية ومحدودية تأثير المجتمع المدني. لذا تعتبر هذه العوامل المرتبطة بالطبيعة السلطوية للأنظمة العربية في نفس الوقت متغيرا تحليليا ومنطلقا لفهم أسباب ضعف و عدم استمرارية القوة السببية لمكونات المجتمع المدني في إنتاج التحول الديمقراطي. لم تذخر الدول العربية جهدا منذ الاستقلال من أجل تقوية و تأسيس ركائز العلاقة الباترومونيالية التي تربطها بالمجتمع على مجموعة من الثوابت المندمجة ضمن استمرارية تاريخية يصعب معها فرز الدولة عن المجتمع. لأن طبيعة هذه الدولة عبر تركيبة بنياتها السياسية و الإدارية تزيد من تعقد هذا الطرح، فهيمنة السلطة السياسية لم تقتصر على تمتين واستعمال وسائل العنف المشروع بل حاولت اختراق المجتمع المدني بخلقها لمجموعة من الأجهزة الأمنية التي ما فتئت تتوسع بشكل أخطبوطي، و تكتسح جميع المجالات معتمدة، في هذا المنحى، على الرقابة المباشرة لجميع التجمعات و التنظيمات المدنية و استراتيجية التدجين للعناصر النشيطة داخل بعض جمعيات المجتمع المدني. فعلا، يعتبر البناء الفوقي للدولة العربية عائقا في وجه محاولة بناء مجتمع مدني مستقل، و يقف كسد منيع أمامها، بالموازاة مع عراقيل أخرى ساهمت بدورها في تعثر هذا البناء، و جعلت الحديث أو الكتابة أحيانا عن وجود مجتمع مدني مجرد تصور خيالي لمجتمع مثالي لم ير النور بعد نظرا لضعف التكوين الإيديولوجي و ارتفاع نسبة الأمية، و غياب إرادة حقيقية منبثقة عن السلطة السياسية تهدف من ورائها إلى تطوير المؤسسات السياسية، و إفساح المجال لتسريع عمل المجتمع المدني، و تطويره من جانب آخر، ثم نوعية الثقافة السياسية السائدة؛ فهي تكرس و تولد مجموعة من الأفكار التشاؤمية لدى المواطن العادي فيما يخص السياسة و الشأن العام الذي أصبح في نظر الكثير من المواطنين مجالا تزكي ممارسة الفاعلين فيه صورة الفعل السياسي كألية لافتراس المال العام. لم يدفع العدد المتزايد من الجمعيات الدولة في اتجاه إعادة النظر في علاقتها بالمجتمع المدني، و تأطير هذه العلاقة بأسس جديدة تضمن استقلالية هذه الجمعيات كمدافع عن الحقوق الطبيعية للأفراد مثلما ما هو عليه الحال في الدول الديمقراطية. فإذا تمعنا مثلا في دوافع نشأة بعض الجمعيات بالمغرب، نجد بأن الهدف من وجودها يشكل في حد ذاته عائقا أمام ترسخ فكرة المجتمع المدني، لأن المنطق الريعي هو المتحكم في اشتغالها و أيضا في علاقتها بالدولة. فارتباطا بهذا الموضوع نرى بأن هذا الأمر ساعد الدولة على ضمان تبعية المجتمع لها من خلال الامتيازات الريعية، التي استفادت منها بعض الجمعيات في إطار برنامج التنمية الذي أضحى يعد من الميكانيزمات الجديدة لدولنةالمجتمع، و هذا ما يعني بأن التحكم في عناصر المجتمع المدني يبقى محددا أساسيا لطبيعة أنشطته و كذلك لعلاقته بالدولة، التي ما تزال أجهزتها وفية في اشتغالها لمنطق تقليدي/ مخزني قائما على مجموعة من الثوابت المندمجة ضمن استمرارية تاريخية، و نسق سياسي محافظ. كما تتمثل أيضا عدم استقلالية بعض مكونات المجتمع المدني بالمغرب في تحول بعض الجمعيات إلى أذرع انتخابية للأعيان الانتخابيين ، حيث يتم تدعيم هذه الجمعيات ماديا عن طريق منح مخصصة للقطاع الجمعوي ، في الزمن اللاانتخابي شرط تعبئتها في الزمن الانتخابي لصالح هؤلاء الأعيان. و هذا ما يعد أحد الأسباب التي تشرح فشل النموذج التنموي و اختزال دور بعض مكونات المجتمع المدني في إعادة انتاج نفس الشروط التي تمنع استقلاليته كفاعل حامل لمشروع إصلاحي. قد يكون من مفارقات تواجد المجتمع المدني، حسب هذه المعطيات، هو خدمة أهداف تتناقض مع الأهداف