31 غشت, 2017 - 12:38:00 في إحدى مقابلاته النادرة مع «الجزيرة»، لم يخف الراحل محمد أركون حسرته على تراجع أوروبا في ميدان العلوم الانسانية والاجتماعية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان ذلك في خضم حديثه عن تجربته في التدريس في امريكا خلال ستينيات القرن الماضي، عندما كانت امريكا تجلب الاساتذة من أوروبا، قبل أن تضطلع بالصدارة في هذا الميدان.. ورغم أن الامثلة كثيرة في هذا الصدد، فإننا في شمال افريقيا والشرق الاوسط نلمس هذا التفاوت بشكل أكبر في ميدان الانثربولوجيا السياسية، التي تجاوزت بكثير كل العلوم المتخصصة الأخرى في دراسة أنظمتنا السلطوية، ولا أدل على ذلك من أطروحة عبد الله حمودي الشهيرة (جامعة برنستون) و«جون واثربوري» وآخرين. في هذا السياق ظهرت أطروحة «جيمس سكوت» في أمريكا سنة 1991، ولم تترجم الى الفرنسية إلا 18 سنة بعدها، إذاك اطلعت عليها لأول مرة رغم أن خلاصاتها كانت تدرس في جامعات فرنسا منذ ظهورها. أكيد أن هناك نسخة عربية صدرت سنة 1995، إلا أن الترجمة لم تكن موفقة بتاتاً، للأسف، حتى أن المرء ينفر من البداية لأن المعنى لا يفهم إطلاقاً. ولعل هذا يفسر عدم وجود مقالات بالعربية عن هذا الكتاب، لهذا ارتأيت أن أقدم هنا تلخيصا لأبرز أفكاره، ليس فقط لأنها تقدم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في صورة مختلفة، بل أيضاً لأن الكتاب قدم تفسيراً لجانب من الافلاس القيمي الذي يشغل الرأي العام منذ أيام. خطاب مستتر وخطاب معلن انطلق «سكوت» من ملاحظة بسيطة ومعقدة في ذات الآن، مفادها أن هناك قاسماً مشتركاً بين العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الأنظمة السلطوية، والمجتمعات المستعمرة، ومجتمعات العبيد التي اشتغل عليها كثيراً سيما في آسيا، مفاده أن المحكوم لا يعتبر الحكم قدراً منزلاً، بل إن وراء «خطابه المعلن»، الذي يظهره في حضرة الحاكم، هناك «خطاب مستتر»، مختلف تماما عن المعلن، يهمس به في غيابه. وكذلك الشأن بالنسبة للحاكم نفسه، حيث أن ما يعلنه في حضرة المحكوم يختلف تماماً عما يخفيه في جلساته مع أنداده. وهكذا سيضع «سكوت» مسافة مع «غرامشي» (الوعي الزائف) و«لابويسي» (العبودية المختارة)، وقدم طرحاً أقرب الى مفهوم السلطة عند «ميشيل فوكو»، أسس لمقاربة جديدة تروم دراسة المقاومة من خلال هذه الخطابات الأربع، والعلاقات التي تربط بعضها ببعض، والحدود الفاصلة بينها.. بعبارة أخرى، يرى أن العقبات أمام المقاومة في حالات الخضوع غير الطوعي لا يمكن عزوها إلى الهيمنة الايديولوجية، أو عدم تصور الجماعات المحكومة لنظام اجتماعي مضاد للنظام القائم، إلا في حاليتين قصويتين، أولاهما «احتمال وصول أكبر عدد ممكن من المحكومين إلى مراكز السلطة»، ما «يجعلهم يضفون الشرعية على أنماطهما ويحفزهم على الصبر والرغبة والمحاكاة على أمل تحقيق الحلم»، والثانية، صعبة التحقق، على الأقل في وقتنا الحاضر، وهي حالة السيطرة التامة والعزلة.. لأن «العزلة هي الشرط الاولي لأي خضوع كلي» كما يقول «فوكو». مظاهر السياسة الخفية Infrapolitics هكذا خلص إلى أن المحكوم يعيش ما يشبه انفصاماً، أو أنا مزدوجة: أنا حقيقية وأخرى مزيفة تؤدي دوراً في «مسرحية» السياسة، فتتنشى الاولى بمراقبة أداء الثانية، ومدى فعاليتها في استعمال «القناع». هذا القناع الذي يرى «سكوت» أن «سمكه» يتزايد اطراداً مع تزايد حدة القمع، وبقدر ما يطول استعماله يستبطنه المحكوم فيصعب عليه خرقه، بل إنه لا يستسيغ حتى أن يُخرق في حضرته. ولعل خير مثال على هذه الفكرة الأخيرة ما سمعته سنة 2010 من صحفي مخضرم، قال