"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** *** نهار البارحة، (الثلاثاء 22 أكتوبر 2024)، شاهدت جانبا مما حدث ويحدث هذه الأيام في "الدالية"، الاسم الذي يطلق على المنطقة التي تشتهر بكونها معقل حزب الله، الضاحية الجنوبية في بيروت. قطعت ذهابا وإيابا بالسيارة شارع الأوزاعي، (نسبة إلى الإمام عبد الرحمان الأوزاعي، إمام بيروت وسائر الشَّام والمغرب والأندلُس، 707-774 ميلادية). وهو من الشوارع التي تعتبر ضمن نطاق بلدية "الغبيري"، المحاذية لمطار رفيق الحريري الدولي، والمتاخمة ل"حارة حريك"، ومنطقة "برج البراجنة" حيث مخيم اللاجئين الفلسطينيين المعروف، المخيم الأقدم (تأسس سنة 1948)، والأكبر مساحة بين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والأكثر كثافة سكانية، والأكثر معاناة بين مخيمات بيروت. ليست هذه أول مرة أزور فيها المنطقة أو أجوب هذا الشارع الطويل، ولكنها أول مرة أصل إليه منذ انتقال الحرب إلى الداخل اللبناني، إلى بيروت.. على جنبات شارع الأوزاعي الممتد على قرابة أربعة كيلومترات مستوية، تنتشر مبانٍ سكنية عشوائية، كباقي مباني الضاحية. ولأن شارع الأوزاعي يربط العاصمة بصيدا عبر الطريق السيار بجبل لبنانوالجنوب، تجد تحت تلك المباني المطلة على جانبي الشارع، دكاكين تجارية لبيع الأخشاب والأثاث المنزلي والمفروشات، إلى جانب المواد الغذائية.. وأيضا محلات للحلاقة وميكانيك السيارات والمكيفات وما إلى ذلك… في شارع الأوزاعي يعلو الغبار وتنتشر الأوساخ والأتربة والزجاج المكسور.. وتضيق مساحة الطريق المزدوجة حتى تتسبب في اختناقات مرورية تنتج عنها عرقلة واضحة لحركة السيارات، نظرا للعدد المتزايد لعربات بيع الخضر والفواكه والأسماك، وباعة القهوة الإكسبريس.. أكثر هؤلاء الباعة المتجولين هم من الفقراء ومن اللاجئين السوريين. بلغني أنه مقابل السماح بممارسة هذا النشاط غير المرخص، يدفعون مبالغ كبيرة بالدولارات شهريا لمن يرخص لهم خارج القانون.. من "الفتوات الحزبية"!… *** على خلاف ما شاهدته يوم أمس على الطريق السيار، حيث انتشرت لوحات كبرى لصورة حسن نصر الله تحتفي باستشهاده، ألفيت شارع الأوزاعي يقتصر فقط على صورة للقائد العسكري لحزب الله، فؤاد شكر بلباس الميدان، تحت شعار: "شهيد القدس".. وفؤاد شكر الملقب ب"الحاج محسن" هو من أبناء منطقة الأوزاعي. لا يخلو شارع الأوزاعي على الدوام من بوسترات كبيرة للإمام موسى الصدر مؤسس "حركة أمل" الشيعية، ولخليفته نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني منذ 1992. عندما لقي الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي مصرعه برفقة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في ماي الماضي، أُنزِلَت بوسترات من الحجم الكبير لصورهما في شارع الأوزاعي. كذلك الأمر عندما اغتال الأمريكان في بغداد الجنرال الإيراني رئيس "فيلق القدس" قاسم سليماني قبل ما يقرب من خمس سنوات.. *** الرحلة إلى الضاحية الجنوبيةلبيروت لا يمكنها أبدا أن تدخل في عداد الرحلات السياحية، حتى في فترات خارج الحرب.. ولا شك أنك كلما توغلت في شوارع ودروب الضاحية ستقف على آثار الدمار والمزيد من الركام… قبل أعوام، مررت بشوارع وأحياء وسط