الخبر جاء مفاجئا للجميع. السيد رئيس الجمهوررية التونسية في انتظاركم. بدا الارتباك واضحا على وجه كارمن كلودن، عن مؤسسة "سيدوب" التي تعنى بالشؤون الدولية الموجود مقرها ببرشلونة، وهي تحث المؤتمرين على اختصار نقاشاتهم لأن الموعد المفاجئ لم تعد تفصل عنه سوى ساعة ونصف الساعة. اقترب الموعد، وحضر كمال العبيدي، الصحفي التونسي الذي قضى سنوات شباب عمره في المنافي معارضا لنظام بنعلي، وعاد إلى بلاده مثل العديد من المعارضين من أجل المساهمة في بناء تونس الحرية الديمقراطية. فكمال الذي عين على رأس الهيئة الوطنية المستقلة للإعلام والتواصل، هو صاحب المبادرة التي أقنعت الرئيس التونسي المؤقت فؤاد المبزع للقاء مجموعة من الصحافيين المشاركين في ندوة نظمتها هيئته بتعاون مع مؤسسة "سيدوب"، حول دور الصحافة في المرحلة الانتقالية التي تمر منها تونس. أمام باب الفندق سيفاجئ الجميع بأن وسيلة النقل إلى القصر الجمهوري لن تكون سوى سيارة "طاكسي" صفراء من تلك التي تشتهر بها العاصمة التونسية. السائقون الثلاثة اللذين اصطفت سياراتهم بشارع إبن خلدون، لم يبدو عليهم ما يثير الدهشة، وعندما سألت أحدهم هل سبق له أن طلب منه أحد زبنائه أن يقله إلى القصر الرآسي، حرك رأسه غير آبه بالاستغراب الذي ربما عكسته ملامح وجهي وأنا أطرح هذا السؤال. وهو يحاول تجاوز حالة الاختناق التي تعرفها شوارع تونس العاصمة منتصف النهار، علق السائق على السؤال بالقول بأن القصر الجمهوري بعد الثورة أصبح هو قصر الشعب، والرئيس الحالي بنفسه مدين للشعب بالجلوس داخله. هذا المنطق "الثوري" تكاد تلمسه عند أغلب الناس العاديين. فكل واحد يعتقد بأنه ساهم في الثورة بنفس القدر وقدم نفس التضحيات التي ساهم بها الآخرون. وهو ما يؤكد حقيقة أن الثورة التونسية كانت "حالة جماعية" بلا أبطال. أمام البوابة الرئيسية ل"قصر قرطاج"، وهو اسم مقر القصر الجمهوري في تونس منذ أن استقلت منتصف الخمسينات، ركنت سيارات رباعية سوداء اللون بداخلها وحولها عناصر من الأمن من مختلف التشكيلات، بأزياء رسمية وآخرون بأزياء مدنية عبارة عن سترات سوداء، ونظارات سوداء. وعندما اصطفت سيارات الطاكسي الثلاثة دفعة واحدة أمام بوابة القصر الحديدية، تقدم أحد الحراس بزي مدني من الموكب الصغير، وبدا وكأنه يعرف أحد السائقين عندما بدأ يتبادل معه حديثا هامشيا. وفي تلك اللحظة سيتوقف أحد المارة على متن سيارة خاصة يبدو أنه فقد وجهته واستأذن الحارس ليسأله عن محل جزارة في المنطقة. وعندما وجهه الحارس نحو وجهته، علق بصوت مرفوع حتى يسمعه زميل له كان يراقب الموقف عن قرب "إنه سائح ليبي تائه يبحث عن محل جزارة"، فعلق عليه زميله ساخرا "السائح الليبي لم يفقد وجهته، فساكن القصر السابق (يقصد بنعلي) هو جزار الشعب" ! بناية القصر توحي بأنه مقر عادي، لا وجود لأية مظاهر للأبهة أو العظمة الخارجية، وحتى من الداخل سيفاجئ الزائر بأنه يلج بناية عادية. فراش أرضية الممرات قديمة وبألوان باهتة. والهندسة بسيطة من الطابع المعماري الأندلسي المغاربي لكن بدون زخرفة مبالغ فيها. الممرات فسيحة نسبيا تحفها أقواس بلا تيجان هي عبارة عن نوافذ تتدلى منها ستائر خفيفة تعكس النور الخارجي الذي يتسرب هادئا ليزيد هدوء المكان وقارا وتواضعا. وداخل قاعة الانتظار الصغيرة رتبت كراسي أريكية بتيجان خشبية ولون يعكس نفس الهدوء الذي يعم المكان. بدا مستشارو الرئيس غير آبهين بالحرص على البروتوكول الذي يجب أن يتقيد به الضيوف وهم يستضيفونهم بكؤوس عصير الليمون والماء وقطع من الحلوى التونسية. لم يستغرق الانتظار سوى لحظات حتى نودي على الجميع للتوجه إلى مكتب "السيد رئيس الجمهورية". مكتب الاستقبال لا يختلف في ديكوره عن قاعة الانتظار، وبين صفين من مساعديه ومستشاره، وقف الرئيس فؤاد المبزع بشوشا وهو يستقبل الضيوف ويرحب بهم. وعندما توجه ليأخذ مكانه في صدارة المجلس بدا بخطاه الثقيلة وسترته الرمادية بطابعها الكلاسيكي مثل ممثل كوميدي خارج لتوه من إحدى تلك الأفلام القديمة للرحلين فؤاد المهندس أو يونس الشلبي عندما يريد أن يمثل شخصية رزينة. جلس المبزع وأخذ يتحدث بفرنسية بدون منمقات لغوية أو سحر في البيان. كان يتكلم في عموميات ويروي ذكريات وهو يهذب شاربه الأبيض الكثيف قبل أن يفتر فمه عن ابتسامة مصطنعة للإيحاء بأنه مرتاح في حديثة الذي تفقده الجدية حركات رجليه القصيرتين اللتين تبدوان وكأنهما تتدليان من فوق الكرسي عندما يهزهما وكأنه يجلس على كرسي هزاز فيبدو اللون البني الغامق لجواربه التي تدل على فقر في أناقة الرجل. كان كمال العبيدي المعارض السابق يجلس عن يسار الرئيس وقد وضع رجلا فوق أخرى وكأنه يجلس إلى صديق قديم يحاول أن يستحث ضيوفه من الصحافيين، وأغلبهم خبروا نضاله عندما كان ينذر كل وقته مثل راهب للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في العالم العربي، لطرح المزيد من الأسئلة التي تزدحم في رؤوسهم. انتهى موعد اللقاء مثلما بدأ في نفس الجو التلقائي، ووقف الرئيس يودع ضيوفه بنفس المودة والترحيب والابتسامة الجامدة المرسومة على محياه. وفي قاعة جانبية نصب فيها التلفزيون التونسي العمومي كامراته ومكرفونه، وقف العبيدي، المعارض السابق، وبدا خلفه شعار رآسة الجمهورية والعلم الوطني التونسي وهو يدلي بتصريح عن اللقاء. لم يسمع أي منا ما قاله العبيدي لكن الصورة لوحدها كانت معبرة عن أن رياح ثورة الياسمين بدأت في إيتاء بعض ثمارها. --- تعليق الصورة: محطة لسيارات طاكسي بتونس العاصمة