"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** **ّ* الليلة الأخيرة كانت قاسية.. غارات على الضاحية بعد توقف ستة أيام، وفشل مفاوضات وقف النار، والدمار في كل مكان.. صمتاً.. تصوير.. إنهم يقومون بتدمير غزة أخرى..! إيران تُصعِّد.. وإسرائيل مصرة على القضاء على حزب الله.. والحزب يقاتل ويستمر في نشر مقاتليه وسلاحه في المناطق الجنوبية.. *** وتنام وتصحو لتجد نفسك في مكانك.. في أسفل جدار شاهقٍ من اليأس ومن عدم القدرة على التأثير في أي شيء… إنك تأمل في زوال الشدة، وفي فسحة صحو وانفراج.. تنتظر وقف إطلاق النار، وكلما حل دبلوماسي غربي إلى بيروت تتطلع مع المتطلعين إلى احتمالات التوصل إلى هدنة فورية.. لكنك متوجس ممن لا يظهر مطلقا على مسرح الحرب.. نسمع به فقط لا غير.. وتخاف أن يكون "وقف إطلاق النار" من ألقابه المستعارة أو من أسمائه الحربية.. لكنه يصر دائما على أن يبقى متخفيا تحت معطف وقبعة "غودو" الذي لا يحضر أبدا.. ومهما طال انتظاره فإنه لا يصل.. تتمنى رؤيته لكن ذلك لن يتحقق.. ليس أمامك إلا إشغال نفسك بالإنصات الذاتي لصوتك الداخلي… همس ينصحك أن تحافظ على يقظتك الذهنية وألا تشتت أنفاسك في صدى أوهام عبثية.. لكن ما العمل وأنت تشعر كمن يحمل فوق كتفيه رأسين.. رأس يوافق على الاقتحام والمغامرة وعدم تضيع فرصة اللوذ بالهرب..، ورأس ثانٍ يعارض وينصحك بالتريث وألا تبرح مكانك.. ابق حيث أنت.. لا تستعجل أمرك.. "اللِّي زَرْبو ماتو"… لكن "التأخير يمكن أن يتحول إلى أي شيء، لأن الوقت يجلب معه الشر والخير، الخير والشر"، هكذا تحدث مكيافيللي. *** أرغب في فنجان قهوة، وأن أكمل قراءة كتاب صدر منذ أعوام (1995) عن دار "الجديد" البيروتية للعراقي عبد القادر الجنابي… على الغلاف صورة للجنابي يحمل بين أصابع يمناه سيجارة طويلة… وتشتاق للتدخين.. فأتذكر أني منذ فترة امتنعت عن التدخين لأسباب صحية.. المهم أريد أن أعمل شيئا يقيني من الخضوع لهواجسي السلبية… أرغب في أخذ قسط من الراحة والتنفس والنسيان للحظة.. – ابتعد إذن عن التلفزيون وعن أخبار الحرب… لكن دوي الطائرات الحربية وهديرها المزعج يشدك من خناقك ليسحلك فوق أرض الواقع ويعيدك من حيث أتيت.. إلى مجاهل التوجس والخوف والانهيار.. إلى قساوة الحقيقة ومرارة الرعب… لكن ما السبيل إلى التفكير بوعي وبِتَروٍّ وبعقلانية.. ولفظ هواجس الكارثة والألم والغضب..؟ *** إن الحرب شر مطلق. شر يجعل المستحيل ممكنا.. يمكن أن يحدث دائمًا… ولما تصبح إمكانية الابتعاد عن ساحات الخطر أمرا مستحيلا، تكتفي بالصمت وتترحم على صديقك الأديب والصحفي عبد الجبار السحيمي صاحب "الممكن من المستحيل".. *** يتصلون بي على الوتساب.. أحبابا وأصدقاء أعزاء، بينهم قلة من "المتحركشين"، الفضوليين المفضوحين.. الجميع يطمئن عليك.. أسمع أصواتهم البعيدة تصل مع أنفاسهم المتسارعة في الهاتف: – نحن معك… معك من كل قلوبنا… اعتنِ بنفسك… ستفرج… إنه أمر مؤلم ومحرج… لا نستطيع إلا أن نتمنى لك طول العمر والبقاء على قيد الحياة… ابتعد عن المواقع والأماكن الخطرة… حتما ستعود وسنلتقي… ونرى بعضنا من جديد… من خلال صوتك الآن… وأيضا من خلال منشوراتك على الفيس بوك نحس بأنك في حالة معنوية جيدة… هذا مما يسعدنا… إننا نتابع ما تكتبه من يوميات الحرب… استمر في الكتابة… فمن المهم جدًا بالنسبة لنا ولك أن تكتب. شكراً على كلماتك التي تقرّبنا من خوفك كما تضيء درب مقاومتك.. لكن أكبر ما يحميك هو كتابتك لهذه اليوميات…). آخرون يكتفون بإرسال دعوات وآيات قرآنية، أو بعث "إيموجات" القلوب الحمراء وأكف الضراعة، ورسم باقات الورود… وآخرون لا يتواصلون مطلقا، يكتفون بالتجسس عليك في حالاتهم المظلمة من خلف قناع.. وأنت تعرف بعضهم ولا تتكلم… شكرا للجميع مع المحبة والتقدير.. لكن