كنا قد نشرنا في مقال سابق تحت عنوان " هل هناك أمازيغية واحدة ؟ " موقفنا القائل بأن الواقع اللغوي في المغرب يعرف تعددية مهمة ليس فقط بين المكونين العربي والأمازيغي وإنما أيضا ضمن المكون الأمازيغي نفسه، حيث أوضحنا وبالمنطق العلمي وجود لغات أمازيغية متعددة في المغرب ( ثلاث لغات ) وفي منطقة شمال إفريقيا عموما. وقلنا إن التقسيم لغة / لهجة يعتمد على معيار " التواصل المشترك " أي قدرة اللغة على أداء وظيفتها الأولى والأساسية في التواصل بين الناطقين بها. وقلنا أنه بما أن الناطقين باللغات الأمازيغية المختلفة غير قادرين على التواصل بينهم بها، فهذا يعني أنهم يتكلمون لغات مختلفة وإن كانت متقاربة فيما بينها ضمن نفس الفرع اللغوي الأمازيغي، كما هو الحال مثلا مع الفرع اللغوي اللاتيني الذي يضم لغات متعددة منها الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية... إلخ ولكن لا أحد يتكلم عنها كلهجات لاتينية بل لغات مستقلة، مثل ما يحلوا لأنصار " الأمازيغية الموحدة " أن يتكلموا عن لهجات تاريفيت وتامازيغيت وتاشلحيت... إلخ. وعادة ما يدافع أنصار اللغة الأمازيغية الموحدة والمعيارية من نخب القومية الجديدة في المغرب، في مواجهة واقع التعدد اللغوي في المنطقة، ليس فقط بين المكونين العربي والأمازيغي، وإنما أيضا داخل المكون الأمازيغي نفسه، بالقول إن التعدد اللغوي الذي يعرفه الفرع اللغوي الأمازيغي ليس إلا تنويعات محلية أو لهجات محلية للغة واحدة وموحدة هي اللغة الأمازيغية. لكن حينما يطرح عليهم السؤال الصعب أين هي هذه اللغة الموحدة والجامعة والتي تعد اللغات الأمازيغية الحالية مجرد لهجات منها ؟ يجيبون بأنها كانت موجودة في التاريخ القديم قبل بضعة آلاف من السنين، وتفرعت عنها بقية اللهجات الأمازيغية الحالية المنتشرة في كافة مناطق شمال إفريقيا. وهذا الطرح يهدف أساسا إلى إعطاء نوع من " الشرعية التاريخية " لأطروحة النخب القومية الأمازيغية عن " اللغة الأمازيغية الموحدة والمعيارية "، باعتبارها نوعا من الرجوع إلى " الأصل " من خلال " اللغة الموحدة " في مقابل الطرح القائل بالتعددية اللغوية الأمازيغية وبالدفاع عن لغة الشعب ( لغة التخاطب اليومي ) في مواجهة لغة النخب والمختبر ( اللغة المعيارية ). وسنحاول في هذا المقال أن نبين أنه ومنذ القديم كانت منطقة شمال إفريقيا ومن ضمنها المغرب تعرف تعددية لغوية موغلة في القدم وترجع جذورها لآلاف السنين الماضية، بل يمكن القول بأنه لم تكن هناك أبدا لغة واحدة وموحدة بين جميع سكان شمال إفريقيا في أي مرحلة تاريخية من التاريخ الطويل للمنطقة، ولذلك أسباب عديدة مرتبطة أساسا بتاريخ التعمير في المنطقة والذي نتج عن هجرات متتالية لمجموعات بشرية مختلفة من مناطق متعددة، كانت كل واحدة منها تجلب معها خصوصيتها الثقافية واللغوية والتي تنصهر في الوعاء الثقافي العام لسكان المنطقة من خلال منطق التأثير والتأثر الثقافي، ولعل الهجرات العربية المتأخرة نسبيا ( القرن الحادي عشر ميلادي ) هي مجرد مثال بسيط عن هذه الصيرورة التاريخية في المنطقة والتي زادت من غناها الثقافي والحضاري. الجذور القديمة لواقع التعدد اللغوي في منطقة شمال إفريقيا : ما يزال هناك خلاف عميق بين المتخصصين في علم اللسانيات حول الزمن الحقيقي لظهور الفرع اللغوي الأمازيغي وانفصاله عن مجموع الأسرة اللغوية الآفروآسيوية، حيث يذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الزمن يعود إلى فترة جد قريبة لا تتجاوز القرن الثاني ق. م ( حوالي 200 ق.