"التوحيد والإصلاح" تطالب بمنهجية تشاركية في إعداد مدونة الأسرة    38 قتيلا ونجاة 28 آخرين في حادث تحطم طائرة أذربيجانية بكازاخستان    هزيمة جديدة للمغرب التطواني أمام الجيش الملكي تعمق من جراح التطوانيين    وكالة المياه والغابات تعزز إجراءات محاربة الاتجار غير المشروع في طائر الحسون    شاب ثلاثيني يلقى مصرعه تحت عجلات حافلة شركة "ألزا" بطنجة    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    قيوح يعطي انطلاقة المركز "كازا هب"    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    أخبار الساحة    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    الحصيلة السنوية للأمن الوطني: أرقام حول الرعاية الاجتماعية والصحية لأسرة الأمن الوطني    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    ترامب عازم على تطبيق الإعدام ضد المغتصبين    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    مهرجان جازا بلانكا يعود من جديد إلى الدار البيضاء    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"23 مارس".. معركة الذاكرة: تفاصيل مقتطفة من تاريخ لم يكتب بعد (الجزء الثالث والأخير)
نشر في لكم يوم 10 - 05 - 2016


10 ماي, 2016 - 12:17:00
كان ترددي في محله عندما فاتحني الأستاذ عبد الصمد بلكبير في المساهمة في تقديم هذا الاصدار حول 23 مارس. فعلى فرض تجاوز كل الصعوبات المرتبطة بالموضوع، ما العمل مع إكراهات الذاكرة وألاعيبها؟.. وهل ينسى المرء مشيته؟! بهذه البساطة والعفوية يحل عبد الصمد الاشكالية. وقَطَعَ الشك باليقين عندما أتانا بالبينة: إحضار أعداد 23 مارس مصورة في «الملتقى»، وهو عمل مشكور وجدير بالتنويه به؛ بعد أن اعتُبر هذا التراث في حكم الضائع، فأنا شخصيا لا أتوفر الا على بضعة أعداد لست أدري كيف «علقت» بأغراضي عند نقلها إلى المغرب أوائل الثمانينات، وإلا كيف تعبر الحدود بمادة محرمة حتى ولو أقسمت بأغلظ الأيمان أنها «للاستهلاك الشخصي» فقط؟!
لنحاول إذن نفض الغبار عن ذكريات عمرها أربعون سنة أو أكثر، وليتحمل معنا القارئ عناء السفر في الدروب المعتمة لشذرات تاريخ كاد يطويه النسيان؛ علّنا في معركة الذاكرة هاته نحقق بعض الانتصار نغالب به انكساراتنا في ما عداها من المعارك، سيما وأن 23 مارس تضررت أكثر من غيرها على مستوى ما اعترى ذاكرتها من نزيف وغبن؛ بسبب القمع طبعا لكن ليس دائما بسبب القمع. (الجزء الثالث والأخير).
من بنسعيد إلى آخر
في الطابق السفلي كان يسكن «بنسعيد الصغير» (محمد بورحيم) أحد الناجين من كماشة 16 يوليوز 1963 التي ذهب ضحيتها جميع مسؤلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأكثر من 5000 آلاف من مناضليه. ومادمنا بصدد متحف الذكريات لا بأس من الاشارة الى قصته التي حكاها لنا بنفسه ذات زيارة الى الجزائر. كان متواجدا بمقر «الكتابة العامة» بالدار البيضاء، 14 زنقة علال بن عبد الله، عندما داهمه البوليس فاعتقل مع الجميع في كومسارية المعاريف. وأثناء الاستنطاق أنكر جملة وتفصيلا كل علاقة له بالاتحاد وبالسياسة والسياسيين والعرب أجمعين وأنه لا يتكلم ولا يفهم الا «الشلحة» وقد وصل لتوه من «البلاد» وأنه تاه عندما خرج يبحث عن عمه أو خاله في دروب الدار البيضاء التي لا يعرفها. عيل صبر البوليس وأمام كثرة البشر أخلي سبيله. وعندما فطن البوليس الى أنه هو بنسعيد الصغير المبحوث عنه سابقا في قضية متابعة محمد بنسعيد، كان قد اجتاز الحدود الى الجزائر ليلتحق بمعسكرات شيخ العرب لتدريب المجندين على حرب العصابات مع «الكولونيل» بنحمو المسيوي وابراهيم التزنيتي وسعيد بونعيلات وعمر الفرشي ومصطفى العماري..
«مقر» NANTERRE
البيت الآخر الذي سيصبح المقر الثاني للجريدة هو البيت الذي سأقطنه بضع سنوات مع العربي مفضال والكائن ب 10, rue de l‘Eglise ضاحية نانطير. «ورثنا» هذا السكن - المقر عن المرحوم مختار مرزوق رئيس جمعية المغاربة بفرنسا ومصطفى الرمضاني العامل بفرنسا (وهو ابن عبد الرحمن الرمضاني اللاجئ السياسي بالجزائر من فيگيگ كان يمارس التجارة بمنطقة بشار نكبه الجزائريون فيمن نكبوا من المغاربة سنة 1975 واستولوا على أمواله وممتلكاته). تنازل مرزوق والرمضاني لنا عن هذا البيت عندما تزوج مرزوق والتحقت به زوجته خديجة من الجزائر فكان من الضروري الانتقال الى سكن يليق بأسرة حديثة عهد بالزواج. مع استمرار الرفيقين في دفع ايجار البيت السابق وأداء فواتير الماء والكهرباء.