السؤال هو كيف بالإمكان العيش في الحرب وفي الآن التفكير في الحرب والكتابة عن الحرب..؟! ولست هنا بصدد توثيق مجرياتها أو تحليل وقائعها وتداعياتها، وتلك ليست مهمتي إن لم تكن تفوق قدراتي وتبتعد عن اهتماماتي.. لكني أحاول فقط تدوين ما استطعت إليه سبيلا من يوميات حكايات عابرة.. ولست خائفا من أن أكرر نفسي في تدويني لهذه اليوميات.. لكني أحيانا كثيرة لا أفلح في نقل ما أحس به حقيقة.. وتبدو لي كلماتي مثقلة بالفراغ، وبصدإ قيود من العجز والشلل، وبأصداء نهايات دامية.. *** إنه زمن "افيخاي ادرعي" بكل أسف! اصبحت الناس لا تغادر منازلها إلى أي منطقة كانت، وفي أي وقت كان، إلا عندما يطلب "أفيخاي" منها ذلك. يكتب مدون تحت القصف. *** نادرا ما واجهت دولة من الدول مثل ما حصل ويحصل الآن في لبنان.. خلال الخمسة أعوام الماضية اضطرّت البلاد إلى تحمّل كمّ ثقيل من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والاضطرابات السياسية.. أضيفت إلى تراكم المصاعب التاريخية والطائفية المعروفة.. لكن قصة التخويف الأخيرة من أن حزب الله سيعيد تشكيل نفسه في المناطق غير الشيعية، مثل مناطق جبل لبنان السنية والدرزية، تجعل من هذا المخطط المروج له حاليا، مخطَّطًا بالغ التعقيد. يؤكد بعض المراقبين المحليين أن هذا الأمر إن صح "سيجعل حزب الله، في أفضل الأحوال، يصطدم بجبلٍ من التحديات يتعيّن عليه تسلّقه، وأنه من غير المرجَّح أنه يرغب في النهوض بهذه المهمّة اليوم وهو في حالة حربٍ مع سائر أقطاب المجتمع اللبناني". *** الخلاصة: على طرفي الميدان… طرفان يبلغان شقّ النّفس. طرفٌ يعاند لبلوغ النّصر. طرف يكابد درءاً للهزيمه. وما زال أمامهم الكثير لإغلاق دائرة الميدان. *** الكارثة التي وصلنا إليها – يقول أحد النشطاء السياسيين- هي مسار شارك في صنعه قوى وشخصيات سياسية، من مسيحيين وسنّة ودروز وأرمن، ومَن صوّت لهم في الانتخابات، من وليم طوق في بشرِّي، إلى سليمان فرنجية في زغرتا، وفيصل كرامي في طرابلس، وجبران باسيل في البترون وجبيل، ومعه فريد الخازن في كسروان، وإلياس المر وابنه، والطاشناق في المتن، والأحباش في بيروت، وطلال أرسلان ووئام وهاب في عاليه والشوف… جميعهم مع جمهورهم شركاء في الجريمة، وجميعهم ما زالوا يعتبرون سلاح حزب الله هو "لحماية" لبنان، لكنهم يرفضون استقبال قادة الحزب ووجود مخازن سلاح حزب الله في مناطقهم. ويضيف: يريدون أن يكون الشيعي المعارض مشردا، وأولاده بلا مدارس، وبيته يتدمر، بينما هم يحافظون على مناطقهم آمنة وعلى ناخبيهم حتى لا يتعرضون للخطر، وليحصلوا على مكاسب دفاعهم عن السلاح، من دون أن يتحملوا تبعات هذا الخيار. إنهم جبناء وفاجرون. ويختم، بأن العدالة تفرض أن هؤلاء وجمهورهم، وليس الشيعي المعارض، من يجب أن يدفعوا ثمن خياراتهم تشريداً ودماراً، لكن معاييرنا الأخلاقية وقيمنا لا تتمنى الأذى لأي كان، حتى لشركاء حزب الله في مسار تشريدنا ودمارنا وموتنا، وكل ما نريده هو الدولة ومؤسساتها وحصرية السلاح بيد الجيش وأن نعيش بسلام. *** المدى ملطّخ بزفرات قتلى تحت الردم.. أحيانا أسمع جدران منزل منهار في الجنوب تتنفس من رئتي. تطل منِّي نافذة في بعبلك مترعة بولولة الحزن والغياب. تأخذ شكل آخر دقات القلب، تناديني بأسماء مغدورين وتهرب إلى زمن آتٍ تعرٍّي فيه فتنة اليأس الدائم على مصراعيه. بغمزة عين أطفأها الرمد تحاول أقفاص مكسورة أن تأسر ذاكرة فراشات بيضاء محنَّطة تحت زجاج بلوري من لوعة وأنين.. فراشات كلما رفرفت بأجنحتها أدمعت الأعين حجرا من غضب متوهج بالتباسات اللوم والحلك العظيم.. أسرع في خطوي بلا قدمين.. أعير أطرافي السفلى لموتى مطاردين.. يُهرِّبُون أرصفة القيامة عبر أبواب موصودة برياح في خدمة الإعصار والزلزال… (الجمعة 1 نوفمبر 2024)