تأجيل أولى جلسات محاكمة طلبة الطب والأطباء الداخليين    فرنسا-المغرب.. كيف يتداخل البعد السياسي بالثقافي والاقتصادي ضمن نسيج من المصالح والامتيازات المشتركة؟    حقوق الإنسان: الأمين العام للأمم المتحدة يبرز تميز تعاون المغرب وتفاعله مع الآليات الأممية    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم..    اتحاد طنجة يواجه الزمامرة لاستعادة الصدارة والوداد في ضيافة "الكوديم" لمواصلة الصحوة    الجيش الملكي يستنكر تحكيم مباراة الرجاء ويدعو لتحقيق فوري    مثول طلبة الطب أمام المحكمة اليوم وتأخير ملفهم الى 20 نونبر    الصيد في المحميات بين أبرز المخالفات المضبوطة خلال موسم القنص حتى 20 أكتوبر    شيرين عبد الوهاب: أول فنانة عربية تكتب اسمها في موسوعة غينيس    "لوبوان": هل أساءت المحكمة الأوروبية استخدام القانون بإبطال اتفاق الصيد بين الاتحاد الأوروبي والمغرب؟    "أوكسفام": المغرب يحرز تحسنا في "مؤشر الالتزام بتقليل عدم المساواة" بفضل زيادة الإنفاق العمومي في أعقاب زلزال الحوز    المؤسسات والمقاولات العمومية: رسوم شبه ضريبية متوقعة تناهز 6 مليار درهم برسم 2024    الأول بإفريقيا والشرق الأوسط.. تدشين مركز ابتكار ل"نوكيا" بالمغرب    إسرائيل تشن غارات على مدينة صور بجنوب لبنان ووزيرة خارجية ألمانيا تصل بيروت    إيران: إعدام أربعة أشخاص بسبب بيع مشروبات كحولية مغشوشة    جنود إسرائيليون يطلبون إنهاء الحرب    لجنة الخارجية بمجلس الشيوخ الإسباني تدعو إلى الضغط على المغرب لإعادة فتح الجمارك في مليلية    أخنوش يؤكد زيادة حصة الجماعات من مداخيل الضريبة على القيمة المضافة    أبطال أوروبا.. حكيمي ينقذ "PSG" من الهزيمة وفينيسيوس يقود الريال لريمونتادا تاريخية    البرلمان يؤجل مناقشة قانون الإضراب    السيد غوتيريش يشيد باحترام المغرب لوقف إطلاق النار وبالتعاون النموذجي للقوات المسلحة الملكية مع المينورسو    "ّلجنة حماية الصحفيين": فرحة بوعشرين والريسوني والراضي لم تدم طويلا ويواجهون عبء الإدانات بعد إطلاق سراحهم        الدورة الثامنة لتحدي القراءة العربي تتوج ممثلي ‬فلسطين والسعودية وسوريا    منظمة الصحة العالمية تعلن تعليق حملة التطعيم ضد شلل الأطفال في غزة    كيوسك الأربعاء | المغرب يرصد أزيد من 200 مليار سنتيم لتطوير الجانب الرياضي    طنجة.. تفاصيل اعتقال شخص بتهمة النصب وانتحال صفة مسؤول أمني وتزوير وثائق رسمية    ارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات قياسية بسبب التوترات العالمية    19 يوما من إبادة شمال غزة.. إسرائيل تواصل القتل والحصار والتطهير    آلاف الفنانين والكتاب يبدون في عريضة قلقهم من الذكاء الاصطناعي    اَلْحُبُّ الْمَمْنُوعُ!    