كنت كآلاف المغاربة، من المهتمين والمعلقين والمحللين، وحتى من البسطاء، ممن تسمّروا أما شاشاتهم الصغيرة من أجل الإنصات إلى الخطاب الذي ألقاه عاهل البلاد يوم الأربعاء التاسع من شهر مارس. وليس من شك في أن الكثيرين كانوا يحدسون بأن الخطاب لا بد وأن يأتي ب"جديد"، بالنظر إلى حالة البلوكاج الاجتماعي والاحتقان السياسي التي يعرفها المغرب منذ مدة وعلى غرار العديد من بلدان العالم العربي التي تغيرت فيها، وبفعل التاريخ المتدافع، وجذريا، أنظمة من أساسها. والظاهر أن من لا يزال يشدد على "الاستثناء المغربي" واهم في نظري أو في نظر كثيرين من المهتمين بالشأن المغربي، ذلك أن أسباب "الانفجار الاجتماعي" هي ذاتها في المغرب. وهذا على الرغم من الفوارق التي لا تنكر بين المغرب والبلدان الأخرى التي شهدت الرجَّة سياسية ذاتها، خصوصا وأنها فوارق تنحصر في الدرجة لا في النوع. وهذه الفوارق يمكن قياسها من ناحية مدى تأهل هذا البلد أو ذاك نحو تدبّر "انفجاره"، وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق ارتقاءه ب"انفجاره" هذا من حال "الانتفاضة العمياء" نحو حال "الثورة الهادئة". وأسباب الانتفاضة متعددة، أو هي قديمة وجديدة وعلى ما في هذا التعبير من تناقض ظاهري. والتحليلات، والكتابات المفتوحة أيضا، في الموضوع متعددة. فكل من التحليل والبوح يفضيان إلى التأكيد على "المفهوم المفتاح" الذي يغني عن لوثة الاستعراض الأكاديمي أو التبجح السياسي. والمقصود، هنا، مفهوم أو تسمية "الحكرة" التي يتم استعمالها (Le Hokra) حتى باللغة الفرنسية وعلى مستوى عناوين بعض الكتب ذاتها. بل هناك من يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك حين يستعمل تسمية "الحكرة المزدوجة" أو "المضاعفة" كما في حال النساء بصفة خاصة من المعتقلات من قبل الاستعمار الذكوري أو الفقهي. وأتصور أن "الصمت" في العالم الثالث لم يكن في يوم من الأيام صمتا أبديا أو صمتا صامتا؛ إنه "صمت الرعب" كما عبّر عنه أحد الفلاسفة. ولذلك فإننا لا نعرف إلى أين ستحط نتائجه الكبرى والمفصلية، ولا أتصور أن الطغاة وبما فيهم من الصغار كانوا يستقرون ولو على نتف من الحدس السياسي بخصوص ما آل إليه العالم العربي مع مطلع العام 2011. ومن ثم فإن ال 80 % التي تضرب عن الانتخابات والتسع الأربع (99, 99) التي "يستحوذ" عليها الطغاة في الانتخابات ذاتها، والمسلكيات التسلطية والشخصية لهؤلاء، كل ذلك كان يعمل، وبشكل حاد، على مراكمة طبقات الحكرة وسواء في النفوس أو في الهوامش الخلفية. وما لا يزال يخفى عن كثيرين هو أن الحكرة انطوت على "ثقافة مغايرة" عبّرت عن نفسها من خلال قنوات متعينة في مقدمها قناة "حزب الشاشة" (شاشة الهاتف النقال وشاشة الحاسوب وشاشة التلفاز). وهو حزب سمح للشباب ب"التدخل" (وعلى طريقته) في الشأن العام ومن ثم صياغة طموحاته المشروعة والقريبة، والأخطر ما في الأمر من خلال لغة عملية وإجرائية ومباشرة ولا مجال فيها للماكياج السياسي أو الانبطاح الدولتي. حزب لا مجال فيه للزعامة والكاريزمية والديماغوجيا... إلخ. وبقي أن أشير إلى أنه في "عصرنا المرآوي" كما اصطلح عليه مطاع صفدي لم تعد الصورة هي الأهم بالنسبة لهؤلاء الشباب الذين انتفضوا، وبحزم، ضد الحكرة. كان الأهم بالنسبة لهم هو "الخطاب" الذي صاغوه وبلغة سلفت الإشارة إليها: لغة متقاربة وعارية ولا مجال فيها للتكافؤات السياسية أو المحاصصة الإيديولوجية. وثورتهم هاته كانت، وفي المقام الأول، مفعول خطابهم هذا الذي أربك شيوخ السياسة ووحوشها.