في هذا البيت - المقر الذي يتراءى لي الآن وكأنه يشبه الكهف؛ إذ يقع في الطابق السفلي من عمارة عتيقة بحي عمالي شعبي - كان يتم تصفيف المقالات من طرفي على نفس الآلة الكاتبة التي قبل محمد بنسعيد التنازل لي عنها «عن طيب خاطر». وبعد فترة «تدريب» قصيرة؛ إذ كنت قد بدأت الاستئناس بالنقر على آلة سي عبد الرحمن (لحسن زغلول) بالجزائر صرت التقني المتخصص حتى خيل للصديق محمد المريني أني منذ البدء كنت «متمكنا من تقنية الطبع»، واستمر المريني من حين لآخر ينقر بأصبع واحدة حرفا حرفا مما كان يعرضه لتندر السمهاري وسخريته البريئة طبعا ملقبا اياه «اصبيّع.. اربيّع». لذلك لم يحاول السمهاري أن يقترب من الآلة الكاتبة؛ وانما اقترب من تحرير الأخبار القصيرة وبشكل خاص اقتناص العناوين الطريفة المصيبة في الصميم مثل «ادهن السير..!» عنوانا لخبر عن الرشوة إذ كان مروره بالجريدة مر الكرام قبل أن يتوجه رفقة«حسن طيرو» (مختار قدوري) صوب rue Serpente مقر جمعية المغاربة بفرنسا (التي أسسها المهدي بنبركة سنة 1961) لتعزيز الطليعة العمالية المهاجرة آنذاك ممثلة في: ايدر أرسلا، حمو بوزيان، مصطفى الرمضاني ومختار مرزوق رحمه الله.. وغيرهم ممن خاضوا النضال وسط الهجرة المغربية في معامل الرونو وسيتروين وفي أحياء الزخم العمالي الفرنسي والمهاجر؛ أحياء Jonvilliers، و Saint Denis، و Puteaux... في معارك مشهودة ضد العنصرية وضد قانون Stoléru (مليون لكل مهاجر يريد العودة الى بلاده)، وتضامنا مع النضال الطويل لسكان أحياء سوناكوترا المطرودين، ومع عصيان فلاحي Larzac. وضد القمع وضد الوداديات ودفاعا عن القضية الوطنية.. وإشاعة للثقافة التقدمية بين العمال بإصدارها لجريدة «الجالية» وتأسيسها لفرقة مسرحية غنائية اشتهرت بمسرحية «بوشعيب»؛ فرقة كان ينشطها الشاب الموهوب رشيد گنون أحد «خريجي» 23 مارس بالدار البيضاء قبل أن يلتحق بها شاب آخر كان يخطو خطواته الأولى في الميدان هو شفيق السحيمي(وجع التراب). وكان يرافق الجمعية في أنشطتها الاجتماعية وفي علاقاتها مع الأوساط التقدمية الفرنسية نخبة من خيرة المثقفين المغاربة كان من جملتهم المرحوم محمد صلاح الدين أستاذ الاقتصاد وعلم الاجتماع بجامعة فاس لاحقا. وهو الذي شجعني، بالمناسبة، وساعدني في تذليل الاجراءات المعقدة للحصول على وضعية لاجئ سياسي بعدما حجب عنا الجزائريون جوازات السفر.
لم تولد وفي فمها ملعقة من ذهب
في هذا المقر ستقام تلك «المآدب العدسية» المشهورة التي أشار اليها محمد المريني والتي تندرج في صميم ما أومأ إليه الحبيب طالب من إنجاز الجريدة «.. في شروط عمل مادية، هي من السوء بما لا يخطر على بال، وما يصعب التعبير عنه..». فقد كنا متعودين - منذ التأسيس وقبل التأسيس - على الكفاف وقلة ذات اليد سواء كتنظيم أو كأفراد.. وهل كان هناك فرق؟ كانت «ماهيتنا» المحدودة - كرجال تعليم في الغالب؛ طلبة أو مدرسين - موزعة بين الأهل والتنظيم وحاجيات التنقل والسكن والأكل.. بكل البساطة التي كانت عليها الحياة في ستينيات القرن الماضي. فمنظمة 23 مارس هي المنظمة التي لم تولد وفي فمها ملعقة من ذهب. وتلك كانت شروط المنظمة من البداية إلى النهاية؛ حيث العامل المادي يتحول في كثير من الأحيان الى عامل سياسي: التنقل، المقرات، الطبع، إنجاز المهام أو تعليقها.. الخ.
حصل بعض التحسن مع التوسع الذي عرفته المنظمة في الخارج وبعد انضمام رفاق (ج) وخلال فترة التنسيق مع (أ)، وازدادت بالمقابل حاجياتها بالأخص في الداخل. وفي الجانب الذي يهمنا هنا والمتعلق بشروط عمل هيئة التحرير (وهي في نفس الوقت لجنة العلاقات الخارجية)، كنا نحصل في هيئة التحرير على مخصصات مالية محددة في 300 فرنك فرنسي (300 درهم مغربي تقريبا) شهريا لكل واحد منا وبصفة مؤقتة في انتظار إيجاد شغل. كنا ندبرها (مفضال وأنا) كالتالي: 100 ف للتزود بما يلزم من المواد الثابتة، 100 ف مصروف الجيب - السجائر وغيرها ..، و100 ف لشراء بطاقة التنقل الشهرية (carte orange). بهذه البطاقة تصبح باريس وضواحيها القريبة تحت تصرفنا طوال الشهر من الخامسة صباحا وإلى الواحدة بعد منتصف الليل. وكذلك بيوت الرفاق التي كانت مخابئ مفاتيحها معروفة لدينا.. فكنا نحل، دون استئذان، «ضيوفا» عند علي الطاهري وعفيفة اگديرة مثلا، وكنا إذا طاب لنا المقام ببيت المريني، وكان مزاج السعدية السعدي رائقا، أتحفتنا بأكلة السمك الشهية التي كانت متخصصة فيها.