حكّام الجزائر، يتامى "الاستفتاء"... يغمغمون    تحديات عالمية ورهانات مستقبلية    المغرب الثقافي .. حب واحتراق    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمغرب    وفاة وحالات تسمم ببكتيريا في أحد منتجات "ماكدونالدز"    تغييب الأمازيغية عن تسمية شوارع العروي تجلب انتقادات للمجلس الجماعي    توقيف 3 أشخاص متورطين في قضية إلحاق خسائر مادية بممتلكات خاصة وحيازة السلاح الأبيض    كمال كمال ينقل قصصا إنسانية بين الحدود المغربية والجزائرية في "وحده الحب"    قمة الجولة السابعة بين الجيش والرجاء تنتهي بالتعادل    تعادل الرجاء والجيش بالدوري الاحترافي    رئيس الفيفا يشكر المغرب على استضافة النسخ الخمس المقبلة من كأس العالم للسيدات لأقل من 17 عاما    منتخب الشاطئية ينهزم أمام مصر (2-3)        المستوطنون يقتحمون الأقصى في رابع أيام "ما يسمى عيد العرش"    النصر للشعب الفلسطيني وكل المدعمين له ..    رحيمي الأعلى تنقيطا في قمة الهلال والعين        شبهات حول برنامج "صباحيات 2M" وإدارة القناة مطالبة بفتح تحقيق    إعادة تأهيل مرضى القلب: استعادة السيطرة على الصحة بعد حادث قلبي    المكسرات صديقة المصابين بداء السكري من النوع الثاني    الأولمبياد الإفريقية في الرياضيات.. الذكاء المنطقي الرياضي/ تتويج المغرب بالذهبية/ تكوين عباقرة (ج2) (فيديو)    وهي جنازة رجل ...    رحيل الفنان حميد بنوح    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كشف الغمة لعبد القادر الكردودي
نشر في لكم يوم 23 - 10 - 2024

كثير من الكتابات التي تناولت موضوع الإصلاح العسكري في القرن التاسع عشر حُققت وأصبحت متوفرة بين أيدي الباحثين، وقد لاحظت من خلال تتبعي للدراسات التي أنجزت في هذا المجال أنها تتقاطع كثيرا في النتائج والخلاصات، فقد جعلت هذه الأبحاث الأكاديمية من فقهاء القرن التاسع عشر ممن ألفوا في موضوع الإصلاح العسكري والجهاد شخصيات واعية بتحولات الفترة، وتم تمجيد هذه الكتابات باعتبارها تتضمن أفكارا جديدة، بينما التمعن الدقيق في مضامين هذه المتون يؤكد أنها لم تتجاوز التصور التقليدي لمفهوم الجهاد، ونخص بالذكر كتابات الكردودي والفلاق وابن عزوز.
نأخذ على سبيل المثال كتاب كشف الغمة في ببيان أن حرب النظام حق على هذه الأمة للكردودي نموذجا.
لا أصالة في هذا الكتاب الذي يتشكل متنه الكامل من اقتباسات عن الكتابات الفقهية التقليدية، فحتى عناوين أبوابه العشرة مأخوذة بالحرف من كتب السابقين.
مما يتكون متن الكردودي إذن؟ إنه عرض ممل لأقوال السلف، وهو أمر لا نتلمسه في التحقيقات التي تناولت هذا الكتاب خاصة التحقيق الذي أنجزه باحث يدعى مراد بنجلون، إذ كان موضوعه لرسالة الدكتوراه دراسة وتحقيق كتاب كشف الغمة.
بسبب الجهل الكبير للباحث المذكور بمضامين الكتابات الفقهية السابقة التي تناولت موضوع الجهاد لم يتنبه إلى أن الكردودي في كتابه المذكور إنما ينقل أفكار القدماء دون أن يشير للمصادر التي استقى منها، والمحقق لقلة باعه المعرفي يعتقد أن هذه الأفكار من بنات الكردودي، فيعلق عليها ويثمنها ويجعل منها قرائن على تفكيره الحداثي، بل يقدمها باعتبارها أفكارا جديدة تطرح لأول مرة في تاريخ المغرب، بينما هي أحكام نقلها عن آخرين.
أي باحث نبيه لو تفحص وتمعن في مؤلفات السابقين التي تناولت قضايا الجهاد والسياسة الشرعية ثم قرأ كتاب الكردودي لتبين لهم عقم الكتاب وجمود العقل المغربي في القرن التاسع عشر.
