الأبارتايد اللغوي والثقافي كما يؤسس له في سباق محموم كما لو كنا في "حرب للغات والهويات"، استعير هذا العنوان من كتاب "حرب اللغات والسياسات اللغوية" للويس جان كالفي الذي استوحاه من قراءته لكتاب فن الحرب للفيلسوف الصيني لاو تسو Lao Tseu، للتعبير عن تزايد احتداد الصراع بين تيارين رئيسيين بخصوص قضية تدبير التعددية اللغوية والثقافية بالمغرب في خضم الورش الوطني المفتوح لتعديل الدستور، أحدهما ديمقراطي حداثي يدفع في اتجاه دمقرطة أكثر للدولة وسياساتها، وتيار رجعي شوفيني يتنكر للتراكم الإنساني ويعاكسه. بات واضحا أنه يسعى إلى كبح جماح التحرر والإجهاز على المكتسبات في مجال الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان. ما يستحث فينا أسئلة علنا نهتدي إلى استباحة مكنونات خطاب هذا التيار، الذي أعلنها حربا مباشرة، ليس على الأمازيغية فقط ولكن على كل ما هو تقدمي ديمقراطي وحداثي، وإن تبدت في ظاهرها على أنها دفاع مشروع عن وحدة الأمة في دينها ولغتها، وتحضرنا بمناسبة هذا الهجوم مجموعة من الأسئلة؛ ما هي الخلفيات الحقيقية التي تقف وراء هذا السعار ضد الأمازيغية؟ أية علاقة للأمازيغية بمشروعية خطاب الحركات الإسلامية أحزابا وجماعات؟ هل الشعب، الدولة ومؤسساتها ستخضع للابتزاز السياسي لهذه الأحزاب والمجموعات وتوقف مسلسل الدمقرطة؟ إن المتتبع للمشهد السياسي المغربي في الآونة الأخيرة، لا محالة، سيلحظ اشتداد سعار ثلة من الأحزاب والجماعات ذات المرجعية القومية والدينية بالأساس ضد إقرار الحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية في مشروع الدستور قيد التعديل، وجندت لذلك كل طاقاتها السياسية وآلياتها الأيديولوجية والإعلامية بل وحتى بعض الأكاديميين والمثقفين، ضد منطق التطور والتحرر وضد تعضيد المكتسبات الحقوقية، مما سيحول دون دعم مسلسل إرساء وتثبيت دعائم الدولة الديمقراطية الحداثية، حيث تعالت بشكل ملفت للنظر، مع قرب إفراج لجنة المنوني عن مسودة مشروع الدستور الجديد، أصوات سياسيين أكاديميين ومتثقفين تعارض أي اعتراف دستوري برسمية اللغة الأمازيغية، معلنين حربا استباقية على أي تقدم في هذا المستوى، تقودهم الرغبة الجامحة لكبح الدينامية التي يعرفها المغرب بفعل الحراك السياسي الذي يشهده المغرب بعد أن فشلوا في وقف زحف رياح التغيير التي تقودها 20 فبراير والحركات المناضلة، وهذا الهجوم لم يستعر إلا بعد ذيوع إشاعات عن تضمن المسودة، والتي مازالت محتجزة لأسباب تجهل مراميها، لمقتضيات تعيد الاعتبار لكل مكونات الهوية المغربية وخاصة بعدها الأساس الأمازيغي، حيث شاع تضمنها ما يفيد الإقرار الدستوري برسمية اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية، عكس كل الفعاليات السياسية والحقوقية والجمعوية التي رحبت بذلك باعتباره أنه سيحقق قفزة نوعية في هذا المجال وسيعمل على إنصاف الأمازيغية ويعيد لها الاعتبار بكونها صلب وجوهر الهوية المغربية ثقافة وحضارة وتاريخا...الخ، مما سيخمد وهج الإشارات المحتشمة للمخزن بطي ماضي الحيف والإقصاء الممنهج ضد الأمازيغية، جراء السياسات الاستيعابية التي انتهجتها الدولة على مدى عقود في سعيها إلى استكمال بناء الدولة-الأمة والذي يقوم على تعزيز بعدي الدين واللغة (الإسلام،العربية) كأساس لهذا البناء على حساب باقي المكونات الدينية والإثنية والثقافية، وإن كان من منظور عصبوي، واليوم وبعد مراجعة الدولة لمنظورها تحت ضغط الشارع بكل مكوناته وبفعل مجابهة ومقاومة باقي المكونات المهمشة لهذا المشروع الاقصائي والاستئصالي، بفعل تمسكها بهوياتها الجماعية وتشبثها بها، ما أوقع الدولة-الأمة في حالة