16 يناير, 2018 - 11:05:00 في مجموعته القصصية الموسومة ب "نزوات غويا"، لا يجد عبد الرحيم التوراني مخرجا من ورطة الحياة وعبثيتها ولاجدواها إلا بإشهار افتتانه الإبداعي بالموت. ففي هذه المجموعة الصادرة مؤخرا عن دار "رياض الريس للكتب والنشر" ببيروت، يكاد الموت أن يكون قاسما مشتركا بين الرواة والمحكي عنهم، كما يوشك أن يصبح فعلا يوميا فاضحا عند من يحيون موتهم دونما تكلف أو عناء. ولأن تيمة الموت، كأداة ابداعية، ظلت تغوي كل الشعراء والقصاصين منذ إلياذة هوميروس، يلتحق التوراني بركب طويل من الفلاسفة والمبدعين، أمثال ادغار ألان بو وهارولد بنتر ووليام غولدنغ ودانتي ولاو تسو وستيفن كينغ ونيكوس كازانتزاكيس. غير أنه لا يقارب الموت من منظور جوزيف ستالين الذي لا يجد حرجا في المجاهرة بأن "الموت هو الحل لكل المشاكل فعندما لا يعود هناك أحد لا تعود ثمة مشكلة". ومع أن التوراني يبدو أقرب إلى سقراط الذي يفرد للموت مقام أكبر النعم الإنسانية، إلا أن نصوصه تكاد تتماهى مع ليوناردو دافينشي الذي أدرك خطأ اعتقاده بأنه كان يتعلم كيف يحيا بينما كان يتعلم بالفعل كيف يموت. والأرجح في اعتقادي، أن التوراني ينتمي فكريا وتأمليا إلى مدرسة لاو تسو، الذي آمن قبل عدة آلاف من السنوات أن الحياة والموت خيط واحد وخط واحد، منظور إليه من جوانب مختلفة. ولهذا ينتقل التوراني بسهولة مفرطة في اتجاهين متعارضين، عبر ما نعتبره حدا فاصلا بين الحياة والموت. وهو لا يفعل ذلك في نوبات فكاهة سوداء، أو رغبة في الخروج من السياقات المألوفة للحكي، وإنما ينزع إلى تذكيرنا مرة بعد أخرى أن الموت حقيقتنا المطلقة والأخيرة، وأن كل ما عداه باطل وقبض الريح. ورغم طغيان مقاربة الموت على مجموعة (نزوات غويا)، إلا أن التوراني ينأى بمخيلته عن السقوط في شراك الاحتفاء بالموت والتلذذ بالنيكروفيليا، على غرار ما فعله بعض الكتاب المتهافتين على الشهرة الرخيصة الزائلة. ففي قصصه الباذخة الخيال يظل الموت شهادة حياة للحياة بكل نقائصها واحباطاتها واحتيالاتها العديدة. وإذا كان ما يفعله هو اثبات النقيض بنقيضه، فالأرجح أنه يفعل ذلك بقسوة بالغة مستفزة، عندما يطالبنا بزرع خيال جديد قادر على تجاوز حدود اليومي والمألوف المحيطة بما نفترض أنها الحياة وهي ليست سوى موت لم ننظر إليه من الضفة الأخرى. إن قدرة التوراني على تحويل الواقع اليومي المبتذل إلى فانتازيا سردية، عصية على التوصيف، لا تقف عند حدود التساؤل عن الواقع والمتخيل، في سعينا البشري الخائب، بقدر ما تفتح آفاقا واسعة للعبور إلى الما وراء حيث تختلط الميتافيزيقيا بسحر الحياة والموت. هذا التوراني، في "نزوات غويا"، هو الذي رأى كما لاو تسو، أن الأمر ليس كما نعتقد دائما. وإذا كان محقا في ما يرى فثمة ما يجبرنا على إعادة كل حساباتنا الدنيوية العاجلة.