نادى الكردودي بتجديد الجيش المغربي دون أن تكون له معارف دقيقة بالمجال، وإشارته الى الكرطي (البرلمان بالإسبانية) في كتابه لمرة واحدة لا يعني بتاتا تلويحه باعتماد النظام البرلماني في المغرب كما زعم الباحث، فهو–أي الكردودي– كان يجهل تماما الطريقة التي تشتغل بها هذه المؤسسة في أوروبا. ولا يعبر تأليف الكردودي عن أي انفتاح اتجاه الآخر كما حاولت دراسة دراسة بنجلون أن تثبت، بل إن الكردودي في كتابه موغل في التقليدانية لدرجة كبيرة جدا، بل إنه يعتبر نموذجا للعقل الفقهي المتزمت الذي لم يفهم عصره، ولم يستوعب تحولاته، وكتابه حرب النظام دليل على هذا، فهو كتاب لو حذفت صفحاته الأولى لظننت أنه كتب في القرن الثالث بعد الهجرة.
يتساءل بنجلون: من أين استقى الفقيه الكردودي مجموعة من المعلومات عن الحداثة في أوروبا؟
أين هي المعلومات المتعلقة بالحداثة في نص كشف الغمة، لاشيء منها في هذا النص الجامد. فقط أشار إلى كلمة الكرطي، وهي كلمة اسبانية تعني البرلمان، واللفظة كانت متداولة في صفوف المغاربة خاصة في طنجة الدولية التي اشتغل فيها الكردودي وكانت مقرا للهيأة الديبلوماسية، كما وردت لفظة الكرطي والبرلمان مرارا في المراسلات بين القناصل الأوروبيين والمخزن خلال القرن التاسع عشر لكن الباحث يجهل تماما هذه المعطيات.
لم يستعمل الكردودي لفظة البرلمان أصلا، بل استعمل لفظة الكرطي المتداولة بالمغرب كما ذكرنا، وهو لا يعرف ما المقصود بهذه المؤسسة أصلا، ولا يمتلك أي تصور عن طرق الاشتغال بهذه المؤسسة العريقة، بل فكرته عن هذه المؤسسة ساذجة جدا، ففي تصوره هي اجتماع أشخاص للتشاور، وحصرهم عدديا في أربعين، وهو أمر غير صحيح.
وردت لفظة الكرطي عند الكردودي في معرض حديثه عن مشورة ذوي الرأي، وتطرق إلى شروط المستشار وصفاته، وحقوق المستشار والمستشير، وهو ما يعني أن تصوره تقليدي للموضوع.
لقد أعطى بنجلون لهذه الفقرة معاني أكبر وأشمل مما تستحق، فكتب قائلا "تتناول – أي الفقرة– المشورة بمفهومها السياسي أي النظام الديمقراطي، لتنتقد نظام الحكم الانفرادي، وتلوح بأهمية نظام الحكم البرلماني التشاركي من خلال نموذجين: الروم والترك".
لم يستخدم الكردودي بتاتا لفظة الديموقراطية، ولا نظام الحكم الفردي، ولم يستخدم لفظة نظام الحكم البرلماني التشاركي، وهل تركيا كانت دولة ديموقراطية في هذه الفترة وتعتمد النظام البرلماني التشاركي؟
إننا هنا أمام تأويلات تعبر عن جهل تام بالسياق التاريخي وبفكر الكردودي، فعن أي ديموقراطية يتحدث عنها بنجلون على لسان الكردودي رحمه الله.
أن يعتبر ببنجلون ذكر الكردودي لفظة الكرطي المتداولة رسالة مضمرة إلى السلطان محمد بن عبد الرحمان لاعتماد نظام برلماني ديمقراطي على غرار أقوى الدول العالمية آنذاك إنما هو قصور في فهم النص والسياق والفترة، وهو يعبر عن ما نسميه في التاريخ بالمفارقة التاريخية.