م )، وذلك اعتماداً على المعطيات اللسانية واللغوية التي تميل إلى اعتبار وجود تنوع لغوي أقل داخل هذا الفرع مع ملاحظة وجود تقاربات كبيرة بين اللغات المكونة له مقارنة بالتنوع الكبير الحاصل في الفروع اللغوية الآفروآسيوية الأخرى كالسامية أو التشادية مثلا. في حين يذهب باحثون آخرون إلى اعتماد زمن آخر يقدر بحوالي 6000 ق.م، اعتمادا على معطيات لسانية أخرى تقول بأن الفرع اللغوي الأمازيغي مختلف بدرجة كبيرة عن بقية الفروع الأخرى للأسرة الآفروآسيوية، وبالتالي فإن تاريخ انفصاله عنها يجب أن يكون قديما جدا. (Behrens. P. 1989. Langes et migrations des premiers pasteurs du Sahara : la formation de la branche berbère. Libya Antiqua : 31/53. ). وهو ما يجعل موضوع تحقيب ظهور الفرع اللغوي الأمازيغي مسألة غاية في الصعوبة بسبب وجود معطيات عديدة متضاربة وحتى متناقضة في بعض الأحيان. فحين يجري النظر إلى هذا الفرع اللغوي من زاوية داخلية يبدو وكأنه حديث نسبيا ( القرن الثاني ق. م )، لكن هذا لا يتوافق مع المعطيات الخارجية المتعلقة بمقارنته بالفروع اللغوية الأخرى من الآفروآسيوية الأم والتي تبين نتائجها أنه أكثر قدما بكثير مما يعتقد ( حوالي الألف السادسة ق. م ). وللإجابة عن السؤال المطروح : متى ظهر الفرع اللغوي الأمازيغي وانفصل عن الجذر الآفروآسيوي ؟ يمكن طرح فرضيتين ممكنتين لحل هذه المعضلة، أولاهما تقول بأن الفرع اللغوي الأمازيغي قديم جدا وكان يعرف تنوعا لغويا كبيرا في داخله، لكن في مرحلة ما تسبب حدث تاريخي معين في عملية تقريب مجموع اللغات الأمازيغية المتنوعة ولكن المتقاربة فيما بينها أصلا، والمثال المعروف على ذلك هو ما حصل من تقارب كبير بين فرع الهوسا من جهة واللغات التشادية الغربية من جهة أخرى في فترة تاريخية متأخرة، ما أدى إلى حصول نوع من التمازج الكبير فيما بينها. والفرضية الثانية أن اللغات الأمازيغية انتشرت في مرحلة مبكرة، ولعبت العوامل الاجتماعية دورا كبيرا في بقاء لغاته متقاربة بسبب وجود نوع من التقارب الجغرافي ما بين المجموعات المختلفة، ما قلل من عوامل التنويع والتباعد اللغوي وجعل هذه اللغات تبدو متقاربة كما هي عليه اليوم، والمثال المعروف عن هذا النوع من الأحداث هو ما حصل في منطقة الساحل مع اللغات الإفريقية الغربية التي انتشرت منذ أزيد من 1000 سنة على امتدادا مساحة تتجاوز 2000 كلم، لكنها ما تزال تحافظ على تقارب كبير جدا وتنوع محدود في لغاتها المختلفة، بسبب طبيعة المجتمعات هناك وبنياتها التقليدية المتشابهة. (Blench. R. 2001. Types of language spread and their archeological correlates : the example of berber. Origini XXIII, P 177. ). إذا يكمن حل تلك المعضلة عن الزمن الحقيقي لظهور الفرع اللغوي الأمازيغي، في المعطيات التاريخية التي تستطيع أن تحل هذا اللغز وتقدم لنا جوابا ممكنا عن الذي حصل فعلا في الواقع، منذ القرن الثاني ق.