أما المرحوم «زين الدين» وزوجته سعاد شقيقة أخينا عبد اللطيف عواد فكثيرا ما رتبا «على شرفنا» أمسيات جميلة يجتهدان في تدبيرها في شقتهما المتواضعة المكونة من غرفة واحدة قرب ميترو Les Gobelins؛ بل كانت شهامة «زين الدين» تصل به الى حد التنازل لنا أحيانا عن بعض لياليه في الفندق الذي كان يشتغل فيه ليلا ب rue des écoles تخفيفا من ضائقتنا المالية. أما إذا سافرنا عند أخت مفضال، خديجة وزوجها مصطفى مؤمن في Bonnière أو عند أهل ابراهيم ياسين، فإن ذلك يكون أشبه بالولائم والأعياد.. كانت تلك بعض من متعنا الصغيرة بين اجتماع وآخر، بين الفراغ من عدد من 23 مارس والشروع في عدد آخر، وكانت أغاني ناس الغيوان وجيلالة والمشاهب تتكفل بالباقي. وإذا لم تكن، رضينا بنسخة لا بأس بها من «ياصاح راني وسط الحملة» يتحفنا بها «المطرب» مبارك حنون.
مدرسة 23 مارس
في هذا المقر أيضا تابع رشيد سكيرج عملية التوضيب إذ لم أكن أجرؤ حتى على مجرد التفكير بالترامي على هذا التخصص الذي كان يبدو لي بالغ التعقيد وقد كان كذلك ولهذا كان الرفيق بوشعيب ينادي رشيد ب«المعلم». في هذا البيت - المقر سأدبج معظم ما نشر في 23 مارس من مقالات حول الوضع العربي، وفيه أيضا كتب «ميلود» (العربي مفضال) جل المقالات الطويلة والقصيرة حول: المسألة الزراعية، الصيد البحري، التعليم، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية.. أصبح «جوكير» الجريدة منذ اكتشافه سنة 1975 كما تكتشف نجوم الغناء في Star Academy اليوم. فجاء هذا «الاكتشاف» ليعطي دفعة جديدة للجريدة بما اشتمل عليه من مواصفات كانت محبذة ومطلوبة: القدرة على التكيف والتلاؤم مع مختلف المواضيع والتخصصات، السرعة في الانجاز، البساطة والوضوح، طول النفس (كامل الأوصاف يعني).. «تطوع» في البداية بمقال، وثان، وثالث.. ثم برصيد لا يحصى من الكتابات في 23 مارس وفي أنوال من بعدها تحت أسماء مستعارة أشهرها «أحمد السنبالي»..
صدرت الجريدة والهواية ميزتها في كل شيء باستثناء عملية التوضيب فكانت احترافية منذ البداية. لم يكن يخطر ببال أحد أن ما كنا نقوم به يمت بصلة الى الصحافة؛ وإن هو إلا كذلك منظورا اليه الآن بعين المؤرخ. كنا مثل السيد Jourdain بطل موليير الشهير الذي يقول نثرا منذ أربعين سنة وهو لا يدري.. كان الحبيب طالب يكاد يكون الوحيد الذي مارس الكتابة من قبل، وفي جانبها التنظيري بالأساس عندما كان يوقع غالبا مقالاته في «أنفاس» وفي «الحرية» باسم ناوري حسن. اكتسب هذه «الموهبة» في الشرق، ليس في كليات دمشق التي «تسجل فيها كلها ولم ينل شهاداتها» على غرار «بطله» الشامي الذي طالما حدثنا عنه. ولكنه عاد الى المغرب بعد هزيمة 1967 بهوامش على دفتر النكسة وبقدرة خاصة على فك رموز السياسة وتمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الرمادي فيها؛ وهي شهادة لا تمنحها أية كلية.. محمد المريني تمرس بكتابة البيانات والملتمسات والتوصيات في مؤتمرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب خاصة الؤتمر الثالث عشر الماراتوني الذي ترأسه رفقة عبد الصمد بلكبير وحسن بنعدي وسليم رضوان
"23 مارس".. معركة الذاكرة: تفاصيل مقتطفة من تاريخ لم يكتب بعد (الجزء الأول)
إذا لم تخني الذاكرة ... فاتخذت مساهماته في الجريدة شكل مواقف تضمنتها الافتتاحيات القصيرة فضلا عن بلائه المتميز في قضية الصحراء ومحاولته إفهام من لا يفهم من «الأصدقاء الشرقيين».. . مصطفى مسداد (الذي لم يكن عضوا رسميا في هيئة التحرير ولكنه لا يكاد «يمنّك» عددا واحدا أثناء الانجاز) قارئ نهم للكتب. كنت لا تراه وهو يجوب شوارع الدار البيضاء في الستينات الا وفي يده كتاب ما. لكنه - باستثناء الأرضيات التنظيمية وما في حكمها - ليس بكاتب؛ يقترح المواضيع، يناقش، يصحح، يلاحظ، يشارك وجدانيا في الانجاز.. ولكنه لا يكتب. من جهتي، لا زلت أتذكر الى اليوم نصيحة وإلحاح أستاذنا محمد برادة في قاعة درس الأدب العربي بالرباط سنة 1965بأن نكتب قائلا: «إذا لم تتمرنوا على الكتابة منذ الآن فمتى ستكتبون..؟ اكتبوا مذكراتكم مثلا».. لكنها كانت، واأسفاه، صيحة في واد.. أما ما كان من التزام الرفاق الذين أسندت اليهم مهمة إصدار الجريدة بأن يكتبوا المقالات: محمد بنسعيد عن الوضع العربي ورشيد سكيرج عن الوضع الأممي مثلا، فقد كان من باب رفع التحدي: «وتصغر في عين العظيم العظائم».