يتحدث بنجلون عن يقين الكردودي بأن تفوق أوربا يرجع عموما إلى نظامها السياسي، القائم على سلطة القانون، والضامن لمشاركة أوسع في تسيير شؤون الحكم، وأن تأخر نظام الحكم المخزني راجع أيضا إلى طبيعة نظامه السياسي، القائم على الانفراد بتسيير شؤون الحكم دون مشاركة ذوي الرأي. حين قرأت كتاب كشف الغمة لم أجد أي فكرة من هذه الأفكار فيه، وإنما هذه أفكار تنتمي إلى زمن لاحق ألصقها بنجلون قسرا بالكردودي ونسبها إليه دون علمه، وهنا يمكننا الحديث عن إسقاط الباحث مفاهيم القرن العشرين على فترة النصف الأول من القرن 19م، مما يؤكد سقوطه الساذج في المفارقة والوهم التاريخي.
والغريب أن مراد بنجلون يتحدث عن تلميح الكردودي للسلطان بضرورة اختيار أعضاء مجلس الشورى، وإثبات رواتب محترمة لهم، تغنيهم عن الانشغال بوظائف أخرى، ونحن نتساءل بنمطق الباحث: كيف يستقيم أن يختار السلطان أعضاء مجلس الشورى، الذي زعمت أن الكردودي يقصد به البرلمان، مع أن هذه المؤسسة تقوم على الانتخابات لا على التعيين، فهل هناك برلمان في العالم يعينه السلطان؟
كما أن الكردودي لم يتحدث عن مجلس الشورى أصلا، بل تحدث عن اختيار أشخاص يستشيرهم السلطان، وهذه ممارسة موجودة دائما في التاريخ الإسلامي، فلكل خليفة مستشارين، ولا علاقة للموضوع من قريب أو بعيد بمؤسسة البرلمان المبنية على الانتخابات والتصويت، لكن مراد بنجلون إنما هدفه إنجاز بحث الدكتوراه ولا يهم منطق التاريخ ولا المعرفة التاريخية التي كانت الضحية الأولى في هذا البحث الذي جعل من الكردودي شخصا معاصرا لنا.
هل الإشارة إلى وجود الكرطي في أوروبا دون فهم آلياته وسياقه يعد قرينة لوصف مؤلف كشف الغمة ب "الكتاب التقدمي" وبكونه يتضمن تصورا شموليا للإصلاح؟
اعتبر حميد الصولبي في كتابه نظرية التحديث في الفكر المغربي كتاب كشف الغمة مهما جدا بالنظر إلى دعوته لتأسيس شمولي لمفهوم النظام في الجيش والإدارة، لكننا حين قرأنا الكتاب لم نقف عن أي تصور ولو عابر طرحه الكردودي في مجال تنظيم الإدارة بالمغرب، فلم هذه المبالغات والتعسفات التأويلية، وبالمناسبة فقد وقفت في دراسة أكاديمية ثالثة منشورة اعتبر فيها الباحث أن السلطان عبد الرحمان كان صاحب مشروع نسقي في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الكرامة، بل ومحكوم بهواجس الوحدة العربية والاسلامية. إنه نوع من التماهي الذي يؤدي للسقوط في المفارقة التاريخية دون وعي.
اعتبر بنجلون فكرة الاستعداد التي دعا إليها الكردودي قبل الجهاد فكرة جديدة، ودليلا على الفكر الحداثي عند الكردودي، بينما هو ردد فقط ما هو متوفر في مصادر التاريخ الإسلامي قديما.
ظن بنجلون بسبب فقر معارفه بالكتب الفقهية وكتب الآداب السلطانية أن الكردودي اكتشف فكرة الاستعداد لأول مرة وكأنها كانت مجهولة قبله؟ وبنى على ذلك تأويلات ساذجة وخرج بخلاصات واهية منها أن الكردودي يمثل الشخصية الحداثية المستوعبى للعصر.
يكفي أن نلقي نظرة على عناوين أبواب ة كشف الغمة لنقف على ضحالته الفكرية، فالعناوين كلها منقولة بمضامينها من كتب فقهاء سابقين.