م وما يليه، والذي جعل اللغات الأمازيغية المتعددة تبدو متقاربة فيما بينها ( دون أن ينفي ذلك تعدديتها ). تشير كتب التاريخ القديم إلى حصول " هجرات بشرية " قديمة في نفس الفترة الزمنية أي القرون الأولى قبل الميلاد، وكانت لها تأثيرات مهمة على البنية السكانية واللغوية والثقافية لمنطقة شمال إفريقيا. وعادة ما تربط هذه الهجرات بقبائل " زناتة " ( تحريف عربي لكلمة " إزناتن " ) والتي يعتقد أنها تشكلت من نواة المجموعات القبلية الصحراوية التي هاجرت إلى شمال إفريقيا من المناطق الصحراوية المحاذية لمنابع وادي النيل شرقا في مناطق تاسيلي وأدرار إيفوراس، واستقرت في الصحراء الليبية خلال القرن الثاني ق.م تحت ضغط ظاهرة الجفاف الكبير الذي عرفته منطقة الصحراء الكبرى، وهم الذين أدخلوا معهم الحصان البربري إلى شمال إفريقيا لأول مرة، وقد كانت هذه الموجة الثانية من الهجرات الزناتية الكبيرة حيث سبقتها واحدة أخرى قبل ذلك ببضعة قرون ( حوالي القرن الخامس ق.م ) والتي تميزت بإدخال الجمال إلى المنطقة لأول مرة، من طرف أولائك الذين عرفتهم كتب التاريخ القديم ( الروماني أساسا ) بجماعات " البدو راكبي الجمال " الذين قاوموا التغلغل الروماني في المنطقة. نتج عن تلك الهجرات الزناتية القديمة خلخلة للبنية القبلية والاجتماعية لشمال إفريقيا حيث اندمجت المجموعات الزناتية مع المجموعات الأخرى في المنطقة، ويمكن أن نخمن أنه بموازاة ذلك حصلت تبادلات ثقافية ولغوية عديدة مع دخول العنصر " الزناتي " في المشهد العام وعلاقات التأثير والتأثر التي خضع لها مع المكونات والعناصر الأخرى التي كانت مستقرة في المنطقة قبل ذلك بزمن طويل. لكن تلك الهجرات ستعرف زخما كبيرا في القرن الحادي عشر والثاني عشر ميلادي، بسبب هجرات أخرى قادمة هي الأخرى من الشرق. فقد أدى التدخل العربي الذي بدأ في القرن السابع ميلادي إبان فترة الفتوحات ووصل أوجه مع هجرة قبائل بني هلال وبني سليم والتي دفعت بالمجموعات الزناتية أمامها غربا باتجاه المغرب الأقصى، وأدى تدخلها واستقرارها بالمنطقة ( القبائل الزناتية والعربية ) إلى إعادة تفكيك البنيات القبلية القديمة وتشكيل بنيات جديدة، مع حصول عملية تخليط واسعة النطاق بين مختلف العناصر البشرية والثقافية بالمنطقة، وتُوّجت هذه الحركية التاريخية بتحركات المجموعات القبلية الأخرى التي شكلت دولا كبيرة امتد نفوذها إلى خارج شمال إفريقيا في الأندلس مثل دولة المرابطين التي اعتمدت على التكتل القبلي الصنهاجي ( تحريف عربي لكلمة " إزناكَن " ) ودولة المرابطين التي تأسست على أيدي القبائل المصمودية ( تحريف عربي لكلمة " إمزمودن " ومعناها قصار القامة ). ولا بد أن هذه الدينامكية التاريخية التي عرفتها منطقة شمال إفريقيا منذ القرن الثاني ق.