لنرجع إلى نقطة الانطلاق
كتابة الافتتاحية (كلمة العدد) كانت دائما لحظة دقيقة وأحيانا حساسة في إنجاز الجريدة. لحظة محفوفة بالمحاذير. كثيرا ما كانت توكل إليّ كتابة الافتتاحية خاصة حينما يتعلق الأمر بذكرى 23 مارس، مثلا، أو بالقضايا العربية والأممية: «كما انتصرت فييتنام ستنتصر فلسطين»، «الذين اغتالوا كمال جنبلاط لن يستطيعوا اغتيال حركة التحرر العربية»، «لأن اتفاقية واشنطن هي حلف جديد بقيادة أمريكا: يجب سحق رأس الأفعى».. لكن الأمر مع افتتاحية العدد الخامس عشر (15 - 30 نونبر 1975) كان مختلفا. كان الأمر يتعلق باتخاذ موقف بعد خطاب 9 نونبر 75 وقرار توقيف المسيرة الخضراء. هذا خط أحمر؛ المريني أو الطالبي وحدهما مؤهلان للاقتراب منه. المشكل أن الرفيقين كانا يخوضان مع الخائضين تلك الليلة في دار المغرب. كتبت الافتتاحية. حازت رضا من حضر. عاد الرفيقان صباح اليوم التالي «وحالتهما حالة» جراء السهر والنقاش في دار المغرب. ألقيا نظرة على «ماكيت» الجريدة وهي جاهزة للطبع وبشكل خاص على الافتتاحية. ولا تسأل عن حالة الطالبي وهو يتبادل النظرات الاستفهامية مع المريني وقد اتخذت ملامح وجهه حالة عبس التي يكون عليها في الأوقات العصيبة وهمهم ببضع كلمات مع الرفاق ثم ذهب لينام. كان يريد موقفا مرنا من قرار توقيف المسيرة.. لكن أنى لي أنا بدقائق التكتيك الذي لا يعرف سره إلا هو. طلعت افتتاحية «لنرجع إلى نقطة الانطلاق» كما هي. ومن يومها صرت أتجنب الاقتراب من تلك الخطوط الحمراء..!
افتتاحية أخرى: «إسلام وإسلام»، أثارت مؤاخذات وانتقادات من بعض الرفاق. وقد كتبت في أوج الانسياق العام يومها مع ثورة الخميني. خاصة في جو العلاقة مع بعض المناضلين الايرانيين من تنظيم فدائيي خلق وبعض أصدقاء أبو الحسن بني صدر ومع أصدقاء لبنانيين قريبين من منير شفيق الذي كان بصدد التحول من نظرية «العوالم الثلاثة» الى الاسلام والذين انخرطوا في الصيرورة التي ستقود فيما بعد إلى ظهور «حزب الله».
عدا هذا، كنا نتوصل بكثير من الرسائل تتضمن ملاحظات ومقترحات القراء، منها ملاحظات حول لغة الجريدة يشتكي فيها أصحابها من تعقيد أسلوب المقالات خاصة بالنسبة للعمال في فرنسا. وقد ورد في إحداها: «.. إن لغة الجريدة صعبة في تركيباتها الشيء الذي قد يؤدي الى فهم ناقص أو مغلوط وهاكم مثلا على ذلك: «البوليزاريو الابن اللاشرعي...». إن هذه الكلمة الأخيرة «اللاشرعي»، من مجموع 20 فهمها فقط 9 عمال. فلم لا تعوضوها ب«حرامي» مثلا..!
من هيئة تحرير إلى أخرى
بالاضافة الى 23 مارس بالعربية، ستصدر المنظمة عدة أعداد باللغة الفرنسية موجهة للجمهور الفرنسي اشتملت على ترجمة لأهم الأدبيات وعلى مقالات عن القمع والمحاكمات والنضالات والأوضاع في المغرب بصفة عامة. طاقم النسخة الفرنسية لم يكن قارا ولكنه كان يعتمد عموما على طاقم رافق التجربة الى نهايتها يتكون من: رشيد سكيرج دائما في الاخراج والتوثيق والكتابة أحيانا، عيسى الورديغي، عبد اللطيف بوعسرية، ادريس اليعقوبي، المرحوم ادريس المنصوري وبوشعيب حداج الذي كان يقوم بنفس دور بنسعيد في النسخة العربية: رقن المقالات على الآلة الكاتبة إضافة الى الترجمة والتحرير. فبوشعيب يمكن أن يلقب ب«الدكاترة» بسبب مساعدته في تصحيح وتحرير وتشذيب أطروحات عدد كبير من المشارقة الذين لولاه لما أصبحوا دكاترة من السوربون وفانسان..