أكد مراد بنجلون في بحثه أن لا أحد –حسب علمه– تحدث عن النظام البرلماني ولو تلميحا في القرن التاسع عشر إلا الكردودي، وهذا استنتاج غير سليم وسنبين مدى تسرعه في إصدار حكم دون أن يكون قائما على سند قوي.
لقد استعمل اللفظ أي البرلمان في كتابات كثيرة خلال فترة القرن التاسع، لكن الكسل المعرفي وقلة الاطلاع على الوثائق والمصادر هو الذي يجعل أمثال هؤلاء الباحثين يغوضون غمار البحث دون التمكن من أدواته.
على سبيل المثال الصفار في رحلته تحدث عن البرلمان دون أن يسميه بهذا اللفظ، وذلك في الفقرة التي تحدث فيها عن القمرة، كما وردت لفظة البرلمان بهذا الاسم في رسالة السفير الأمريكي الى الوزير بركاش خلال القرن التاسع عشر حيث خاطبه قائلا: "وأما قولك (يقصد بركاش) على رعية الترك، فغير خاف عليك أن الترك عندهم بَّرْلُمَنْطِ المسمى بالعربية الديوان (…) وعندهم جميع الشهادات الواقعة من المسلم واليهودي والنصراني كلها واحدة ولا فرق فيها. ومراكش لا ديوان لها ولا برلمنط عندها"، كما ورد وصف دقيق لطريقة وصف انتخاب رئيس فرنسا من مؤرخ مغربي خلال القرن التاسع عشر حيث يقول: "وَكانَتْ عادَتُهُم عِنْد إرادَتِهِم نَصْبَ السُّلْطَانِ أَنْ يُسَمُّو ثلاثَةً وَيَرْسُموا اسْمَ كُلِّ واحِدٍ في دِفْتَرٍ وَيُعْطُونَهُ لِأَهْلِهِ وَيَطُوفونَ بِهِ، فَمَنْ رَضِيَ بِسَلْطَنَتِهِ يَضَعُ اسْمَهُ، وَيَعْمَلونَ بِالآخَرينَ كَذِلِكَ وَتَطوفُ كُلُّ طائِفَةٍ بِدِفْتَرِ صاحِبِها؛ حَتَّى يَتِمَّ جَميعُ الجِنْسِ رِجَالاً وَنِسَاءً، فَمَنْ رَضِيَ أحَداً فَلاَ يَرْضى الآخر، فَإِذا تَمَّ الجِنْسُ عَدُّوا التَّوْقيعاتِ، فَمَنْ كَثُرت تَوْقيعاتُ النَّاسِ بِرِضاهُ يَكُونُ مَلِكا، كما تحدث هذا المؤلف في كتابه عن طريق تدبير مجلس الديوان الفرنسي للأمور في لِيَتَداوَنُوا في قضية العملة المزورة.
كيف يجزم بنجلون أن الكردودي الوحيد استعمل لفظ البرلمان في مغرب القرن التاسع عشر وهو لم يكلف نفسه الجهد للبحث والتنقيب؟ وها نحن أمام ثلاثة مصادر تبين لنا العكس مما ذهب إليه.
إن أول ما يُثيرنا في كتاب الكردودي العنوان الصادم كشف الغمة في أن حرب النظام حق على هذه الأمة، والمثير للانتباه أن قضايا الكتاب مفارقة للواقع وطوباوية حسب الأستاذ العروي، بل وتتميز بالضحالة الفكرية والقصور عن فهم المستجدات، وغياب المعلومات التاريخية عن فترته، إذ لا نجد أي إشارة إلى وقائع حربية معاصرة، بل المماثلة والقياس عنده تستند إلى استحضار حروب الجهاد الأولى والفتوحات التي حدثت في أيام حكم الخلفاء الراشدين وخلال فترة الأمويين والعباسيين، فالمماثلة إذن غير قائمة مع واقع الحروب المعاصرة التي تختلف بشكل مطلق على أشكال القتال في الماضي.
