في مقالنا السابق "في ثقافة الحكرة وحزب الشاشة"، وهنا في موقع "لكم" نفسه (الإثنين: 28 مارس 2011)، كنَّا قد عرضنا لمفهوم "الحُكرة" الذي ارتقى به "شباب 20 فبراير" إلى مصاف نوع من "الثقافة المضادة" التي عبّرت عن نفسها، واعتمادا على ما يمكن نعته ب"ديناميت الخطاب"، من خلال حزب متعين اصطلحنا عليه ب"حزب الشاشة" في دلالة على الثورة الإلكترونية التي أفاد منها هؤلاء الشباب وعبَّروا بالتالي على مطالبهم العادلة وذات البعد الاجتماعي الغالب والمهيمن. وهذا على الرغم من "الانفلات" الذي طال، وفي أحيان وأحيان كثيرة، "أداءَهم العام" وسواء على مستوى "الخطاب" أو مستوى التحرك في "الفضاء العام". والظاهر أن هناك العديد من المحللين والمعلقين والمهتمين بالشأن العام بصفة عامة لا يزالون ينظرون بنوع من الغمز بل والتشكيك في أن يكون شبابنا قد ارتقوا، ومن خلال شعاراتهم وردودهم، وحتى أغانيهم التي لا ينبغي أن تنكر، إلى مصاف الانتظام في إطار من دائرة "الثقافة". وهذا ما يمكن الاطلاع عليه، وبسهولة، وفي أكثر من مقال وضمنها مقالات نشرت هنا في موقع "لكم". وموضوع في هذا الحجم لا يمكن، في تصوري، الاطمئنان إليه، وبالقدر نفسه لا يمكن مناقشته بكثير من الاختزال والإيجاز. غير أن ذلك لا يحول دون التأكييد على أن هذا الصنف من المتشككين يستند بدوره إلى "ثقافة" عادة ما لا يتم الوعي بها. والمشكل ليس في عدم الوعي ذاته، ولا حتى في التصادم الثقافي الذي لا يفصح عن نفسه هنا، وفي إطار من الوضوح المنهجي فقط، وإنما المشكل في السقوط في نوع من "المشيخة الفكرية" التي تقضي، وباسم تصور صنمي، بإقصاء "الثقافي" عن حركة "20 فبراير". فالحركة تتكئ، وبالكامل، على "خطاب ثقافي"؛ وسيكون مضمون هذا الخطاب موضوع إحدى مقالاتنا القادمة. وأما الآن فإنه يمكن التأكيد على أن مربط الفرس، وبالتالي جوهر الخلاف مع هؤلاء الشباب، كامن في "سند الشاشة" ذاته (شاشة الهاتف الجوال، والحاسوب، والتلفاز) وفي "الصيغة الثقافية" (المغايرة) التي تنطوي عليها الشاشة نفسها. والمؤكد أن الإقرار بتصور من هذا النوع، ومن حيث هو تصور مساند، بل ومنصف في هذه الحال أيضا، وهذا هو الأهم... أقول إن تصورا من هذا النوع لا بد وأن يجد سنده المعرفي التصوري في مقاربة أخرى مغايرة تأخذ بجميع أشكال التمثيل (السياسي، هنا) وبمعزل عن أي نوع من "النظرة التراتبية" أو "الهيراكلية" التي تنص على التمييز بين أشكال الخطاب، وعلى النحو الذي بموجبه يعلو خطاب على خطاب، بل وهذا هو الأخطر يتم التلويح، بل والتصريح، بنظرة بموجبها تغذو "حركة 20 فبراير" عديمة الصلة بالثقافة... ومما يحفِّز على النظر إليها باعتبارها فاقدة ل"الصواب السياسي"، والتعامل معها بالتالي وكأنها "لقيطة سياسية". أتصور أن النقد الثقافي، وبمنحاه الديمقراطي كما تبلور في الفضاء الإنجليزي تعيينا، جدير بأن يفيد في هذا السياق الذي وللمناسبة اختلطت جميع أوراقه؛ مما يحتِّم مقاربة أخرى غير المقاربة التي تتغذى من المنظورات الأحادية. ولعل أجمل ما قرأت في هذا الصدد هو ما ورد في كتاب أخير وصدر قبل أسبوع فقط، وهو كتاب أو بالأحرى كتيب "اليد واللسان" ولصاحبه الناقد الثقافي السعودي الأبرز والأشهر محمد عبد الله الغذامي الذي كان قد سارع نحو "تفجير النقد القافي" في ثقافتنا العربية المعاصرة التي لا تزال فيها "الأنساق المفترسة" تفعل فعلتها. يقول هذا الأخير: "هذا أمر، ومعه أمر مصاحب وهو ظهور رسائل الجوال ورسائل الفضائيات، وشاشات الأنترنت، وهي كلها صيغ ثقافية جديدة تتيح فرصا خيالية للناس لكي يمارسوا أنواعا متجددة من الوسائل المعرفية الرخيصة أو حتى المجانية، مع ما فيها من حرية مطلقة وسرعة في الاستقبال واختصار للوقت والجهد وتوفير المال" (ص23). وأظن أن هذا النص (وعلى طوله المحمود، هنا) جدير بأن يعفي من "الإنشائية" أو من "الشقشقة اللفظية"، فهو نص قاطع في مضمونه أو حدّي في دلالته. وهذا مع ملاحظة واحدة تفرض ذاتها، هنا، وهي استحضار "المرتكز الشفوي" الذي يلوي بالصيغ الثقافية سالفة الذكر. وهو ما يصطلح عليه صاحب الكتيب نفسه، وفي موضع آخر، ب"الشفاهية الإلكترونية". فالشباب يتواصلون، هنا، عبر "الدردشة" ب"قيمها التداولية" الخالية من المساحيق البلاغية والعكازات السياسية. وكما أظن أن النظر إلى "ثقافة الحركة"، ومن خلال تصورات تتأسس على نصوص من نوع النص السابق، جدير بأن يحررنا من "الوصاية الفكرية" التي، وللمفارقة، لكي لا أقول للأسف، لا يزال يسقط في براثنها شباب أيضا بذريعة "التحليل" الذي يلتبس، هنا، ومن باب المناقلة، أو علاقة السبب بالنتيجة، بما يمكن نعته ب"المشيخة الفكرية" التي هي واحدة من "أمراض مثقفينا" المزمنة.