أدخلت لحظة استشهاد يحيى السنوار الملحمي القائد المشتبك التاريخ من أوسع أبوابه، كقائد يرتقي للشهادة وهو يواجه جحافل البغاة مواجهة مباشرة مستميتا في المكوث على ثغره رافضا الاستسلام خاتما حياته بما يليق بصلابته وبأسه حارما عدوه من أن ينتشي بلحظة ضعف أو انكسار من جهته حتى بعد أن أُنْهِكَتْ قواه وهو يصارع الآلة الإرهابية الجبارة بآخر ما تيسر له، لينسف كل حملات التشويه بحقه التي أظهرت ضحالتها أمام عظيم صنعه، حيث تحول إلى أيقونة وإلى ملهم لكل تواق للتحرير وللانعتاق من ربقة الظالمين. يبقى السؤال العملي هو كيف سيؤثر حدث اغتيال السنوار في الواقع الحالي بعد أن بصم عن مسار متفرد مختلف عن مسار باقي قيادات ومسؤولي المنطقة مما أهله لخلق زخم حوله لا مثيل له؟ وهل ستعتبر شهادته محطة فارقة في تاريخ التيار الإسلامي ليكون بمثابة سيد قطب جديد يبعث الكفاحية في صفوفه بعد أن تسببت البراغماتية المفرطة في العقدين المنصرمين في فتوره وذبوله؟ وهل سيتجاوز تأثيره دائرته التنظيمية والإيديولوجية؟ لا شك أن المقارنة بين سيد قطب ويحيى السنوار تعترضها إشكالات عديدة بالنظر إلى الظرفية التي عاشها كل واحد منهما وكذا باختلاف موقعيهما التنظيمي، حيث عاش صاحب الظلال في فترة ثورية تمجد التضحيات وتتسابق فيها التنظيمات والتوجهات المختلفة على إثبات علو كعبها في هذا المضمار، فيما واجه السنوار بيئة راكدة حتى على المستوى الفلسطيني تقبض فيها غزة لوحدها على جمر الثوابت رغم الحصار الخانق المطبق عليها. كذلك تميز سيد قطب في مجال التنظير بعد أن خلف إرثا مكتوبا مؤثرا فيما عُرِفَ أبو إبراهيم، رجل التنظيم الفذ، بممارسته العملية في أمن المقاومة وتبوئه أدوارا طلائعية في هرمية حركته وفي مجتمعها المقاوم في غزة وصولا إلى قيادة أعظم هجوم عربي على الكيان في السابع من أكتوبر. ومع ذلك فإن ما يجمع الرجلين أكثر مما يفرقهما، فكلاهما عانى من انسداد الأفق، فسيد قطب، الذي قضى معظم أيامه التي انتسب فيها للإخوان المسلمين في السجون، كان يبحث عن مخرج لتنظيمه ولدعوته المعتقلة مقدما روحه تزكية لنهجه ولمعالمه ومبشرا أنصاره بأن المستقبل لهذا الدين سيتحقق عبره، أما أبو إبراهيم فقد واجه وضعا أشد عصبية حيث لم يكن تنظيمه وحده مهددا بالتصفية بعد أن صدر الفرمان الدولي والإقليمي بوأد قضية بلده وأمته المقدسة، وقد اختط طريقا شاقا لإحيائها أشهد العالم به بصدق مقاله وفعاله. ثمة مسألة لافتة يشترك المناضلان فيها هي الجاذبية التي امتازا بها والناجمة عن برهان الصدق المقدم من طرفهما حتى سهل نفاذهما إلى الناس، فسيد قطب سحر الشباب بأسلوبه الرفيع الصادق الذي تأثرت به أجيال من التيار الإسلامي، وكم استثمرت الحركات الإسلامية مظلومية الرجل وكتبه من أجل استقطاب الشباب. أما السنوار فمنذ بروزه على الساحة بعد تحرره من المعتقلات الصهيونية، وهو في صعود صاروخي