يجب التذ كير كذلك بالمساهمة التنظيرية المتميزة، في النسخة الفرنسية، لصديق المنظمة الفرنسي من أصل تونسي پول شملا. وعلى مستوى اللوجيستيك والتزويد بما تحتاجه الجريدة من مواد ودعم مادي يجب التنويه على الخصوص بدور رفيقين ساهما بنصيب وافر في هذا المضمار هما عز الدين التاجموعتي الذي عرف بنشاطه الجماهيري في القطاع الطلابي ومثل المنظمة في المكتب الفدرالي مع محمد الصالحي وآخرين، وفاروق الشاوني الذي كان وضعه الاعتباري مختلفا وكان يساهم شهريا باشتراك تشجيعي استمر في تقديمه حتى وهو يتنقل بين أسرته بباريس وعمله بالهند. أما مدير الجريدة Albert-Paul Lentin فكان تطوعه لوجه التضامن النضالي ووفاء لعلاقات الصداقة التي جمعته قبل ذلك مع أقطاب الحركة الوطنية المغربية في معمعان نضال القارات الثلاث.
بمثل هذا الدعم وما شابهه وبالاشتراكات التشجيعية وغير التشجيعية وبالمبيعات النضالية وعن طريق شركة التوزيع NMPP، وما أشير إليه آنفا من تكفل رفاق عمال بكراء مقر الجريدة، كانت تمول مصاريف الجريدة من طباعة و«أجور» وغيرها. كانت كلفة طبع العدد من 23 مارس في حدود 2000 فرنك فرنسي (الفرنك يساوي درهما واحدا) وكانت تسحب ما بين 2500 و3000 نسخة.
23 مارس بصيغة المؤنث
كان يقال قديما «وراء كل رجل عظيم امرأة». وفي المرحلة التي نحن بصددها يمكن أن نقول إنه كان تقريبا إلى جانب كل مناضل يساري، مناضلة يسارية. وهذا يصدق على عامة اليسار قديمه والجديد (الاتحاد، التقدم والاشتراكية، إلى الأمام، 23 مارس). بالنسبة لمنظمة 23 مارس، كان للمرأة حضور متميز سواء على مستوى التناول لقضية المرأة في الجريدة أو على مستوى الحضور النسائي في الساحة النضالية بجانبيه العددي والمفاهيمي من حيث العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما انعكس ابتداء من الثمانينات في المغرب بذلك الزخم الذي تفجر مع 8 مارس وغيرها. ومن الوجوه النسائية ل 23 مارس بالخارج خلال السبعينات بباريس، أتذكر على الخصوص: فاطمة (الكلخا)، مارية السدراتي، عفيفة كديرة (كريمة والي الرباط سلا الأسبق)، السعدية السعدي، الأخوات الحفيظي (ربيعة ومليكة والعزيزة)، سامية عباد الأندلسي، خديجة مرزوق، آسية سباطة، عائشة الجندي، عائشة (زوجة ابراهيم ياسين «بائعة أنوال بباريس»)، نورا (الشهبوني)، سعاد برادة، نعيمة الهبيل (كريمة مبارك البكاي)، رجاء المجاطي، ربيعة السمهاري، إيمان بنعزوز... وما لم أتذكره وما لم أعرفه من المناضلات في سائر الخارج أكبر عددا من ذلك بكثير..
الطريق إلى الاحتراف التقني
ذات يوم في أواخر 1977، جاءتني مليكة الحفيظي، والابتسامة تسبقها كالمعتاد، لتخبرني عن عرض عمل منشور في Libération: مطبعة تبحث عن مرشح يجيد الرقن على الآلة الكاتبة باللغة العربية. من باب المحاولة اليائسة وتبرئة الذمة، ذهبت الى العنوان الذي سجلته لي في ورقة. بناية شبه مهجورة من طابقين لا شئ يدل على أنها مطبعة لولا بعض آلات الخردة مبعثرة هنا وهناك. بباب مكتب الادارة حيتني شابة فرنسية بحرارة وكأنها كانت تنتظر مجيئي رغم أنها لم تكن سوى مرشحة مثلي لنفس العمل باللغة الفرنسية. خضعت بدوري لاختبار معرفتي بالرقن بدا وكأنه إجراء شكلي. المطبعة لن تبدأ قبل أسابيع أو شهور. لا شئ مضمون مئة بالمئة ولكن ليس هناك رفض. ثم تأتي مرحلة التكوين التقني لأجد نفسي وأنا المعرب وذو التكوين الأدبي المحض في خضم مغامرة لست أدري كيف كنت سأتخلص من مطباتها التقنية واللغوية والاجتماعية لولا مؤازرة «الشابة الفرنسية» إياها. مغامرتي هاته ذكرتني بشارلي شبلن في فيلم Les Temps modernes.
لكن قبل ذلك سأكلف بالقيام ببعض الأعمال اليدوية تحت مسؤولية «المدير التقني» وذلك بدءا بمد خطوط الهاتف في كل البناية الشاسعة بينما تكلفت «الشابة الفرنسية» بتجريب آلات الخردة. «المدير التقني» الفرنسي مناضل ماوي قيل إنه أسس حزبا le Travailleur بقي العضو الوحيد فيه. ذكرني ذلك بحزب «الوحدة» لمؤسسه الفريد الأستاذ المكي الناصري مع وجود الفارق طبعا. الشابة الفرنسية تنتمي إلى منظمة ماوية أكثر جدية Drapeau rouge مناضلوها جميعهم من مقاطعة La Bretagne كانوا يركزون على العمال المهاجرين وقد سبق واستقطبوا الرفيق حمو بوزيان عندما كان يعمل في قطاع البناء هناك قبل أن نسترده منهم. كانوا يتوفرون على مطبعة في Rennes طبعنا عندهم بعض أدبياتنا بثمن رمزي. كما قدموا لنا بعض المساعدات «اللوجستيكية».