الضاحية، فراودني الإحساس كمن يتجول بشوارع وأزقة إحدى مدن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ما يعزز هذا الانطباع.. مشهد النساء المتخفيات وسط سواد التشادور الإيراني، وصورة الإمام الخميني، وصور شهداء حزب الله وحركة أمل.. والرموز الشيعية، منها الرايات الحمراء والسوداء وعبارة "لبيك يا حسين".. . كان على مرافقي في تلك "الزيارة" أن ينبهني كي أترك هاتفي هادئا داخل جيبي وأن لا أفكر في التقاط أي صورة قد تخطر لي بالبال. يضيف مرافقي: إن أي أحد من هؤلاء المارة في الضاحية بإمكانه التدخل والتصرف كرجل أمن، ليوقفني ويقودني إلى حيث أخضع للتحقيق والمساءلة.. هنا كل أجنبي عن المنطقة هو تحت طائلة الشبهة والاشتباه! ويزيد الأمر تأزما في وقت الحرب.. حالة من الغضب والتوتر الشديد تجعل الناس لا يثقون في الأجانب، ويخافون من الجواسيس المحتملين، حتى لو كانوا من بني جلدتهم.. من العرب… *** في إحدى زياراي السابقة لمدينة صور (2017)، بينما أنا أتمشى على رصيف شاطئ هذه المدينة التاريخية، مع صديقي اللبناني عزيز. م، فإذا بنا أمام شخص يحث الخطى نحونا. لما وصل خاطبني من دون رفيقي، ليسألني: – هل أنت تونسي؟ مصري؟ جزائري؟… ابتسمت في وجه هذه الأسئلة المندلقة من لسان فضولي، وأجبت بأني مغربي.. نظر إلي نظرة تمعن وتفحص، ثم قال بضع كلمات، من تلك العبارات الجاهزة للمجاملة، عن المغرب والمغاربة، ثم عاد مسرعا من حيث أتى… التفت أنا إلى صديقي عزيز وعلقت: – هذا الرجل إما أحمق أو متحامق؟ رد عزيز كان: – لعلك أنت الأحمق.. هذا من مخابرات حزب الله.. من المكلفين بمراقبة هذا الجزء من الشاطئ.. واضح أن الزوار الأجانب، خصوصا منهم الغربيون، سيقابلون دائما بعدم الثقة. لكن ما سنكتشفه لاحقا إلى حد الصدمة، هو أن التنظيم الصلب والقوي مخترق على أعلى المستويات العمودية قبل الأفقية…! *** على غير العادة، سأصادف "الأوزاعي" بطريق سالكة، تكاد تكون فارغة إلا من بضع سيارات وبعض راكبي الدراجات النارية.. قلة من المارة، وسبعون في المائة من المحلات مقفلة.. رائحة حرائق الغارات تغزو الرأس قبل الأنف، آثار العدوان الإسرائيلي على طول الطريق.. تذكر كل من يهفو إلى النسيان… على الطريق السيار، بمنطقة "الجية" الساحلية والواقعة بقضاء الشوف – جبل لبنان (حوالي 25 كلم جنوببيروت)، شاهدت أثر الغارة التي شنها الطيران الحربي الإسرائيلي بداية هذا الشهر.. وهي الغارة التي قيل إنها استهدفت ورشة لتصليح السيارات… *** في نفس اليوم، ليلا، شن العدوان الهمجي غارات جديدة على الضاحية، على الأوزاعي وعلى منطقة حارة حريك… جلست أقلب القنوات، أتتبع مشاهد الدمار والدخان المتصاعد صوب سماء ملتهبة، أكثر مما أسمع إلى كلام المراسلين والمعلقين ومحترفي اللغو، ممن يستثمرون في أي شيء، حتى لو كان كارثة وخرابا وضحايا بالمئات وعشرات الآلاف… الملعون أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم جيش الاحتلال، نشر أمس تحذيرات جديدة على منصة إكس، محددا الأماكن التي يتعيّن إخلاؤها، في حارة حريك والأوزاعي والجناح وبرج البراجنة والحدث. جاء في التحذير "أنتم تتواجدون بالقرب من منشآت ومصالح تابعة لحزب الله سوف يعمل ضدها الجيش الإسرائيلي على المدى الزمني القريب". بعدها