كانت رحلة فاطمة المرنيسي ملحمة من التحدي والتجديد، من أزقة فاس العتيقة حيث ترعرعت بين جدران الحريم، إلى آفاق الفكر العالمي حيث رفعت راية الحرية والمساواة. كانت ثائرة بالفكر، ساعية إلى تفكيك البنى التقليدية التي قيدت المرأة لعقود، متجاوزة قيود القهر الذكوري لتعلن أن الكلمة والكتابة هما أقوى أسلحة الحرية. ولدت فاطمة المرنيسي في فاس عام 1940، وسط مجتمع محكوم بالتقاليد والقيود، حيث كانت النساء محصورات في أدوار هامشية، يحيط بهن جدار الصمت. في بيتها القديم، وسط همسات النساء وأحاديثهن المكتومة، بدأت تتشكل لديها قناعة بأن المرأة تمتلك روحًا قادرة على التحليق، حتى لو كان جسدها مكبلا بقيود الموروث.
أدركت مبكرا أن التحرر لا يكون بالهروب من الماضي، بل بمواجهته والتفاعل معه بوعي نقدي. ومن هنا بدأت رحلتها الفكرية، من ظلال الحريم إلى رحاب الفكر، مسلحة بالمعرفة، مؤمنة بأن الكتابة ليست مجرد ممارسة، بل فعل تحرر وثورة لا تُقهر. رحلة نحو التمرد في عالم يفرض الصمت على المرأة، شقت المرنيسي طريقها نحو الكتابة، لتصبح صوتا جريئا في وجه السائد. كان كتابها "ما وراء الحجاب" صرخة في وجه التقاليد التي تحاول تقييد المرأة، إذ لم يكن مجرد دراسة أكاديمية، بل بيانا يعلن بزوغ وعي جديد، يعيد تعريف القوة النسوية والهوية الفردية. في صفحات هذا الكتاب، تطرح المرنيسي تساؤلات وجودية حول معنى الحرية، متسلحة بأسلوب يمزج بين عمق الفكرة وسحر التعبير. رفضت النماذج القديمة التي كبلت المرأة، ودعت إلى حوار عادل مع الرجل، بوصفه شريكا في معركة التحرر، وليس خصما. لم تكتف المرنيسي بالتحليل النظري، بل أعادت قراءة التاريخ الإسلامي برؤية نقدية، رافضةً السرديات التي همّشت أدوار النساء. في "الحريم السياسي" و"سلطانات منسيات"، سلّطت الضوء على شخصيات نسائية حكمت وقررت، متحدية بذلك الصورة النمطية التي رسمها التاريخ المهيمن. بالنسبة لها، إعادة قراءة الماضي ليست مجرد استذكار لما كان، بل خطوة نحو تشكيل مستقبل أكثر إنصافًا. لقد أثبتت أن القوة لا تكمن فقط في امتلاك السلطة، بل في القدرة على التأثير والتغيير عبر الفكر والنقاش المفتوح. مساءلة المسلمات كان نهجها يعتمد على مساءلة المسلمات الاجتماعية، وكشف التناقضات في الخطاب الديني والثقافي السائد، مما جعلها تتعرض للانتقاد الشديد، ولكنها لم تتراجع. كان للمرنيسي تأثير بالغ على الأوساط الأكاديمية في العالم العربي والغربي، حيث تجاوزت كتاباتها الأطر التقليدية، وخلقت مساحات جديدة للحوار حول قضايا المرأة والإسلام والحداثة. كانت ترى أن تمكين المرأة لا يقتصر على الحقوق السياسية والاجتماعية فحسب، بل يمتد ليشمل تحرير العقل من القيود التي فرضتها قرون من التهميش. لم تكن المرنيسي مجرد باحثة تقرأ وتكتب في عزلة، بل كانت في قلب المجتمع، تستمع لقصص النساء وتوثق معاناتهن. في شوارع المغرب، التقت بنساء مختلفات، سجلت آلامهن وأحلامهن، لتعيد رسم صورة المرأة بعيدًا عن التنميط السائد. كان نقدها للسلطة الذكورية نقدًا نابضًا بالحياة، نضالًا حقيقيًا ضد محاولات تكميم الأصوات. لم تكن تؤمن بأن المعركة تخص النساء وحدهن، بل كانت ترى أن تحرر المرأة مرتبط بتحرر المجتمع كله، وأن النضال يجب أن يكون مشتركًا بين الجنسين. كانت رؤية متكاملة لعالم أكثر عدالة. تُرجمت كتبها إلى عشرات اللغات، وألهمت أجيالًا من النساء والرجال الذين يبحثون عن الحرية. في "شهرزاد ترحل إلى الغرب" و"نساء على أجنحة الحلم"، حوّلت قضايا المرأة إلى أدب يجمع بين البحث العلمي والسرد الإبداعي، مؤكدة أن الكتابة ليست مجرد وسيلة للتوثيق، بل أداة للتغيير.