"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** *** ذفي منتصف ليلة السبت- الأحد (26-27 أكتوبر الحالي) صادف دخول لبنان فترة نهاية العمل بالتوقيت الصيفي واستبداله بالتوقيت الشتوي، إذ صدرت مذكرة رسمية من مجلس الوزراء اللبناني تعلن تأخير الساعة بمقدار 60 دقيقة. غير أن الواقع والحقيقة المظلمة تقول إن بلد الأرز لبنان بصدد مؤامرة خطيرة تدفعه إلى التأخر والتراجع إلى الخلف والوراء بسنوات وعقود، وليس فقط ب 3600 ثانية، مجموع 60 دقيقة التي تفيد ساعة واحدة.. إن يوم القيامة يختصر التعبير عنه ب"يوم الساعة".. وقلب لبنان اليوم ينبض على تكات هذه الساعة المهولة والرهيبة. اليوم يستهدف العدوان الإسرائيلي على لبنان، وبشكل متزايد البنية التحتية العسكرية لحزب الله، لمنعه من إعادة البناء وإعادة تسليح نفسه بعد الحرب، وضمن هذه الأهداف العسكرية يقع استهداف البنية المالية لحزب الله ومؤسساته الاقتصادية، وفق تصريحات كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين.. غير أن إسرائيل تستهدف في الحقيقة لبنان وشعبه بأكمله، مثلما فعلت ولا تزال في غزة، إذ يعمل الجيش الإسرائيلي على توسيع الحرب في بلد الأرز من خلال إلغاء مدن وقرى كاملة ومحوها من على وجه الأرض والخريطة، في قرى الشريط الحدودي وتتجاوزها إلى النبطية وصور والجوار… ومن أجل تحقيق أهدافها بحجة تأمين أمن مستوطناتها وتواصل اعتداءاتها الهمجية وتدمر المباني السكنية بصواريخ متطورة تملكتها حديثا، وتواصل ضرب البنية التحتية البلدية وغيرها من البنى المدنية ولعل أخطرها ضرب المستشفيات، ومع استمرار الضربات الجوية ضد منطقة الضاحية الجنوبية، وإلقاء الصواريخ التي يحافظ الطيران الحربي على انتظام إيقاعها، انتقاما من كل ما يرمز إلى حزب الله، وليس بحثا عن مخازن أسلحة أو أموال مدفونة تحت الأرض فقط.. هناك اليوم ما يقرب من نصف سكان لبنان في حالة فرار وتشريد، والنازحون لا يعرفون ماذا يفعلون.. وما شكل نهارهم الموالي.. هل أحياء يتنفسون، أم قتلى وأشلاء تحت الأنقاض.. فلا أمن أو أمان في أي مكان.. حتى التي يخيل لبعضهم إنها ستكون آمنة لكن غارة مفاجأة تستهدف شخصا مشكوكا بأمره من قبل الجيش الإسرائيلي يعتبر كافيا ليجعل الخطر في كل مكان.. لحصد المزيد والمزيد من الضحايا كل يوم. أحيانا يبدو الأمل عند بعض اللبنانيين في التوصل إلى وقف لإطلاق النار حتى يتسنى في النهاية تشكيل حكومة جديدة وانتخاب رئيس جديد، ثم سرعان ما ينطفىء مع التصريحات التي تعيد كل شىء إلى نقطة الصفر ليعود اليأس يتحكم في يومياتهم. في كل يوم يمر تكبر المخاوف وتزيد لدى الناس من أن البلاد قريبا لن يصبح بمستطاعها أن تكون قادرة على التعامل مع هذه الكارثة التي تخلف المزيد من الضحايا.. وليس هناك في الأفق مجال للاسترخاء، بل على العكس من ذلك، فإن إسرائيل ترفع من عدد غاراتها الجوية مع احتداد المواجهة مع المقاومة في الجنوب، ووصول صواريخ حزب الله إلى داخل دولة الاحتلال وإيقاع أضرار مادية وبشرية بالعدو.. *** وبالرغم من حالات اليأس والاكتئاب التي ستصادفها لدى النازحين القادمين من جنوبلبنان، إلا أنه ستتعجب أكثر من الإرادة التي لم تقهر لدى بعض هؤلاء الذين يعودون إلى منازلهم لتفقدها، كيف لم يأخذ منهم اليأس والضياع تصميمهم على العودة، وربما يختار بعضهم البقاء إن وجد احتمال ضيئل لعدم تهدم منزله كليا.. رغم الغارات والقنابل والصواريخ والموت الذي يرافق تحركهم مع كل خطوة.. وفي الجنوب يظل الأطباء وأطقم التمريض، من ممرضات وممرضات، مرابطين في المستشفيات الباقية تحت الخدمة والتي لم تدمرها القوات الإسرائيلية.. ليضاف هؤلاء إلى كتيبة الشجعان الذين يحافظون على بقاء لبنان على اتصال بالعالم الخارجي عبر مطار رفيق الحريري الدولي على الرغم من القصف… وأعني بهم ربابنة شركة الطيران اللبنانية "الميدل إيست".. *** في سياق المواجهة بالسخرية، استقبل بعض اللبنانيين نهاية التوقيت الصيفي بالتنكيت وبالتفكه، كجزء من مقاومتهم السلمية للظروف المأساوية التي يعيشونها ويمر منها بلدهم. في هذا الصدد نشر مواطن لبناني تدوينة مقتضبة على حائطه في الفيسبوك، كتب فيها: رجاء.. ليبلغ أحد منكم أفيخاي (الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال) أن