بوقت وجيز.. وقت قصير جدا، لا يسمح بالهروب الجماعي أو الاحتماء، شنت الغارات… وأنزلت طائرات العدو أثقالها من القنابل والمتفجرات، ليسود الموت، ويسري الخوف والغضب واليأس.. وتترسخ روح الكراهية ويتأصل الكفر.. إن ما يقع من عدوان وحشي، ومن استمرار هذا العدوان دون توقف، أمام عجز الحكومة اللبنانية وسياسيي البلد لإيجاد سبيل لخروج من الوضع المأساوي.. كل هذا يساهم في انبعاث الكفر.. وقد انتشرت تسجيلات صوتية لنازحين ولضحايا التهجير.. يلعنون الجميع وكل شيء.. كل شيء… بل إنهم يسبون الذات الإلهية… مزيج من الصدمة والغضب والخوف يحكم الآن بيروتولبنان.. البلد الذي يتعرض منذ شهر لهجمات كل ليلة… أمام أنظار الدنيا، وبدعم أمريكي بريطاني ألماني.. وأمام صمت مريب يكاد يكون صمتا مطبقا. معظم أحياء ضاحية بيروتالجنوبية أمست فارغة، غير أن حي الأوزاعي كان حتى البارحة لا يزال مكتظاً بساكنيه لأنه لم يُستهدف من قبل. استهدفت الغارات الوحشية ميناء الصيادين في المنطقة، ومكتب حركة أمل في منطقة "الجناح"، ومحيط أكبر مستشفى حكومي في لبنان، مستشفى رفيق الحريري الجامعي في هذه المنطقة.. حيث ارتكبت إسرائيل مجزرة جديدة، موقعة عددا من الشهداء وعشرات الجرحى… *** إنها مذابح.. هل من عبارة أخرى تفيد الوصف والمعنى أكثر من الذبح والمجزرة؟!. إسرائيل مصممة على مطاردة أعضاء حزب الله .. يقول الإسرائيليون أنهم يستهدفون سلاح الحزب.. ويؤكد السكان أنه "لا توجد مستودعات أسلحة أو أي شيء من هذا القبيل هنا. الناس العاديون هم من يعيشون هنا". لكن هناك مخاوف لدى الناس من احتمال وجود أعضاء من حزب الله بين اللاجئين.. *** إنه زمن الحرب.. زمن مؤلم وقاس للغاية، وصدماته لا حصر لها لدى كل شخص وللمجتمع بأكمله. فما عليك إلا أن تدفع عنك شرور الحرب بكل ما أوتيت من قوة نفسية ومن رباطة جأش.. حاول أن تتجاهل وقعها على روحك.. لا تتركها تؤثر فيك أكثر.. وانس ولا تبالِ.. لعلك تتخذ من اللامباة آلية نفسية للدفاع عن النفس.. هكذا أتعمد مخاطبة نفسي لما أخلو إليها… وإلا قل لي أنت ما العمل؟ لا تستقبل مني سؤالي مثل استفهام لينيني، بينما هو ربما أقرب إلى سؤال وجودي، من دون أن تكون له صلة بالفيلسوف الفرنسي سارتر وأتباعه.. وإذا قلنا الفلسفة فسوف أذكر أن المثقف اللبناني أحمد بيضون، شقيق صديقتنا الإعلامية بديعة بيضون، وصهر المفكر وضاح شرارة، وكلهم رفعوا في زمن ولى ولم يعد، راية اليسار ومنظمة العمل الشيوعي بزعامة الراحل محسن ابراهيم.. قبل يومين نشر أحمد بيضون تدوينة مهمة، جاء فيها: "لا أعرف من بقي على مذهب لينين، في ديارنا اليوم. من جهتي غادرتُ هذا المذهب قَبْلَ خمسين سنة! مع ذلك، وجدتُ أنّ هذا النصّ الواضح يُفترَضُ أن يخاطبَ أناساً غير قلائل حولَنا موزّعين بين مذاهب شتّى: محبّذين كانوا أم معادين للينين ولمذهبه. ومن مؤلف لينين الموسوم ب "مرض الشيوعيّة الطفولي"، ساق بيضون الاقتباس التالي: "القبول بدخول المعركة حين تكون المصلحةُ الواضحةُ فيها مصلحةَ العدو إنّما هو جريمة. والذين لا يعرفون كيف يزوغون ويهادنون ويساومون للتحاشي من معركةٍ ظاهرةِ المخالفةِ للمصلحة هم قادةٌ سياسيّون للطبقة الثوريّة مثيرون للشفقة." *** من يدري؟! (بيروت 23 أكتوبر 2024)