الأزمة والتناقض في أساسها الفكري ومرجعياتها المؤسسة، وهي الأزمة التي ستمتد إلى هذه الحركات القومية والإسلامية التي تماهت نوعا ما مع مشروع الدولة-الأمة للمخزن على هذا المستوى، نظرا لأنه سيخلخل مرجعيتها الفكرية ويقوض من قدرتها التعبوية والدعوية المؤسسة على مكوني الدين واللغة، ويهدد مستقبلها في مغرب التعدد والتنوع حيث ستكون عرضة التحلل التدريجي لقبضتها وإلى انفراط سيطرتها على باقي الأطراف. وبالعودة إلى ما صرحت به تلك الأحزاب السياسية، يتأكد أن الأمر ليس فقط رد فعل أو سوء فهم لما يقع في المشهد السياسي المغربي، بل يعبر عن منظورها الحقيقي المؤسس على المنطق الاقصائي للتعدد والتنوع، ومناهضتها لكل ما هو مرتبط بمرجعية حقوق الانسان والتراكم الإنساني في مجال الحريات والديمقراطية، ومهادنتها الصورية فيما سبق ليس لأنها كانت مؤمنة بالاختلاف والتعدد، بل لأن السياسات السائدة كانت تخدمها وتعفيها من ذلك، وإن كانت في مراحل تاريخية كسرت الهدنة الصورية ومارست الصراع والعداء، ونعيد الذاكرة هنا، إلى معركة الحرف الأمازيغي فولوجها المعركة آنذاك لم يكن من منطلق علمي أو غيرة على الأمازيغية بل لتأزيم الوضع وكبح أي تقدم قد تحققه الامازيغية، والتحولات الجارية من منظورها لم يعد ينفع معها شعارها الدائم كم من حاجة قضيناها بتركها، فسارعت إلى الذود عن وجودها ومشروعها الاستئصالي، فلنتأمل مثلا ما جاء في بيان كل من "الحزب الوطني الديمقراطي" و"حزب الوسط الاجتماعي" و"حزب النهضة والفضيلة" و"حزب الوحدة والديمقراطية"، والتي اعتبرت أن ترسيم الأمازيغية في الدستور المغربي يعدّ "بلقنة للمغرب" و تهديدا لوحدته، و"إسفينا يدقّ في نعش الوحدة الوطنية". أليس هذا كافيا لفهم حقيقة مرجعيتها ومشروعها المجتمعي الذي تروم بناءه، وإلا ما هو منطقها في التحليل وما هي مراميها من وراء الجحود بضرورة ترسيم الأمازيغية، واعتبار ذلك مقوضا لأركان الأمة ووحدتها، إنها الأمة القائمة من منظورهم على العصبوية والتعصب للدين الإسلامي واللغة العربية دون غيرهما من المكونات. وعضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، لم يخرج عن هذا المنحى حيث صرح، في عنترية وتبسيط مبتذل لا ينفذ إلى العمق، في الحلقة الأخيرة لبرنامج حوار يوم الثلاثاء الماضي للقناة الأولى، حيث قال وبالحرف: إن ترسيم الأمازيغية سيؤدي إلى حرب بين المغاربة، وأن الأمازيغية لهجات متفرقة وينبغي أن تبقى كذلك، وأن حرف تيفيناغ حرف فينيقي لا شرعية وطنية له، وأنه لا يجوز الاستفادة من معجم اللغة الأمازيغية المتواجد في بلدان أخرى في شمال إفريقيا، أن موقفه هذا لا يجب أن ينظر إليه من كون المعني جاهلا بالتاريخ، بل يعبر عن مقاربة ومنظور سياسي يقوم عل قراءة أحادية لتاريخ المغرب، وتسويق هذا النوع من الأفكار يخدم نفس المنظور ونفس الأيديولوجية. ونفس الشيء ينطبق على تصريحات ، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، فالخطاب الشعبوي الذي يروج له يقوم على نفس المرتكزات الأيديولوجية، وينطلق من منظور اختزالي للهوية المغربية يقوم على تصور ديني ولغوي للدولة-الأمة، بجعل رابطة العقيدة الدينية، وبالتحديد الإسلام، هو المقوم الجوهري للأمة، وهو أساس الربط الأيديولوجي بين اللغة العربية والدين الإسلامي، باعتبارها لغة القرآن مما يضفي عليها قداسة، وعلى أساسه يتم اعتبار أن كل ما يمكن أن يمس باللغة العربية مس بالدين، وترسيم اللغة الأمازيغية سيعمل على تقويض تداول اللغة العربية وسينافسها مما سيؤثر سلبا على الدين، ما سيكون ذا اثر كبير على مشروعية خطاب الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية. إن النظر في مكنونات خطاب الأطراف المناهضة للتعدد والتنوع الثقافي واللغوي، ينبع من رغبة من درء الخلط المنهجي والعلمي المعتمد في تناول هذه القضية بالذات، حيث دأب الجميع على خلط كل الأوراق، ما هو علمي بما هو سياسي لساني...