حتى بز أقرانه في السلم التنظيمي لحماس واستطاع أن يتجاوز دائرة تنظيمه إلى التأثير في اتجاهات أخرى رغم حدة الانقسام السياسي والإيديولوجي الحاصل في المنطقة، وهو اليوم استأثر بالصورة كزعيم يمضي على خطى كبار رموز حركات التحرر العالمي بعد صموده وشهادته الملحمية. المؤكد أن اجتراح توجهات جديدة في ظل سطوة السائد يشكل تحديا كبيرا، لذلك فإن الحديث عن التغني بالبطولات شيء والاقتداء بها شيء مختلف تماما، ونحن نعلم أن أكثر من يتغنى بالأناشيد الوطنية والقومية هم الانتهازيون والمتسلقون، فالمبالغة في الأسطرة تكون عواقبها أحيانا سلبية خصوصا حين يوضع الرمز في مرتبة الصنم الذي يصبح فوق البشر وفوق الاقتداء، وهي عملية خبيثة للدعوة إلى ترك نموذجه بحجة أننا قاصرون على البلوغ لمرتبته، وفي عصر التواصل الاجتماعي يستخدم هذا الأسلوب بكثافة فيصعد المؤثرون على أكتاف القضايا العادلة كأنهم هم أصحاب البطولات التي يمجدونها، ثم بعد أن يطمئنوا لخضوع أتباعهم وثقتهم العمياء بهم يقومون بهدم تلك النماذج أو تحريفها لتطوى صفحات أبطالها الحقيقيين الذين لا يتم تذكرهم إلا من أجل استغلالهم في مناسبات فلكلورية أو محطات تسويقية كمواسم الانتخابات. من هنا تظهر قوة سيد قطب الذي كان يمارس على قرائه أستاذية مباشرة تحول بين تجاوزه، وهو ما فطن إليه بعض الإسلاميين المتحولين الذي أعادوا صياغة مناهجهم لتنحية آثار قطب منها، ومنهم من حذر بوضوح أنصاره من قراءة كتبه. وبالنسبة ليحيى السنوار فليس من السهل إزاحة ملحمة استشهاده من الأذهان، وقدرته على إلهام الشباب ستتجذر لحاجتهم لقدوة تشبع روحهم المتمردة، وما ترويج صوره بكثافة من طرف شباب الألتراس إلا تأكيد على هذا الأمر، أما على مستوى التنظيمات الإسلامية فإنها على المدى القصير لن ترحب بأي تغيير يمس خطها الأردوغاني – الغنوشي، وستسعى لكبح أي مسعى لتأثر شبابها بالرجل بحجة أن أبا إبراهيم ابن بيئته ولا يمكن استيراد نموذجه. وبالنسبة لباقي التوجهات فهي لن تتخطى في أحسن الأحوال إكبار بطولات الرجل للتباعد الإيديولوجي بينها وبين فكر السنوار، فيما سيستمر عرابو التطبيع في التحريض على الرجل معتبرين إياه يشكل تهديدا على خطهم. لا بد من التأكيد على أن النهج الذي يقوم على استعلاء صاحب الحق وثباته وبذله الغالي والنفيس من أجل إحقاق العدل ورفع الظلم ونصرة المظلوم، كان في كل مكان وزمان، يملك من القوة ما يكفي لإزاحة التوجهات الانتهازية والانهزامية على الصعيد الجماهيري، لذلك فإن التيارات العاملة في الساحة وعلى رأسها التيار الإسلامي مضطرة، عاجلا أم آجلا، لتصفية تركتها السابقة، التي شكلت حاجبا بينها وبين الناس وأدت إلى ضمور صفها وتراجع تأثيرها الشعبي، إن أرادت العودة لعنفوانها، ولعل الدرس السنواري فرصة لإعادة الاعتبار للسياسي والمثقف المشتبكين مع واقع الشعوب وواقع الأمة العربية والإسلامية.