م قد ساهمت بشكل كبير في إعادة صياغة وتشكيل المشهد اللغوي في المنطقة. ويمكن أن نعطي عددا من الأمثلة على النتائج التي انتهت إليها هذه الصيرورة التاريخية في إعادة تشكيل المشهد اللغوي التعددي، حيث تصنف لغة " تاريفيت " المنتشرة في منطقة الريف شمال المغرب عادة ضمن المجموعة اللغوية الزناتية انطلاقا من وجود تقاربات بينها وبين بقية اللغات الزناتية الأخرى في الجزائروتونس وليبيا، وذلك بالرغن من أنه ومن المعروف تاريخيا أن سكان الريف ينتمون سلاليا إلى أحد الفروع المصمودية المعروف باسم " غمارة "، لكنهم تعرضوا لتأثيرات بشرية ولغوية مختلفة فتحول الجزء الشرقي منهم إلى تبني لغة زناتية تحت تأثير الهجرات الزناتية المتتالية إلى المنطقة وصاروا يتكلمون اليوم لغة " تاريفيت "، في حين خضع الجزء الغربي منهم المعروف اليوم باسم " جبالة " لتأثير القبائل العربية الهلالية المستقرة في سهل الغرب وجرى تعريبهم على مراحل زمنية مختلفة. ويمكن تلخيص ما حصل في شمال المغرب على المستوى التاريخي بكون أعداد متزايدة من القبائل الزناتية المهاجرة إلى المغرب تحت ضغط الهجرات العربية والتوسع الفاطمي، قد اختلطت مع المجموعات المصمودية القديمة من غمارة، ما أدى في النهاية إلى حدوث تمازج واسع على المستويين الوراثي واللغوي انتهى في النهاية بهيمنة العامل الزناتي على المستوى اللغوي رغم بقائه ضعيفا على المستوى الوراثي، كما حصل مع المكون العربي في شمال إفريقيا المهيمن ثقافيا ولغويا رغم ضعفه وراثيا. وهذا يؤكد نتيجة في غاية الأهمية وهي أن القرابة اللغوية في منطقة شمال إفريقيا لا تتطابق دائما مع القرابة الوراثية، والعكس صحيح. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة للغة " تامازيغت " في مناطق الأطلس المتوسط حيث تصنف في المجموعة الأطلسية الشمالية بجانب لغة " تاشلحيت " ( لغة المصامدة تاريخيا )، رغم أنه من المعروف تاريخيا أن قبائل " زيان " المستقرة في الأطلس المتوسط والتي تطلق عليها كتب التاريخ بني عبد الواد أو بني زيان تعد من التكتلات القبلية الزناتية التي دخلت المغرب الأقصى على دفعات متتالية منذ عهد المرينيين واختلطت بالمجموعات الأخرى لسكان الأطلس، وخضعت لتأثرات لغوية وثقافية أدت في النهاية إلى تبنيها لغة " تامازيغت " القريبة من " تاشلحيت " والبعيدة نسبيا عن الزناتية الأصلية التي كانت تتحدث بها هذه القبائل قبل دخولها للمغرب. ولو بحثنا في الجذور التاريخية لواقع التعدد اللغوي في منطقة شمال إفريقيا، نجد أن هذا التعدد كان قائما منذ ما قبل التاريخ وما يزال مستمرا إلى اليوم. وبقراءة مزدوجة للمعطيات اللغوية والمعطيات الأنتروبولوجية المتعلقة بمنطقة شمال إفريقيا، يمكن أن نستنتج أن واقع التعدد اللغوي هو نتيجة لواقع التعدد الإثنولوجي في المنطقة : فمن المعروف تاريخيا أن هذه المنطقة كانت ومنذ القدم تعرف تنوعا بشريا كبيرا جاء نتيجة تعدد الهجرات البشرية التي ظلت تتحرك باستمرار من الشرق نحو الغرب منذ سلالات الإنسان القديم الأولى بالمنطقة قبل حوالي 35 ألف سنة ق. م، والسلالات العاترية منذ حوالي 25 ألف سنة ق.م، و الإبيرو– موريتانية قبل أزيد من 13 ألف سنة ق.م، مرورا بالسلالة القفصية منذ حوالي 7 آلاف سنة ق.م، وصولا إلى سلالة العصر الحجري الحديث قبل حوالي 3 آلاف سنة ق.م. وتؤكد الأبحاث الوراثية الحديثة التي جرت بمنطقة شمال إفريقيا ومن ضمنها المغرب، على حصول اختلاط واسع النطاق بين تلك السلالات البشرية المختلفة منذ ما قبل التاريخ، وهو ما يعني بموازاة ذلك حصول عمليات تتبادل وانصهار لغوي وثقافي واسعة بين تلك المكونات المختلفة والمتنوعة. فلا يعقل أن يحصل انصهار وراثي دون اندماج ثقافي ولغوي مرافق له، كما هي العادة دائما في جميع المناطق وفي مختلف العصور. ويعتقد بعض الباحثين أن اللغات الأمازيغية القديمة انتشرت في المنطقة مع هجرات تاريخية تعود إلى أزيد من 10 آلاف سنة ق.