كشفت حفريات أثرية حديثة في موقع كاش كوش، الواقع في إقليمتطوان بالمغرب، عن أدلة جديدة تسلط الضوء على تطور المجتمعات المحلية في شمال غرب إفريقيا خلال العصر البرونزي. وأظهرت هذه الحفريات، التي قادها باحثون مغاربة من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، أن الموقع كان مستوطنة بشرية نشطة بين عامي 1300 و600 قبل الميلاد، مما يتحدى الفكرة التقليدية بأن هذه المنطقة لم تشهد نشاطًا حضاريًا ملحوظًا قبل وصول الفينيقيين. وقد نُشرت هذه الدراسة التي أعدها حمزة بن عطية ويوسف بوكبوت وخورخي أونروبيا بينتادو ومريم بنرادي وبشرى بوغريان وبشرى بوحاميدي وجاريد كاربالو بيريز وعثمان الشريفي بعمراي وأسماء القابلي ونوفل غياتي وآخرون، ضمن منشورات جامعة كامبريدج، حيث أكدت على أن الاكتشافات في كاش كوش تفتح آفاقًا جديدة لفهم التاريخ القديم لشمال إفريقيا، وتبرز أهمية البحث المستقبلي لاستكمال هذه الصورة التاريخية. خلال أعمال التنقيب في مرحلتين، تم العثور على مجموعة متنوعة من الأدوات الحجرية المستخدمة في الأنشطة اليومية مثل الكشط والقطع. وتضمنت هذه الأدوات مكاشط وأزاميل ومناجل، مما يشير إلى تطور مهارات التصنيع الحجري وتزايد تعقيد النشاطات الحرفية المحلية. كما تم العثور على 16 أداة طحن، مما يعكس ممارسة السكان للزراعة واستخدام الحبوب في نظامهم الغذائي. وقد عُثر أيضًا على أدلة تثبت وجود ورش بدائية لمعالجة المواد الخام وتحويلها إلى أدوات وظيفية، وهو ما يعكس مستوى متقدمًا من التنظيم الاقتصادي والحرفي داخل المستوطنة. هذه النتائج المهمة التي تعيد النظر في تطور المجتمعات القديمة في شمال إفريقيا، جاءت ضمن الدراسة التي نشرتها جامعة كامبريدج، والتي تسلط الضوء على التحولات التقنية التي شهدتها المنطقة خلال العصر البرونزي. إحدى أبرز الاكتشافات كانت العثور على ثلاث أدوات معدنية، بما في ذلك قطعة من البرونز القصديري تعود إلى ما بين 1110 و920 قبل الميلاد. حيث يُعتقد أن هذه القطعة تمثل أحد أقدم الأدلة على استخدام البرونز القصديري في شمال إفريقيا خارج مصر، مما يفتح باب التساؤلات حول مدى انتشار الصناعات المعدنية في المنطقة خلال هذه الفترة. كما تشير الدراسات التي أجريت على العينات المعدنية إلى أن سكان كاش كوش لم يكونوا مجرد مستهلكين لهذه الأدوات، بل ربما كانوا منخرطين في عمليات التصنيع والتعدين المبكر. وتوضح الدراسة أن هذه الاكتشافات تشكل مساهمة أساسية في فهم أصول وتطور الصناعات المعدنية في شمال غرب إفريقيا، حيث تسلط الضوء على احتمالية وجود شبكات تبادل للمواد الخام والمعرفة التقنية بين مجتمعات المنطقة. كما تشير الأدلة المستخرجة من الموقع إلى أن سكان كاش كوش كانوا يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي، مع وجود أدلة على تخزين ومعالجة الحبوب. كما عُثر على بقايا بذور العنب، مما يدل على تنوع الإنتاج الزراعي المحلي. وقد أظهرت الدراسات البيئية أن المناخ خلال تلك الفترة كان أكثر اعتدالًا، ما ساعد على ازدهار الزراعة وتوسيع الأنشطة الاقتصادية للمجتمعات المحلية. كما أظهرت التحليلات أن المستوطنة شهدت تغيرات ثقافية تدريجية، مثل استخدام الحديد والخزف المصنوع بالعجلة، ما يعكس تفاعل السكان مع شبكات تجارية أوسع عبر البحر الأبيض المتوسط. ووفقًا للدراسة التي نشرتها جامعة كامبريدج، فإن هذه النتائج تؤكد على أن المجتمعات المحلية في شمال المغرب لم تكن معزولة عن العالم الخارجي، بل كانت منخرطة في تفاعلات تجارية وثقافية أوسع، مما يسهم في إعادة النظر في تاريخ المنطقة. ودعت هذه الاكتشافات إلى إعادة تقييم دور المغرب القديم في المشهد التاريخي لشمال إفريقيا. فبدلًا من اعتبار المنطقة معزولة قبل وصول الفينيقيين، تشير الأدلة إلى أن السكان المحليين كانوا منخرطين في عمليات إنتاجية وتفاعلات ثقافية واسعة. وبحسب الباحث حمزة بن عطية، المؤلف الرئيسي للدراسة المنشورة في جامعة كامبريدج، فإن "الاكتشافات في كاش كوش تثبت أن المجتمعات المحلية كانت نشطة ومترابطة قبل فترة طويلة من وصول الفينيقيين". وأضاف الباحثون أن نتائج التنقيب تفتح الباب أمام دراسات جديدة تبحث في الروابط الممكنة بين سكان شمال المغرب والحضارات المجاورة، مثل الأيبيريين والفينيقيين، من خلال تحليل الأنماط المعمارية والممارسات الجنائزية ومكونات الأدوات المكتشفة. يعد موقع كاش كوش واحدًا من بين المواقع القليلة التي توفر نظرة متعمقة حول العصر البرونزي في شمال إفريقيا الغربية. ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتوضيح مدى انتشار الاستيطان البشري في هذه الفترة. بالتالي، فإن نشر نتائج هذه الحفريات لا يهدف فقط إلى توثيق الاكتشافات، بل يسعى أيضًا إلى تحفيز الباحثين لاستكشاف هذه الفترة الهامة من تاريخ المغرب. وقد أكدت الدراسة المنشورة في أن هناك ضرورة لإجراء المزيد من الأبحاث لفهم طبيعة الاستيطان والعلاقات التجارية التي ساهمت في تطور هذه المجتمعات. كما يدعو الباحثون إلى استخدام تقنيات تحليلية جديدة، مثل تحليل النظائر الجيولوجية ودراسة الحمض النووي القديم، من أجل التوصل إلى فهم أعمق للهوية السكانية والعلاقات الثقافية في شمال المغرب خلال العصر البرونزي.