المشروعة لنشأته. وأخشى أن يساهم تزايد هذا النوع من الجمعيات المستخدمة من الدولة و المنتخبين في تجذر مجتمع انتهازي/ارتزاقي بدل أن يكون مدنيا ذا قوة سببية دافعة لدمقرطة النظام السياسي و المجتمع. لا يمكن إرجاع ضعف المجتمع المدني إلى بنية الدولة وطبيعة النظام السياسي وحدهما، بل حتى خصوصية المجتمع الثقافية و الاجتماعية تشرح بشكل نسبي هذا الضعف. فبالرغم من بروز بعض مكونات المجتمع المدني كفاعل سياسي و اجتماعي، غير أن هذا لا يدل على تجذر فكرة المجتمع المدني داخل بنيات المجتمعات العربية بشكل موسع يسمح بنقل علاقتها بالدولة من مستوى عمودي إلى مستوى أفقي. فمن الملاحظ أن الشروط الموضوعية لمأسسة المجتمع المدني لازالت لم تكتمل ليظل في مرحلة التكوين، يشق طريقه بصعوبة في فضاء متكلس و راكد، و مرد ذلك على حد تعبير واتربوري Waterbury أن كل شيء يميل إلى تكريس الإبقاء و المحافظة على ما هو قائم تحت غطاء التقليدانية الموجهة عن قصد ضد كل تجديد قد يمس بنيات المجتمع، و يعارض النظام التقليدي المدافع عنه. فجدلية التقليد و الحداثة توجه كل نقاش يسعى إلى إيجاد تأصيل نظري لإشكال العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني و الأهلي. هذا الأخير الذي عادة ما يكون قائما على روابط عصبية و إثنية، و حتى دينية ، تتنافى مع طبيعة الأسس و القيم التي يرتكز عليها قيام فكرة المجتمع المدني. و هذا المعطى نلامسه على أرض الواقع من خلال عدم قدرة بعض الجمعيات على تجسيد فكرة الاختلاف و التنوع لأنها في العمق لا ترمز سوى لفكرة المجتمع الأهلي و القبلي ، و كذلك لسيادة الانتماءات الضيقة. يعتبر هذا الأمر، في نظرنا، أحد الأهم الإشكالات الأساسية التي لا يمكن تفاديها إذا أردنا تشخيص عوائق تجذر فكرة المجتمع المدني في العالم العربي، الذي لازال نظامه الاجتماعي قائما على العصبية و القبيلة، من هنا يتبادر إلى الذهن سؤال قد يبدو للقارئ متناقضا مع ما قلته سالفا، و هو : هل يمكن للقبيلة كمؤسسة للتنظيم و التأطير الاجتماعيين أن تصبح شرطا عضويا و ضروريا لضمان نجاح مسلسل مأسسة المجتمع المدني بالمجتمعات العربية ؟ تبدو الإجابة صعبة في غياب تصورات نظرية و أبحاث ميدانية أساسا حول العلاقة بين الجمعية و القبيلة مع تحديد كيفية الانصهار بينهما و فق تصور يقلص من حجم حضور المنطق الإثني في تحديد أهداف العمل الجمعوي و الالتزام بتمثلات اجتماعية مرنة للقبيلة بغية تحقيق قطيعة مع تلك التصورات الضيقة الرافضة للأخر و للتنوع . هذا يعني إعادة تأهيل البنيات التقليدية لكي تتجاوب وظائفها الاجتماعية و الثقافية مع شروط إنتاج آليات محلية مرادفة لفكرة المجتمع المدني، لأن الرصيد التقليدي قد يكون في خدمة تحديث المجتمع عندما يتم تطوير أدائه الوظيفي عبر اندماجه في دينامية اجتماعية يكون فيها الإطار القبلي أداة و ليس هدفا للمساهمة في مسلسل الإصلاح. لقد ركزت و لو بشكل مختصر على هذا المعطى لأنه من السهل أحيانا على الباحث في هذا الموضوع استحضار الخصوصية هنا كعائق أمام تطور فكرة المجتمع المدني، و لكن من الصعب عليه التفكير في هذه الخصوصية كحافز، لأن جل الدراسات التي اهتمت بالمجتمع المدني في العالم العربي لم تستطيع التوجه إلى الواقع الوطني أو المحلي لتلتمس منه تعريف المجتمع المدني حسب تعتبير محمد عابد الجابري بل ارتمت في أحضان نظريات حول المجتمع المدني مستوردة من الخارج، تم إسقاطها بشكل مباشر على واقع لا تتوافق غالبا خصوصيته الثقافية مع طبيعة النسق الاجتماعي و الثقافي الذي تبلورت فيه هذه النظريات. *باحث في العلوم السياسية