م وأن هذه الهجرات ترافقت مع انتشار الزراعة بالمنطقة (Diamond J, Bellwood P. 2003. Farmers and their languages : the first expansions. Science 300: 597–603. ). ويستخدم الباحث الفرنسي كامبس مصطلحين للتعبير عن تلك اللغات القديمة في شمال إفريقيا هما : " الأمازيغية القديمة " ويقصد بها اللغة التي يمكن أن تكون السلف المباشر للغات الأمازيغية المتداولة حاليا في شمال إفريقيا، رغم أننا لسنا متأكدين من ذلك، و" الأمازيغية البدائية " والتي يقصد بها اللغة التي كانت متداولة لدى مجموعات العصر الحجري والتي انشقت مباشرة من الأسرة اللغوية الآفروآسيوية (Camps. G. 1980. Berbères, au marge de l'histoire. Hespérides : Toulouse ; P 34, ). وبما أن اللغات المنتشرة في شمال إفريقيا وفي المنطقة القريبة من الشرق الأوسط تنتمي كلها إلى المجموعة اللغوية الآفروآسيوية (Ruhlen M. 1991. A Guide to the World's Languages. Edward Arnold, London Vol 1 P 239 )، فإن هكذا هجرة لا بد وأن أصحابها كانوا يتحدثون لغة سابقة على الآفروآسيوية، أو على الأقل نسخة بدائية عنها. هؤلاء ربما كانوا أحضروا معهم- ضمن آخرين - السمات الوراثية المميزة لسكان شمال إفريقيا E3B و J ، وبعد ذلك ظهرت السمة الوراثية M-81 ( E3b2 ) في شرق الصحراء الكبرى على منابع وادي النيل وحملها معهم مهاجرون من العصر الحجري الحديث إلى شمال إفريقيا التي كانت منطقة قليلة التعمير، ليطغى هؤلاء – وراثيا - على من سبقهم من الشعوب الأخرى المستقرة بالمنطقة. وبالطبع طغت لغتهم الآفروآسيوية القريبة من السامية والمصرية القديمة على اللغات السابقة عليها في المنطقة حتى ولو بقي من تلك اللغات البدائية الموغلة في القدم بعض الآثار المعجمية البسيطة. وربما سهل انتماء كل هذه الموجات البشرية إلى نفس الوعاء البشري والحضاري في عملية الاندماج والانصهار البشري واللغوي، على اعتبار أن جميع هذه الموجات البشرية المهاجرة جاءت من نفس المنطقة الشرقية تقريبا وتنتمي كلها إلى ما يعرف بالفرع الآفروآسيوي الذي ظل يغطي منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط ( المشرق العربي وشمال إفريقيا ) وامتدت تأثيراته حتى أوروبا ما قبل الهجرات الهندوأوروبية. ويقدم علماء اللسانيات بعض الأمثلة المعجمية عن ما يعتبرونه الأمازيغية البدائية التي يعتقد أنها كانت متداولة في صفوف المجموعات القفصية القديمة التي عاشت في منطقة شمال إفريقيا منذ أزيد من سبعة آلاف سنة، والتي كانت سابقة على الأمازيغية القديمة التي حملتها سلالات العصر الحجري الحديث معها إلى المنطقة، قبل أن تطغى هذه الأخيرة على سابقتها وتنصهر فيها. وتتعلق جميع هذه المفردات بأسماء الحيوانات و النباتات والتي تتداول أشكال مختلفة منها في معظم اللغات الأمازيغية المنتشرة في المنطقة، من قبيل كلمات : " أغاض / تغاضت " ( الكبش / النعجة ) والتي تشترك فيها جميع اللغات الأمازيغية تقريبا، و " إكيكر / إكير..." ( الحمص ) والتي يعتقد أنها ليست