فينيقيو القرن العشرين: دور النشر بدل «الكونتوارات»
أصحاب المطبعة لبنانيون قريبون من منظمة العمل الشيوعي في لبنان. أحد مسؤوليها كنا قد اجتمعنا به قبل بضع سنوات في إطار العلاقات الخارجية. أتذكر أنه قال لنا يومها لما سألناه عن وضع المنظمة: «هيه، المنظمة صارت الآن حزبا..!». ستصير تلك المطبعة، واسمها «النحلة» Abeille، «بؤرة ثورية» تعج باليساريين من كل لون وفن؛ من فرنسيين وعرب، وأمميين، ماويين، تروتسكيين، شيوعيين، قوميين... ونقطة التقاء أخرى بباريس لعدد من الناشطين التقدميين العرب؛ صحافيين وأدباء وسياسيين ولاجئين من مشرق الوطن العربي ومغربه. اتخذ بها الصحافي اللبناني الراحل جوزيف سماحة مكتبا له يكتب فيه مقالاته الى جريدة السفير، وهنا سيقدم لي المرحوم محمد باهي صديقه الحميم الروائي الكبير عبد الرحمن منيف قائلا: أنا وإياه نمثل هنا العرب البدو؛ هو يمثل بدو المشرق وأنا بدو المغرب.. وكان منيف يحل لأول مرة بباريس لاستنشاق نسيم الحرية فرارا من رائحة البترول وجاهلية «شرق المتوسط». عرفنا الباهي أيضا على المعارضة والصحافية السورية حميدة نعنع وغيرها من الصحافيين الذي كانت تعج بهم الساحة الفرنسية في ذلك الوقت. هنا بدأ هشام جعيط إصدار مجلته الفكرية «الباحث»، هنا أيضا سيحط «اليسار العربي» الرحال؛ مجلة التقدميين المصريين الرائدة تشرف عليها قمم من مستوى ميشيل كامل، أديب ديميتري، أمير اسكندر (قبل أن يسقط من عليائه و«يتفرغ» بالكامل لتلميع صورة صدام حسين)، وفنان الكاريكاتور الشهير جورج بهجوري.
كنا نقوم بالانجاز التقني لليسار العربي. وبقدر ما كنا لا نجد صعوبة مع خط ميشيل كامل الشرقي الجميل، كان خط أديب ديميتري لا يكاد يقرأ. فطن إلى معاناتنا مع خطه، وكان على كبر سنه شديد المرح، عكس ميشيل كامل، فكان يقول لنا تهوينا من موضوع رداءة الخط هذه: «لي بنت خطها أنيل من خط أبوها».. و«أنيل» صيغة أفعل التفضيل من nul. لم يكن ميشيل كامل معروفا كثيرا لدينا في المغرب لكن أديب ديميتري كان مألوفا لدينا من خلال مجلتي الكاتب والطليعة وخاصة مقالاته الرائدة عن مسألة التعليم في الوطن العربي التي كانت مصدرا غنيا بالنسبة الينا خلال النضال من أجل التصحيح النقابي نهاية الستينات وأوائل السبعينات، كما يتذكر مصطفى مسداد ولا شك.
كانت الفترة الذهبية بامتياز للصحافة العربية المهاجرة بشقيها اليساري المناضل واليميني المتياسر المتمثل في صحافة البترودولار التي كان العراق سباقا الى إطلاقها من أوربا متمثلة في «الوطن العربي» ونسختها الباهتة «كل العرب» والتي كانت الحدود فيها تضيق بين الصحافة والارتزاق والعمل المخابراتي قبل أن يطلق الشق الآخر من البترودولار صحافته اليمينية الرصينة المعتدلة والاحترافية متمثلة في «الشرق الأوسط» وما اليها. ولم يفت الفلسطينيين أن يدلو بدلوهم في الميدان فكانت «اليوم السابع» المتميزة التي أوكل ياسر عرفات مهمة الاشراف عليها الى بلال الحسن وكان الباهي أحد محرريها الأساسيين وتكلف رشيد سكيرج فيها بالتسيير الاداري. ومن تقاعده المتواضع بعمله في اليوم السابع وفي وكالة الأنباء العراقية يعيش حاليا الشقيق الأكبر للبشير سكيرج حياة الكفاف والمعاناة من العزلة وتدهور الأحوال الصحية.