الليلة تم تقديم الساعة. "مش يقعد يطج إنذارات عالتوقيت الصيفي". *** التعليقات على الرد الإسرائلي ضد إيران، والتي انتشرت كثيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، أجمع معظم أصحابها على أن الرد لم يتجاوز كونه "مسرحية" متفق عليها. وسأل فيسبوكي لبناني ساخرا: "وقفت هون المسرحية ولا في مشاهد ثانية!؟". ومجمل تعليقات المدونين اللبنانيين بهذا الصدد يمكن اختصارها في ما يلي: إسرائيل أعلمت إيران أنها ستضربها الليلة الماضية. وأعطتها الموعد الدقيق. وخريطة الاستهدافات. ووضحت لها الأهداف العسكرية الهامشية التي ستضربها والأخرى التي لن تضربها. وأكدت لها أنها ستتجنب ضرب الحقول النفطية والمواقع النووية. وطلبت منها أخذ احتياطاتها. وطلبت إسرائيل من إيران عدم الرد على ضرباتها لأنها لا تريد توسيع الحرب معها. ولم تؤد الضربات الإسرائيلية إلى أي نوع من الخسائر البشرية أوالمادية الإيرانية. حتى أن بعض الإيرانيين لم يشعروا أنه تم الهجوم عليهم. ويتشككون في ذلك. إضافة إلى أن إسرائيل خططت هجومها بما يسمح في مساعدة إيران بإنكار الضربات أو إخفاءها. الاحتلال يقول إنه ضرب 20 هدفا. وإيران تقول أنه ضرب 3 أهداف فقط. هجوم شديد في الداخل الإسرائيلي على نتنياهو بسبب الرد الضعيف، الذي أضاع به فرصة كبيرة لردع إيران. رغم تضخيم فريق نتنياهو حجم الضربات. أرسلت إيران رسالة عبر طرف ثالث مفادها أنها لن ترد على الهجوم الإسرائيلي. وأن الاحتلال طلب من إيران ذلك مسبقا. وقد توافق مضمون هذه الانتقادات التي عمت لبنان وفلسطين وباقي البلاد العربية، مع ما صدر عن منتقدين إسرائيليين، بل إن وصف الرد الإسرائيلي ب "المسرحية" جاء متطابقا هنا وهناك؟ *** لا أعرف لماذا يتم إقحام المسرح في مثل هذه الوقائع العسكرية الحربية، ويضرب المثل بالمسرح من زاوية القدح والفضح والسخرية والامتعاض والابتذال؟! في الوقت الذي يعد فيه المسرح هو أب الفنون؟! المسرح احتفال وعِيدٌ، وفق ما ينظر له منذ حوالي نصف قرن صديقنا المبدع الكبير عبد الكريم برشيد، الذي لا أعتقده سيكون راضيا عن الزج بفن المسرح في أعمال الإبادة وجرائم قتل البشر… إن الإبداع عموما، والمسرح أساسا، من الفنون التي تحرض على البقاء وعلى مواصلة الحياة… الإنسان هو جوهر المسرح وأساسه وعماده وبقاؤه.. والإساءة إلى رمزية المسرح كفن وكإبداع إنساني، هو إساءة للإنسانية وتدمير للحضارة بالمعنى الأوسع. ربما علينا أن نسأل ماذا فعلت الحرب بالمسرح في لبنان؟ ماذا يعمل الممثلون والكتاب والمخرجون المسرحيون اللبنانيون اليوم في ظل الحرب؟ من الطبيعي أن تحول الحرب دون إنتاج أعمال مسرحية.. وبالتالي دون ذهاب الجمهور إلى المسارح.. لكن الفنانين اللبنانيين صامدون مع أهلهم وشعبهم.. وعلى شفاههم المونولوج المركزي لهاملت: "نكون أو لا نكون"… لا يمكن للفنان الحقيقي أن يتنكر لبلده أو يمارس لعبة الحياد أثناء الفترات الصعبة ووقوع العدوان ضد شعبه وضد أبناء بلده.. فنانون لبنانيون ألغوا ارتباطاتهم الفنية ومشاركاتهم في مهرجانات عربية وأجنبية بسبب الأوضاع التي يشهدها حاليا لبنان.. الفنانة الممثلة أنجو ريحان التي قدمت في الفترة الأخيرة عملا مهما من تأليف وإخراج الشاعر والمسرحي يحيى جابر، تركت خشبة المسرح وكواليسه، لتركض على ركح المسرح الأكبر.. تحولت إلى ناشطة مدنية، وكل يوم ترفع الستارة القاتمة ليرى العالم مشاهد الرعب والارتباك في الحاضر اللبناني، مشاهد مسيطرة، أكثر درامية من الدراما نفسها، تتحرك أنجو ريحان شمالا ويمينا من أجل مساعدة النازحين.. وهو الأمر غير الجديد على هذه الفنانة الملتزمة.. في مسرحيتها الأخيرة كان العنوان: سؤالا عماذا سنلبسه؟ (شو منلبس؟).. كان السؤال ساخرا واستفزازيا أكثر منه استفهاميا.. اليوم لبنان كله يسأل العالم ويسائله عماذا يلبسه الآن وهو يتفرج على القتلى والجرحى، وعلى تدمير المنازل فوق رؤوس أهلها المدنيين الأبرياء.. يلبس العالم الآن نظارات سوداء لا تفضح شيئا، مثل "جوق العميين" المزيف في الأعراس القديمة المغاربة.. في انتظار ارتداء لباس الحداد على لبنان والبكاء عليه بدموع التماسيح.. وإن كانت دموع التماسيح ليست مسرحية.. (صباح الأحد 27 أكتوبر 2024)