24 يناير, 2016 - 02:22:00 قادتني أسباب عدة الى ولاية القصرين بتونس يوم 16 ديسمبر الماضي قادما من سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية والانتفاضات والثورات العربية في القرن الحادي والعشرين . فعلاوة على شهرة الارهاب والارهابيين الذي يقال بانهم متحصنين في أعالى جبل "الشعانبي" بالولاية، ثمة الكثير الذي يستدعي النظر في ولاية هي الأكثر فقرا والأدني على سلم مؤشرات التنمية في تونس. كما أنها الأعلى عطاءا في أعداد شهداء ثورة الياسمين (17 ديسمبر 2010 14 يناير 2011). وفوق كل هذا وذاك فقد كانت رائحة الحريق القادم لاتخطئها الأنف ولا العقل من تونس العاصمة حتى قرية "بولعابة" في القصرين انطلاقا من رحلتي القاهرة مرورا بسيدي بوزيد ف"سبيلطة". فالناس هنا وهناك انخفض منسوب اهتمامها بالسياسة والسياسيين وبالأحزاب والحزبيين وزال عندها بريق نجوم "التوك شو" تليفزيونات رجال الأعمال تحت وطأة البطالة واستمرار التفاوت الطبقي والاجتماعي واستفحال التهميش. ولا أعرف اي مصادفة قدر جعلتني أتابع خط عدم الاكتراث الشعبي على خط (مصر تونس مصر) بين شهري ديسمبر 2015 ويناير 2016 مع حلول الذكرى الخامسة لاندلاع أمل الثورات العربية هذا . فقد غادرت الى تونس بينما عاينت كيف عزف المصريون عن انتخابات البرلمان في ظل قسوة وبؤس فاشية عسكرية ممزوجة بفساد رأسمالية المحاسيب. فاشية وصفتها مرارا بالرثة . وهي بالأصل امتداد لنظام الدكتاتور مبارك لكن على هيئة طائر مسخ كسيح . وكما قال "ماركس" فان التاريخ عندما يكرر نفسه يتحول الى ملهاة . بل مسخرة . عدت من تونس الى مصر لأعاين ايضا حالة عدم اكتراث ممزوجة ب "القرف " عند افتتاح البرلمان الذي لم يمنح أحدا فرصة لأخذه بجدية. فرئيسه ما إن جلس على كرسيه حتى كال المديح للدكتاتور ووصفه ب"الرئيس القائد " وسط تصفيق وتهليل السادة النواب المحترمين. ثم كان عليه ان ينجز ونواب "الرئيس القائد" مهمة "البصم كختامة "خلال أقل من أسبوعين على أكثر من 300 قانون صدرت في غيبة البرلمان. ولقد قالها البرلمانيون هؤلاء دون خجل: "لا وقت للمناقشة ". والعديد من هذه القوانين فضيحة في حق الحريات ونزاهة الحكم. ومنها ما يفتح الباب جهارا نهارا للفساد ويحميه. ومنها أيضا ما يبقي شباب الثورة في سجون فاشية رثة متخلفة تقبض على أعناق المصريين بكف غليظ خشن يحمل ستة أصابع، لا خمسة. الأسئلة التي طرحتها انتفاضة تونسالجديدة انطلاقا من القصرين مع الذكرى الخامسة لاندلاع انتفاضات وثورات العرب في القرن الحادي والعشرين بعضها يخص مصر. والبعض الآخر كأن مصر معه خارج الزمن.. وقد تراجعت الى عصور ما قبل التاريخ .. أو ما قبل ثورات 2010/ 2011. فالناس المحبطة من الغدر بأهداف الثوارت ( حرية وعدالة اجتماعية وكرامة) والالتفاف عليها هنا وهناك ترجمت هذا الاحباط وقتيا الى حالة من عدم الاكتراث بالفرجة السياسية الحزبية والبرلمانية. حقا في تونس ومصر برلمانان يهيمن عليهما اليمين المعادي لأهداف الثورات أو لنصف اهدافها على الأقل. وفي