كلمة لاتينية وإنما هي أمازيغية بدائية انتقلت إلى اللاتينية عقب الغزو الروماني للمنطقة، وكلمات " تخسي " ( الماشية ) و " أولّي " ( الغنم ) التي تشترك فيها معظم اللغات الأمازيغية، و " أفوناس / تافوناست " ( الثور / البقرة ) المنتشرة في عدد كبير من اللغات الأمازيغية والتي يرجح أنها أيضا قديمة جدا وفقا لمقارنات لسانية عديدة. ويشير الباحثون في هذا الصدد إلى عادة تزيين بيض النعام برسوم وأشكال هندسية متنوعة ( الجزائر، تونس ) والتي كانت إحدى أهم خصائص الحياة القفصية الواضحة التي استمرت خلال العصر الحجري الحديث حتى الوقت الذي ذكرت فيه الشعوب الليبية في السجلات التاريخية، مثل الجرمانتيين Germantes في الجنوب، وهو ما يؤكد أنه ربما بقيت بعض الخصائص الثقافية القفصية حتى فترة حديثة نسبيا وأنها ربما انتقلت منهم إلى مجموعات العصر الحجري الحديث بعض اندماج المجموعتين ببعضهما البعض وهو ما تؤكده معطيات عديدة أركيولوجية ووراثية. وإذا كانت بعض مظاهر الفنون والعادات الثقافية قد بقيت موجودة منذ القفصيين فهذا يعني أنه ربما كانت بعض العناصر اللغوية قد بقيت موجودة هي الأخرى وانتقلت بدورها إلى اللغات الجديدة رغم هيمنة العناصر الحديثة لمجموعات العصر الحجري الحديث عليها، مع بقاء انتماءهما معا إلى المجموعة الآفروآسيوية لغة وثقافة. وفي سياق عام، يعتبر سكان شمال إفريقيا كإحدى أهم المجموعات البشرية في هذه منطقة البحر المتوسط التي كانت لها تأثيرات ثقافية ( التقارب اللغوي ) ووراثية ( التقارب الجيني ) بين شعوب أوروبا وشعوب إفريقيا جنوب الصحراء. وتؤكد التقاربات اللغوية بين الفرع الأمازيغي والفرع التشادي المنتميان إلى نفس الأسرة اللغوية الآفروآسيوية، وجود تقاربات ثقافية بين المجموعتين حتى زمن يعود إلى حوالي 15 ألف سنة مضت. وربما يتناقض ذلك مع المعطيات الوراثية وحتى مع ما يلاحظ حاليا من اختلاف مورفولوجي كبير بين الهوسا ذوي الأصول الجنوب – صحراوية والملامح الزنجية وبين المجموعات الأمازيغية في شمال غرب إفريقيا بما في ذلك الجنوبية منها والتي تعيش على تخوم الصحراء مثل السوسيين ( الناطقين بتاشلحيت في منطقة سوس ) في الجنوب المغربي والذين يظهرون طابعا أكثر قربا إلى العرق الأبيض (Excoffier L, Pellegrini B, Sanchez-Mazas A, Simon C, Langaney ; 1987. A Genetics and History of Sub-Saharan Africa. Yearbook of Phys Anthropol, 30 : p 151-19 ). و يمكن تفسير ذلك بالمدة الزمنية الكبيرة التي استغرقها الاتصال الثقافي بينهم وإمكانية انتقال اللغة، مع وجود اختلاط وراثي ضعيف نسبيا. كل ذلك يبين علاقات التفاعل الوراثي والثقافي التي حدثت في منطقة شمال إفريقيا وغربها على امتداد 40 ألف سنة الماضية، و تؤكده أيضا علاقات الترابط الوراثي بين المجموعات الأمازيغية وبعض شعوب أوروبا الغربية ( الباسك، كتالانيا، الأندلس، البرتغال، إيطاليا...) وعلاقات الترابط اللغوي بينها وبين بعض شعوب إفريقيا جنوب الصحراء. وإذا كان ظهور اللغات الأمازيغية الحديثة قد أدى إلى اختفاء اللغات القديمة التي سبقتها في منطقة الصحراء الكبرى – كما أدى التوسع الهندوأوروبي إلى اختفاء عدد كبير من اللغات الأوروبية القديمة رغم أن بعضها بقي موجودا