الخ، حيث تختلف المقاربات إلا أنها تجتمع في نقطة الخلط المنهجي المتعمد، فهل من حق السياسي من أن يدعم موقفه السياسي، بالسلب أو الإيجاب من نفس القضية، بمعطيات و"حقائق" في مجال اللسانيات أو التاريخ دون أن يفحص ويتمعن فيها ويتبين صحتها من عدمه؟ وهو ما دفعني إلى تفادي الانسياق في هذا الاتجاه احتراما لذوي الاختصاص، ونأيا عن ممارسة الشعبوية التي تخل بفهم الأمور على حقيقتها، ولهذا تجنبت الخوض في الإشكالات والحجج التي يتم طرحها وتعبئتها من أجل الدفاع عن وجهة نظر بمقابل أخرى، والتي في الغالب الأعم تعمل على إخفاء الحقيقة والتغطية عليها، حيث تعمل على دغدغة العواطف واستثارة الأحاسيس لا العقول، بقدر ما عملت على تحليل الخلفيات المؤطرة لها، مما يكسبنا فهما أكثر لتصورتها ومنطلقاتها، وكشف حقيقة مخططاتها ومراميها الإستراتيجية، والتي في الغالب لا تكون معلنة ومكشوفة للعموم، لأنها تتناقض وتتنافى مع المشروع الديمقراطي الحداثي الذي يطمح له المغاربة، أي أنها تسعى إلى الاستفادة من المتنفس الديمقراطي،على هشاشته، دون أن تؤمن بالقيم والمبادئ الكونية لحقوق الانسان والديمقراطية التي تقوم عليها الدولة المدنية الديمقراطية، فهي لا تتقاسم نفس التصور والقيم مع التوجهات الديمقراطية ليبرالية أو اشتراكية. إن النظر في الحجج التي يعبئها التيار المعادي للحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية، تبقى غير ذات أهمية كبرى، لا من الناحية العلمية ولا من الناحية الحقوقية والقانونية، حيث تفتقد لأبسط الشروط التي تفرضها ضرورات تحقق الموضوعية العلمية في دراستها، فهي بالأساس تعتمد على نظرية المؤامرة الأجنبية، بربطها لأي عمل أو نضال من أجل إقرار التعدد، باستمرار ونفوذ التيار الكولونيالي ونزوعاته من أجل تأبيد سيطرته على الدولة والمجتمع. هل قدر الأمازيغية أن تدفع ثمن سياسة لغوية اقصائية؟ فقد عملت هذه السياسة ولعقود عديدة على استبعادها ما أمكن من الخريطة اللغوية الوطنية، حيث تم الإمعان في احتقارها، نشر وتعميم صور نمطية عن الأمازيغي والتي مازالت تحتفظ بها المخيلة الشعبية ويتم تداولها بشكل واسع، وقهقرتها مما خلق تراتبية لغوية لصالح اللغة العربية والفرنسية على حسابها، نشأت عنه هرمية لغوية غير سليمة، فالبرجوع إلى مغرب قبيل الاستقلال، سنقف عند حقيقة تاريخية مفادها أن الأمازيغية كانت السائدة في التداول اليومي، أي أنها كانت المهيمنة في الفضاء العمومي حيث كانت لغة العلم، التواصل، الأدب والشعر...، أما اللغة العربية فكانت متداولة بين النخب وفي بعض الإدارات التي كانت خاضعة للدولة المخزنية في مناطق نفوذها لا غير. يتضح وبجلاء أن السياسات المنتهجة تتناقض مع نظرية تدبير التعددية الثقافية، والتي تقوم على ضرورة الإقرار الرسمي بالتعدد والتنوع على أساس المساواة والعدالة الثقافيتين، وعلى مبدأ اقتسام السلطة ما بين الجماعات في مجتمع ما، مما يساهم في مساعدة تلك الجماعات ويقوي مكانتها وسيعزز التمايز الثقافي لكل منها، ويقطع مع الحرمان والإقصاء. فالأمازيغية كانت ضحية سياسة رسمية ترتكز على سوء تدبير التعدد الثقافي، فتعامل الدولة مع وضعية التعدد الثقافي كانت تؤطره خلفية ومرجعية فكرية تروم من جهة كبح انبعاث الثقافات الأصيلة والمتباينة، وهو ما يفسر التغييب الدستوري لكل الأبعاد المشكلة للهوية الوطنية في كل الدساتير