ثم جاء دور 23 مارس التي حولنا وجهتها من مطبعة فرنسية بمدينة Rouen إلى مطبعة Abeille بعد أن توطدت قدمي بها وحصلت من اللبنانيين على صيغة نصفها تجاري ونصفها نضالي لطباعة الجريدة عندهم بسعر لا يضاهى. تتكلف المطبعة بالتوضيب والسحب وأقوم أنا بالتصفيف خارج أوقات العمل ويقوم رفاق المنظمة بالتطوع لعمليات ما بعد السحب؛ فكنت ترى الرفاق؛ دكاترة الغد وأطر المغرب الذين اغتنت بهم الجامعة المغربية ومرافق الدولة الأخرى، يأتون خفافا من كل حي جامعي قريب أو بعيد الى المطبعة مساء بعد خروج العمال للقيام بعمليات التجميع Encartage والطي.. لتتشكل بعد ذلك من «شَعْب 23 مارس» فرق البيع النضالي في الأسواق ومداخل الأحياء الجامعية والنقاش والجدال والاقناع والاستقطاب لمنظمة 23 وإديولوجينها الثورية والتي لم يكن رئيس دبلوماسيتنا صلاح الدين مزوار أول ولا آخر من يقع تحت سحرها وحق له أن يفتخر بذلك كما فعل ذات حوار تلفزيوني. ثم كانت الجريدة تعرف طريقها إلى المغرب عبر وسائل مختلفة بعضها معروف وبعضها غير معروف، وهو الذي كانت تصل فيه 23 مارس إلى المغرب في حقائب عبر مطار الدار البيضاء أو مراكش... في نطاق أسفار «سياحية» مرتبة ل«حمالة حقائب» على غرار شبكة Francis Jeanson المشهورة خلال حرب الجزائر، وإن بشكل مصغر جدا جدا ومقتصر فقط على الجرائد والوثائق.. وتدبير ذلك تحتفظ به، من غير شك، ذاكرة وأرشيفات مؤرخنا، المستشار العام لمجلة زمان.
«حاجة حلوة كدة»
لم أكن قد «تراميت» بعد على عملية التوضيب والاخراج رغم ملازمتي لرشيد سكيرج ومساعدته في بعض العمليات الصغيرة مثل إلصاق التصحيحات وما شابه. وبنقل الجريدة الى المطبعة استراح رشيد هو الآخر بعد بنسعيد وقد أصبح وقتها يشتغل مع الباهي في وكالة الأنباء العراقية. في المطبعة أوكلت عملية التوضيب الى مخرجين محترفين فرنسيين أو لبنانيين وتصادف أن كان بينهم مغربي تخرج من مدرسة عليا للغرافيزم بباريس وأسس فيما بعد شركة للاشهار والتواصل كانت مشهورة في وقت من الأوقات بالرباط، وأحيانا إلى مبتدئين حسب الظروف. وفي إحدى المرات تكلف بالمهمة شاب مصري جاء لاجئا وفي نفس الوقت يتدرب على الاخراج لسد الرمق. كنا - العربي مفضال وأنا - نشرف على العملية ونحدد للفنان الشاب مواد كل صفحة.
تركناه مع الجريدة وخرجنا لنتغدى فلما رجعنا وجدناه قد انتهى من عملية التوضيب ثم أرانا مزهوا تفننه في إخراج الصفحة الأولى؛ حيث عمد - نظرا لقصر الافتتاحية - إلى فصل فقراتها بتشكيلة من الزهور جادت بها قريحته، فرأيت العربي وقد قطب حاجبيه مستنكرا وقلت لفناننا: ماهذا؟ قال: «يعني حاجة حلوة كده». رجوته أن يعيد تركيب الصفحة بعد أن «يشيل الحاجات الحلوة» لأن هذه جريدة جدية وصفحتها الأولى بالخصوص جدية جدا جدا.. مرة أخرى مع مخرج فرنسي محترف كان يشتغل رسميا بجريدة Libération ويعطي «يد الله» في المطبعة. تم توضيب كل الجريدة باستثناء الصفحة الأخيرة المخصصة لمقالي الذي كان - كالمعتاد - آخر ما ينجز. جاء المقال (حول الذكرى الثامنة لتأسيس المنظمة) طويلا جدا لا تسعة الصفحة الوحيدة المتبقية. ورطة حقيقية خلصني منها المخرج المحترف بتصغير المقال في المختبر بعد توضيبه على حدة ثم وضعه بشكل مائل في الصفحة فجاء وكأنه إخراج فني مقصود..
«الفنان» محمد الصالحي
كان محمد الصالحي (رئيس الشعبة الاسبانية ثم الصينية حاليا بكلية الآداب بالرباط) عضوا نشيطا في القطاع الطلابي إلى جانب رفاق آخرين (ملوك عبد الرحيم، امحمد أوراغ، مبارك حنون، عبد المنعم قلال، عبد الوهاب الصافي، عفيفة كديرة، سامية عباد الأندلسي، آسية سباطة، مليكة حفيظي، السعدية السعدي، عبد اللطيف «المسمار»، عائشة الجندي، المهدي العمراني.. وعشرات غيرهم)، وانتخب عضوا في المكتب الفدرالي للاتحاد الوطني لطلبة المغرب ولهذا كان الرفاق يسمونه محمد الBF تمييزا له عن محمد Clermont (الاسماعيلي)، لكني لم أكن أعرف أنه كان فنانا أيضا. وسأكتشف «المواهب الفنية» للصالحي عندما أراد الرفاق إنجاز ملصق عن الحريات الديمقراطية في المغرب وكنت قد طلبت من الفنان العراقي «خالد» المتخصص في تصميم الأغلفة والملصقات في المطبعة مساعدتي في ذلك، فإذا بالصالحي ينبري للمهمة ويأتي بمقترح جاهز في الموضوع يجسد كل ذلك في: الخريطة والقضبان والحمامة والشعلة.. فجاء الملصق ناجحا وجرى تعميمه في كل المحافل وقتها..
مطبعة اللبنانيين كان من المفروض أن تستمر وأن تتطور خاصة بعد أن انضم إليها شركاء مغاربة ضخوا فيها أموالا جديدة. لكن العكس هو الذي حصل إذ أعلنت إفلاسها بعد ذلك بقليل لتقوم على أنقاضها دور نشر Sycomore و Papyrus.. وقد سُمع أحد اللبنانيين يقول يوما ما ترجمته الحرفية: «المغاربة.. ريّشناهم».. وكما يقول المثل: «فلوس اللبن ياكلهم زعطوط».