إلى اليوم مثل اللغة الباسكية – فإنه من المحتمل جدا أن تكون الشعوب التي كانت تسكن الصحراء وتتكلم اللغات النيلو- صحراوية أو النيجر- كردوفية، قد احتفظت لمدة طويلة بلغاتها وقد أدى ذلك إلى حدوث عملية تأثير وتأثر كبيرة بين اللغات الأمازيغية وتلك المنتشرة في منطقة الصحراء الكبرى. وكما هو معروف، فقد مرت مراحل التعمير البشري في منطقة شمال إفريقيا بسياق جغرافي ومناخي خاص مرتبط بظاهرة جفاف الصحراء الكبرى ما بين 3000 و 4000 ق.م، والتي تسببت في حدوث قطيعة بين شمال القارة الإفريقية وجنوبها، وزيادة تجزئة شمال إفريقيا إلى مجموعات ثقافية وجغرافية مختلفة. وفي المرحلة ما بين 10 آلاف و 5500 ق.م عرفت منطقة الصحراء الكبرى فترة من وفرة الأمطار أدت ظهور عدد من البحيرات و الواحات وتطور الغطاء النباتي المتوسطي في الأراضي المرتفعة. وقد دفع هذا التحسن الملحوظ في الظروف المناخية بأعداد متزايدة من الرعاة الرحل إلى استيطان هذه المناطق ووصلوا حتى إلى المناطق التي ستصبح فيما بعد صحراء ليبيا الجنوبية و غرب مصر. وقد استقرت بعض تلك المجموعات قرب المصادر المائية في حين أن بعضها الآخر سيبقون بدوا رحلا. وفيما بعد وخاصة بعد سنة 4000 ق.م ستعرف الصحراء فترة من الجفاف الشديد لتتحول إلى ما يشبه الحالة التي هي عليها اليوم. اختفت كل البحيرات والواحات وتراجع الغطاء النباتي وبقي النيل هو المصر المائي الوحيد في كل الصحراء الإفريقية. اضطر الناس – سواء كانوا رحلا أو مستقرين – إلى الهجرة إلى مناطق أخرى أكثر قدرة على استيعابهم. وقد حدثت تلك الهجرات في جميع الاتجاهات، فذهب بعضهم إلى حوض بحيرة التشاد، آخرون إلى حوض وادي النيل، في حين فضل آخرون الاتجاه شمالا نحو مناطق شمال إفريقيا المرتفعة والأقل عرضة للجفاف الشديد، هؤلاء سيشكلون إضافة إلى السلالات الأخرى التي استوطنت قبلهم منطقة شمال إفريقيا، الأسلاف المباشرين لسكان هذه المنطقة. وقد ظلت الصحراء تلعب لزمن طويل دور مضخة كبيرة تمتص الناس إلى داخلها في أوقات وفرة الأمطار وتدفع بهم في زمن الجفاف، مما كان يتسبب في هجرات بشرية متعددة كانت تتجه عادة من الشرق نحو الغرب. وكانت كل مجموعة بشرية تأتي إلى المنطقة حاملة معها لغتها وثقافتها الخاصة التي هي حصيلة لتراكم تاريخي طويل وعمليات تأثير وتأثّر – طويلة الأمد وبالغة التعقيد - بالشعوب الأخرى التي صادفتها في طريقها. ولأن تاريخ البشرية هو تاريخ التلاقح الثقافي واللغوي فإن ما كان يحصل في شمال إفريقيا لا يخرج عن هذا الإطار، حيث أدت عمليات الانصهار والاندماج الوراثي بين تلك المجموعات البشرية المختلفة إلى حدوث انصهار واندماج لغوي وثقافي بينها، وبالتالي إلى نشوء لغات متعددة تشترك فيما بينها في بعض الأمور وتختلف في أمور أخرى وذلك بسبب الظروف المختلفة التي تمت بها عملية التلاقح اللغوي تلك والنتائج اللغوية والتاريخية المختلفة التي ترتبت عنها. وحتى بعد مجيء الجفاف النهائي للصحراء الكبرى ظل هذا المشهد الثقافي واللغوي التعددي في منطقة شمال إفريقيا - والذي يعود في أصوله إلى عشرات آلاف السنين –مفتوحا باستمرار على تغيرات جديدة تحملها معها كل هجرة بشرية جديدة نحو المنطقة. وقد برزت تأثيرات جديدة ذات طابع متوسطي منذ مجيء الفينيقيين في القرن الثامن ق.