السابقة، رغم وعيها بأهمية عامل التباينات الثقافية وكونه المتغير الأساسي في تشكل الهويات، وبسط السيطرة على الأطراف والحؤول دون اقتسام السلطة معها، وهو ما نتج عنه تفاوتات اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ تهميش المناطق ذات التركز الأمازيغي الكبير واستبعادهم من مراكز السلطة والقرار، حيث أفرزت تفاوتا قائم على احتكار السلطة من جعلها مرتبطة بتملك الرأسمال الرمزي، وهو ما أفرز هيمنة مجموعات دون غيرها على دواليب القرار السياسي والاقتصادي، ونخص بالذكر اللوبيات المدينية المشكلة للحركة الوطنية منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، إلا أن تنامي الوعي السياسي عاكس مصالحها وسرع تقويض هيمنتها على فترات من تاريخ المغرب الحديث، وبقوة في الحراك الاجتماعي والسياسي الحالي، والخرجات الأخيرة يمكن فهمها عل أنها حركات من أجل تأبيد الهيمنة وتجديد أسس شرعنتها، عبر وقف أي تغيير قد يمس إعادة النظر في مقومات ومرجعية الدولة، مما سيؤدي إلى إعادة التنظيم شبه الشامل للمجال السياسي وفق قواعد وأسس جديدة، مما سيفقدها الرأسمال الرمزي الذي كانت تمتلكه وتستثمره في شرعنة هيمنتها، ما سيحرر المغرب والمغاربة من قبضة اللوبيات التي تحكمت في دواليب الحكم واستشرت فيه فسادا، ويعيد مأسسته وفق شروط وجب النظر فيها، بشكل تشاركي، لتحقيق تعاقد جديد قد يعيد الأمور إلى نصابها، وينصف الأمازيغية وباقي المكونات المهمشة والمستبعدة من دائرة الحكم والقرار. إن المغرب ملزم اليوم أكثر من أي وقت مضى، لإنجاح الانتقال الديمقراطي من دولة الرعايا إلى دولة المواطنة عبر إرساء دعائم دولة الحق والقانون المقرة بالمساواة الشاملة بين كافة مواطنيها وتقطع مع إرساء أي نوع من التراتبية أيا كان سندها، إلى تجاوز هذه التصورات الاقصائية ويؤسس لدولة مدنية لا دينية، بفصل الدين عن القرار السياسي، ما سيحد عن توظيف الدين لأغراض سياسوية وينأى به بعيدا عن المزايدات السياسية ويحرره من قبضة السياسي، ما سيحرر القرار السياسي ويحرر المغاربة من هيمنة واستبداد انقضى زمنهما وانجلت دواعيهما لأن المجتمع المغربي راكم ما فيه الكفاية من التجربة واكتسب وعيا مكتملا، وأصبح راشدا سياسيا وآن له أن يتنفس الحرية ويعيش ديمقراطية حقيقية. في الختام لابد من التنويه إلى أن الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي في أي حال من الأحوال لا يمكن تصور تشييده على الاستبداد والإقصاء والأبارتايد اللغوي والثقافي، وإن الوحدة لا تتنافى مع التعددية والتنوع بل تغتني وتتقوى بها، ولن يتأتى ذلك إلا بالانتقال السلمي والسلس نحو الديمقراطية، مادام خيارا استراتيجيا تبنته الحركة الأمازيغية في الفترة الحالية ويعضدها عموم المناضلين الديمقراطيين، وكل استبداد أو إقصاء يمكن أن يدفع في اتجاه خيارات أخرى قد تكون لا سلمية وأكثر عنفا مما هو سائد حاليا. والعمل على تمكين الأمازيغية من الحماية الدستورية أصبح من ضروريات ومستلزمات تطورها من ناحية مما يضمن لها الحماية الدستورية، والآن المغرب مطالب بترجمة فعلية بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الانسان، والتي ستكون اللغة الأمازيغية وترسيمها انطلاقا من المرجعية الحقوقية الكونية والمشروعية التاريخية والسوسيوثقافية، مدخلا لبناء دولة مدنية حقيقية ذات مؤسسات فعلية مما يقطع مع تركز السلطة والقرار في أيدي أفراد ومؤسسات دون غيره، لجعل الأمازيغية في منأى عن المزايدات السياسوية والشعبوية الصادرة عن أطراف لم تعد تخفي عداءها الصريح للأمازيغ والأمازيغية والمشروع الديمقراطي الحداثي في كليته. فاعل حقوقي وأمازيغي