لي إن معظم القراء، بمن فيهم الديمقراطيون، يفضلون لغة الإشارة على مهاجمة الملك وتسمية الاشياء بمسياتها، حيث لا يُنظر إلى هذا النوع من الخطاب بكونه «قلة حياء».. إن المحكوم، حسب «سكوت»، يحرص شديد الحرص على الحفاظ على الحبل السري بين «الخطاب المستتر» و«الخطاب المعلن»، لأنه إذا انقطع سيشكل خطرا على حريته أو وظيفته وربما على حياته حتى. ومع ذلك فإن الحاكم لا يتعامل مغ «خطابه المعلن» بمنطوقه، بل يبحث دائما عن «المستتر» الذي يظهر في ثناياه مهما أضمره المحكوم. وهذا التداخل بين الخطابين وهو ما يسميه «سكوت» ب«السياسة الخفية»، وهي القيمة المضافة لاطروحته وخير مثال عليها، في حالة المغرب، ما قاله بنكيران ذات مرة قبل توليه رئاسة الحكومة عندما اعترف أنه «يحولق» كلما شاهد مراسيم تجديد البيعة، وما إن تولى رئاسة الحكومة حتى صار يبررها في الإعلام. وبشكل أعم، نلمسها في توظيف السياسيين لكلمة المخزن، أو الجهات العليا، أو السلطة، أو الدولة، أو النظام في بعض الحالات التي يتحايلون فيها على مخاطبة الملك بشكل مباشر. ومن هنا أتت تسمية «المقاومة بالحيلة» التي أطلقها «سكوت» على بحثه، وتكمن في الإيهام والتلميح، وما نسميه بالغمز واللمز، والنكت، والأغاني، والقيل والقال، والتنكر، والخدع اللغوية، والمجازات، والتعبير التعريضي الملطف والحكايات، والاشارات الشعائرية، والشفرات، وقد تنسج اساطير حتى. المقاومة من السر إلى الفعل وإذا كانت لدى الحاكم إمكانية اقتحام الخطاب المستتر للمحكوم، سواء من خلال منطوقه المعلن او الوسائل الاستخباراتية التقليدية، فإنه يحرص شديد الحرص على تحصين خطابه المستتر، الذي يشكل تهديدا لاستمراريته وشرعيته، التي يخصص جزءًا مهماً من خطابه المعلن لتأكيدها وترسيخها. إلى هنا تبدو الأمور سطحية إلى حد ما، لكن الأهم في كتاب «سكوت» أن هذه السياسة الخفية ليست مجرد متنفس للمحكومين، بل إنه حافز للمقاومة الفعلية التي تتخذ مظاهر متعددة، منها ما هو سلبي على غرار التماطل في العمل، والتخريب، والغش، والإختلاسات، والتهرب الضريبي.. وبهذا يكون قد قدم لنا مادة خام للتفسير السياسي لهذه الاختلالات القيمية، التي غالباً ما تعزى إلى السياسات التربوية والجنائية والدينية وتمثلات المغاربة حول الشأن العام وغيرها.. ومنها ما هو ايجابي مثل التجمعات والتظاهرات الإحتفالية الجماعية والكرنافالات. وهنا مرة أخرى، يكون الكاتب قد فنذ الفكرة التي تعتبر أن الانغلاق والخطابات البليغة لا تساهم سوى في "امتصاص الحماس الجماعي وتشكل بذلك مساهمة في اضفاء الشرعية على الوضع القائم" (بارينغتون مور). وحجته في ذلك أمثلة من التاريخ شكلت فيها الكرنافالات منطلقات للثورة. وفي هذا السياق دائماً يرى أن خطاب المديح والثناء على الحاكم، على غرار «رسائل التظلم التي كانت تكتب لملوك فرنسا بأقصى قدر ممكن من لغة التفخيم» لا يجب أن يؤخذ فقط من زاوية كونه مجرد «خطابا معلن»، بل أن أكثر ما يشكل خطراً على الحاكم هي هذه المطالب التي تغلف بالخضوع لحكمه، ذلك لأنها تمثل «تهديدا مبطنا بالعنف مطالب مغلفة بالشرعية» ولذلك يرى أنها «ليست دعوة الى السلبية وإنما قد تكون منطلقا للثورة». وصاغ على ذلك مثالاً قوياً من اسطورة القيصر المخلص في روسيا الذي كان «يرغب في تحرير أتباعه المخلصين من العبودية غير أن المناطق والموظفين الفاسدين الذين أملوا في تفادي حدوث مثل هذا التحرير يحاولون اغتياله»، حتى رأينا كيف تحولت هذه «الاسطورة الرجعية التي تبدو وكانها تدعو الى السلبية الى اساس للتحدي والتمرد الذي يجد تبريره العلني في ابداء الولاء الصادق ازاء الملكية».