م والرومان في القرن الرابع ق.م والوندال في القرن الثالث وصولا إلى الهجرات العربية الكبيرة ابتداءً من القرن 11 ميلادي. وقد كانت لتلك الهجرات الخارجية إضافة إلى هجرات أخرى داخلية تأثيرات كبيرة على مستوى الثقافة واللغة والكتابة. ويدعم هذا التوجه ما لاحظه المؤرخون القدماء من وجود تعددية لغوية لدى سكان شمال إفريقيا سواء منهم الناطقين باللغات الأمازيغية أو العربية، وفي هذا السياق يتحدث ابن خلدون ( القرن 13 ميلادي ) في تاريخه ( ج 7 ص 3 ) عن " لغة زناتة " المميزة عن غيرها من اللغات الأخرى في المنطقة، والذي يعد أقدم إثبات تاريخي على واقع التعدد ضمن الأسرة اللغوية الأمازيغية، حيث يقول : " وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة البربر...". وبعد ذلك بعدة قرون لاحظ المؤرخ والرحالة الأوروبي مارمول كربخال ( القرن 16 ميلادي ) في كتابه عن إفريقيا ( ج 1 ص 115 ) ملاحظات مهمة عن واقع التعددية اللغوية في منطقة شمال إفريقيا حيث يقول : " ... واللغة التي يتكلمون ( سكان شمال إفريقيا ) بها حاليا مكونة من العربية والعبرية واللاتينية واليونانية والإفريقية القديمة ( الفرع اللغوي الأمازيغي ) التي كانوا يستعملونها لدى مجيئهم إلى البلاد ( شمال إفريقيا )، لأنه لا أحد يخالف في وجود لغة طبيعية خاصة بإفريقيا مختلفة عن لغة العرب. وتحمل اللغة التي يتكلمون بها الآن ثلاثة أسماء وهي الشلحة ( تاشلحيت ) وتامازيغت والزناتية، تكاد تدل على نفس الشيء، مع أن البرابرة الأقحاح يختلفون في النطق وفي مدلول كثير من الكلمات. فأقربهم جوارا للعرب وأكثرهم اتصالا بهم يمزجون كلامهم بالعديد من الكلمات العربية... ويمزج الأعراب كلامهم كذلك بعدد كبير من الكلمات الإفريقية ( الأمازيغية ). ويتكلم أهل غمارة وهوارة الذين يعيشون في جبال الريف لغة عربية فاسدة ( العربية الدارجة )، وكذلك جميع سكان مدن البربر المقيمين بين الأطلس الكبير والبحر. لكن سكان مراكش وجميع أقاليم هذه المملكة يتكلمون اللغة الإفريقية الصافية المسماة الشلحة ( تاشلحيت ) وتامازيغت وهي اسمان قديمان جدا. أما سائر الأفارقة البرابرة القاطنين في الجهة الشرقية المتاخمة لمملكة تونس وطرابلس الغرب إلى صحاري برقة فإنهم يتكلمون جميعهم لغة عربية فاسدة، وكذلك الذين يعيشون بين جبال الأطلس الكبير والبحر سواء كانت لهم منازل قارة أم لا، بالإضافة إلى زواوة ( منطقة القبائل شمال الجزائر ) ولو أن لغتهم الرئيسية هي الزناتية بحيث إن الذين يتكلمون اللغة العربية الفصحى بإفريقيا ( شمال إفريقيا ) قليلون، لكنهم جميعا ( سكان شمال إفريقيا باختلاف لغاتهم ) يستعملون في كتابتهم الأصلية العربية ( حروف الأجدية العربية ) التي تقرأ وتكتب عادة في كل بلاد البربر ونوميديا وليبيا...". إذا فعلى امتداد التاريخ – منذ القديم إلى اليوم - عرفت منطقة شمال إفريقيا تعددية لغوية زاد من غناها اندماج المكون اللغوي العربي في هذه التركيبة اللغوية التعددية، ولم يحصل في تاريخ المنطقة كله وفي جميع فتراته أن تحدث أحدهم عن وجود " لغة أمازيغية معيارية موحدة غير قابلة للتقسيم أو التجزيء في كل شمال إفريقيا..." كما تبشرنا بذلك النخب القومية الجديدة.