البرلمانين أعضاء ينتسبون بلا مواربه لنظم قامت عليها الثورات. لكن شتان ما بين "لا" برلمان وبرلمان. وبين "لا" انتخابات وانتخابات جلبت المجلسين التشريعيين هنا وهناك . في تونس يمكن للناس ألا يترجوا من البرلمان، مع تركيبة الحياة الحزبية والسياسية هذه، الكثير في تحقيق أهداف الثورة . لكن يقينا في مصر فإن الأمر يتجاوز هذه الحالة الى اليأس. وكذا السخرية من برلمان ليس ببرلمان. بل أشبه بادارة ملحقة بمكاتب "الرئيس القائد". وقد جلبت مخابراته غالبية اعضائه في انتخابات ليست انتخابات. وتكفل هو شخصيا بتعيين عدد اضافي ليزيد من "عزوته ". ومعها أعداد الأكف ذات الاصابع الست المخلوقة للتصفيق . والكلام عن برلمان جلبت غالبية أعضائه المخابرات يتخطى المجاز والوصف الى الحقائق والاعترافات السافرة. اختيار الشاب القصريني "رضا اليحياوي" أن ينتحر صعقا بالكهرباء احتجاجا على البطالة وفساد آليات التشغيل أو التوظيف أمام مقر الولاية في 16 يناير الجاري، نكأ جرح الأهداف الاجتماعية المؤجلة والمغدورة للانتفاضات والثورات العربية بعد خمس سنوات من اندلاعها. وامتداد رقعة الاحتجاجات على مدى نحو أسبوع كامل الى عواصم ومدن 16 من اجمالي 24 ولاية بتونس كشاف ضوء باهر على الجرح المفتوح النازف ، خلف صخب الساسة و" كلمانجية "التليفزيونات وانشقاقات الأحزاب وتوالد زعاماتها و"توافق الشيوخ إسلاميين وغير اسلاميين ". والجروح نفسها تنزف في الجسد المصري مع فقر أو موت السياسة وضعف جاذبية المشهد الفرجوي . انطلاقا من القصرين سارت انتفاضة يناير 2016 التونسية كسيل مترنح بين الصخور. وثمة تقديرات متضاربة حول معالجة البوليس للإحتجاجات. وهل تحلي بضبط النفس فلم يقع شهداء وان كان هناك مئات الجرحي والمصابين بين الشباب الثائر أم انه افرط في استخدام القوة والغاز المسيل للدموع وقمع الاحتجاجات؟ وثمة تقييمات متضاربة أيضا حول درجة العنف من جانب المحتجين. وهل هو ثوري أم تخريبي؟ وهل ركب الاحتجاجات لصوص وناهبو منشآت عامة وخاصة . بل وارهابيون كذلك؟ لكن في القاهرة وتحديدا حول ميدان التحرير(الأيقونة) تلتف أسلاك شائكة ومدرعات واسلحة جيش وبوليس مشهرة. وايضا انفجارات هنا وهناك تخيف الناس من النزول الى الشارع وكأنها من تدبير من لا يريد ان يرى متظاهرين الى يوم الدين. وكذلك قانون ظالم يصادر حق التظاهر ويحبس شباب الثورة في سجون الدكتاتور الجنرال الملطخة سمعته في الداخل والخارج بانتهاك الحريات وبالقمع والاعتقال والتعذيب والقتل خارج القانون والاختفاء القصري وبدماء المصريين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. ولا يتصور مراقب نزيه ان تسمح السلطات في مصر مع ذكرى 25 يناير او حولها بما جرى في تونس قبل أيام. حقا هنا لا مساحة لتظاهر او تعبير عن الرأي أو احتجاج سلمي مشروع يضاهي ما تعرفه تونس الآن وحتى في ظل فرض حظرالتجول والطوارئ. وهو حظر تجول يعيشه المصريون تحت الجلد وبين الأنفاس 24 ساعة في الساعة. وليس كما هو عليه استثناء في عموم تونس اعتبارا من 22 يناير الجاري (من الثامنة ليلا الى الخامسة فجرا). لكن متى كانت الانتفاضات والثورات تنتظر تصريحا رسميا هنا أو هناك؟ في تونس انطلاقا من القصرين ثمة سؤال لاتعرفه مصر حتى الآن. بل ومن الصعب تصوره هذه الايام. سؤال له عمقه في تاريخ العرب. فقد عرفنا مع نهاية العقد الرابع وبدايات العقد الخامس من القرن العشرين ومع ما يسمي بدولة الاستقلال الوطني التساؤل عن عدالة اجتماعية ذات أولوية مفتوحة مستقبلا على تحقيق الديموقراطية. حقا كانت عند العرب العديد من التصورات عن اقتران هدفي العدالة الاجتماعية والديموقراطية في مجتمعاتنا الموسومة بالتخلف والاستبداد والتفاوت الطبقي الحاد المجحف. ولكن ساد الاعتقاد بأولوية التنمية والعدالة الاجتماعية واتخاذهما قاعدة تهئ البيئة لاحقا لتحقيق الديموقراطية. والآن يأتي السؤال معكوسا من تونس إنطلاقا من القصرين: هل حقا يؤدي التطور الديموقراطي والتقدم على طريق الحريات وحقوق الانسان السياسية والمدنية بالضرورة الى التنمية والعدالة الاجتماعية ؟ لكن هذا السؤال المعكوس بعد نصف قرن في منطقتنا هذه يبدو في هذه الأيام مستحيلا في بلد كمصر. وللأسف بلد بهذا الحجم والأهمية في منطقتها قد ارتد الآن حتى عن أوليات الحريات والحقوق. ناهيك بالتطور الديموقراطي . وهكذا اصبحنا مقارنة بتونس خارج التاريخ. سألني اصدقاء تونسيون عندما كنت بينهم هناك: هل سيحدث شئ في 25 يناير القادم؟ هل يثور المصريون مجددا على واقع بلا عدالة اجتماعية ولا حرية ولاكرامة؟ حقا لم أجد اجابة سهلة وحاضرة في المتناول. لكن ما جري انطلاقا من القصرين بعد يومين من ذكرى فرار الدكتاتور بن على (14 يناير 2011) يعزز عندي الإجابة: قد يكون 24 أو 25 أو 26 أو 27 يناير أو يكون في يوم أو شهر أو عام آخر. لكنه حتما قادم . لأن اسباب الثورات والانتفاضات قائمة وتستدعي تكرارها واستكمالها . حقا يخشي الدكتاتوريون مجرد الذكرى. وربما يضخون من التوقعات والمخاوف كي تلحق بالناس أسوأ درجات اليأس بعد ان تمر الذكرى. لكنهم لا يدركون ولا يتعلمون من اسلافهم بأن الشعوب قادرة على صناعة ألف موعد جديد مع التاريخ . ولا أجد ما أقوله مع الساعات التي تفصلنا هنا في القاهرة عن الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير إلا ان أكرر ما قالته سيدة من سيدي بوزيد عفو الخاطر: "ما ثار من أجله الناس لم يتحقق والشباب لم يقل كلمته كاملة بعد". عبارة لم تمر الى القارئ عندما نشرت في 17 ديسمبر الماضي تحقيقا في الصحيفة القومية التي تصدر بأموال الشعب ويتحمل خسائرها الشعب. لكني أعود واكررها هنا ، وفي هذا التوقيت قبل ساعات من 25 يناير، وبعده بأيام وشهور وسنوات: "نعم .. الشباب لم يقل كلمته بعد". ولأنه ببساطة لا يمكن لأي كان حتى أعتي الدكتاتوريين وأذكاهم لا أغباهم و"أهيفهم" أن يمنع مفعول الظلم المقيم ولا التغيير الذي عرفه ويعرفه الشباب في تفاعلهم مع العصر والعالم والعلوم و ثورة الاتصالات والمعرفة السريعة الواسعة . "نعم .. الشباب لم يقل كلمته بعد ".