نهاية المطاف
أصبحت في «الشوماج» بعد إفلاس المطبعة وراكمت «السطاجات» في مجال التصوير الضوئي والاخراج بلا اقتناع فعاودني الحنين لاستئناف الدراسة للاقتراب أكثر من «وهج المعاني» بتشجيع مشكور من بعض الرفاق الجامعيين. بل منهم من ساعدني في اختيار الموضوع وأهداني كتاب «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» لاميل حبيبي لاقتراحه على الأساذ. وذات يوم أخذ سعيد بنگراد بتلابيبي مدعوما بعبد الرفيق وأخذني إلي السوربون وقذف بي الى مكتب رئيس الشعبة بعد أن تجشم أخذ موعد لي معه. وجدتني في حضرة محمد أركون الذي نظر الى وهو يتفحص عمر شهادة الليسانس قائلا: وماذا فعلت منذ 1967؟ وبعد أن تفهم تبريراتي اقترح علي أن أتسجل كمستمع لمدة سنة أو سنتين على الأقل حتى أسترجع كل ما فات وبعدها لكل حادث حديث.. وكانت قد دقت ساعة الرجوع الى الوطن بعد عفو غشت 1980.
"23 مارس".. معركة الذاكرة: تفاصيل مقتطفة من تاريخ لم يكتب بعد (الجزء الثاني)
ترجم ذلك بدخول احتفالي رمزي يوم 8 مارس 1981، للعائدين: محمد بنسعيد، رشيد سكيرج، مصطفى مسداد، محمد حبيب طالب، محمد المريني والعربي مفضال.. وبعودة باقي المنفيين تباعا. وعدت أنا مع محمد السمهاري ومختار قدوري والمرحوم محمد صلاح الدين في صيف 1981 كنت وحدي من بينهم قد أبقيت على خط الرجعة بحيث اشتريت تذكرتي ذهاب وإياب. بالنسبة للسمهاري كان المنفى صفحة طويت غير مأسوف عليها.. أودعني بعض «تحفه» ومن جملتها جواز سفره المزور ومضى لا يلوي على شيء. ولم يكن مختار قدوري، عضو اللجنة الوطنية قبل قمع 1974 وإطار المنظمة الأبرز في قضايا الهجرة عامة وجاليتنا بمنطقة Saint-Denis على الخصوص، ينوى البقاء بديار الغربة وإلا ما عجل بإحراق مراكبه الفرنسية بأن أعاد وثائق اللجوء إلى مصالح ال 0FPRA وفرق أمتعة بيته على الأصدقاء والصديقات؛ كان أثمنها من نصيبي: خزانته الموسيقية؛ مجموعة من الأسطوانات vinyle ما تزال عندي إلى اليوم شاهدة على بذاخة قيم الزمن «الذي كان».
لكن طموح قدوري في توظيف مؤهلاته في بلده سيرتطم بجدار العقلية البيروقراطية وأخواتها، ليعود إلى مرابعه الباريسية حيث ستنفتح أمامه أبواب العلم والعمل؛ وهو اليوم خبير في ميدان التكوين والهجرة والعمل النقابي وحائز على شهادات جامعية عليا.. بالنسبة لي، كانت الفكرة «المنطقية والمعقولة» تقول بأن دخولي النهائي إلى المغرب يحتاج إلى بعض الترتيب سيما في الجانب المادي؛ إذ لا يعقل، بعد هذا الغياب الطويل، أن أعود «خاوي الوفاض بادي الإنفاض».. وكانت قد لاحت بوادر تحسن على مستوى الشغل؛ أتاحه مسلسل من الدورات التكوينية ودبلوم من مؤسسة محترمة: INIAG - Institut National des Industries des Arts Graphiques ..
وهنا سيدخل على الخط اثنان ممن كان عليهم مدار الأمور عندنا في السياسة والصحافة والعلاقات إبان الثمانينات من القرن الماضي هما عبد اللطيف عواد وطالع السعود الأطلسي؛ خف عواد إلى باريس حيث قضى الليل ببيتي في rue des prairies ميترو Gambetta، ولم يغادر صباحا إلا وفي «جيبه» وعد مني بوضع حد لكل مشاريعي الباريسية والالتحاق بأنوال بصيغة قريبة في إلحاحها من المعنى المتضمن في ذلك الأمر التاريخي المشهور: «يدك في الكتاب ورجلك في الركاب»؛ وموهبة عواد «الاقناعية» لا تضاهي كما هو معروف.. فمعه يصبح المغرب غير المغرب وقد تختفي حتى نتوءاته وتضاريسه من الخريطة.. ويشتهي المرء أن يطير إليه على بساط الريح. أما الأطلسي، حتى ولو لم تكن قد قابلتَه من قبل، فإنه يجعلك، وأنت في قَرّ باريس، وبعدما تكون قد تدثرت ب«مداده الدافئ»، كأنك تشرب معه القهوة كل صباح في «صاكار» قبل الصعود معه إلى أنوال لاستكمال الدردشة حول شجون المرحلة وجدول أعمال الجريدة .. وكل ذلك عبر الهاتف طبعا.. فقد كنا حتى ذلك الوقت نعرف بعضنا بالسماع فقط.. وقديما قال بشار الشاعر: «... والأذن تعشق قبل العين أحيانا».
جاء إذن نداء أنوال وما أدراك ما أنوال.. وتلك حكاية أخرى كما قال الحبيب طالب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.