بمجرد معرفة المصادر التي اعتمدها الكردودي نتلمس مفارقة منهجية صريحة، فالكتاب كله اقتباسات وتلخيصات للمصادر الكلاسيكية، ولا إشارة فيه للمستجدات الوقتية، فبعد التقديم مباشرة يسبح القارئ في سرديات للأحاديث والقصص بصيغ بلاغية تنتمي كلها للماضي البعيد. إننا بحق في كتاب كشف الغمة أمام عالم تقليدي يتوجه بخطاب متداول إلى رفاقه العلماء ويخاطبهم من داخل المنظومة الفقهية، وهم يشتركون معه في نفس القناعات، إذ لخص لهم ما ورد في المصادر الكلاسيكية وركز على شروط من قبيل العدل والورع والشجاعة والحيلة والإيمان الراسخ، فحين تقرأ الكتاب تجده سردا للأحاديث والحكايات التي لا تقنع أي جندي عاقل في زمانه.
يُشيد الكردودي بالجهاد ويدعو له دون فهم الأسباب العميقة لضعف الجيش المغربي وقوة جيوش الأمم الأوروبية وهذا ما تفطن له الأستاذ العروي في أطروحته.
في موضوع النظام وإثبات الصف في القتال، نجد أن اقتباسات الكردودي كلها مستقاة من ابن خلدون، ولا جديد في هذه الفكرة التي كانت معروفة سابقا، فهي لا تعدو أن تكون تكرارا رتيبا لقناعة قديمة لكن مراد بن جلون يجعل من هذه الفكرة دليلا على الفكر التحديثي عند الكردودي.
جميع أبواب كتاب الكردودي تستند إلى الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين الواردة في كتب الآداب السلطانية، والملاحظ أن محتويات كتاب كشف الغمة لا تغني معرفيا ولا تاريخيا بأي شيء، كما أنها لا تُضيف للتراكم السابق أي جديد، بل نحن أمام مصنف لا يختلف عن المصنفات التي كتبت في القرون الإسلامية الأولى.
لقد ظن الكردودي في بداية الأمر أن قوة الجيش تتأتى من تنظيمه وليس من شيء آخر غير ذلك، وبالتالي حملت الألفاظ كالنظام وحرب الصف أكثر مما تحتمل، وبدت لمستعمليها وكأنها وصفات سحرية، والواقع أن قتال الزحف في شكل صفوف متراصة وإن حصل فالجيوش المغربية لم تكن لتنتصر على الجيوش الاوروبية.
لا مؤشرات تدل أن الفقهاء ممن استشيروا فهموا الإصلاح العسكري الذي يستوجب تدابير اجتماعية وفكرية لا محيد عنها، فلا أحد منهم قرأ أو استوعب أو ناقش، وبالأحرى ترجم وأنتج مؤلفات في مواضيع الأصول الاجتماعية للجيش، وتاريخ الحروب، وتطور السلاح، واستراتيجية الحرب وتكتيكاتها، وأساليب القتال، وتقنيات المدفعية والتحصن.
ما قرَّره الكردودي عن المدافعة والجهاد لم يتجاوز فيه مفاهيم العصر الوسيط، لكن "الباحث "مراد بنجلون تعامل مع نص كشف الغمة على أساس مختلف، فاستخرج منها ما ليس فيها من أفكار وحمله ما لا يحتمل وقال على لسان صاحبه ما لم يقله.
إن نصيحة الكردودي ودعوته ولاة الأمر إلى ضرورة حرب الصف ليست بشيء جديد ولا باكتشاف حديث بل هي فكرة نقلها عن ابن خلدون وغيره، ثم إن الحرب ظاهرة اجتماعية شأنها شأن التجارة والسياسة هذا ما يؤكده المؤرخ العسكري كلاوزفيتش في كتابه عن الحرب والتخطيط العسكري والذي يدرس في الأكاديميات العسكرية الأوروبية، فلو فحص الباحثون الأكاديميون مؤلفات السابقين في قضايا الجهاد والسياسة الشرعية، ثم قرأوا الكردودي لتبَيَّن لهم عُقم الكتاب وجمود العقل المغربي في القرن التاسع عشر.
ما الذي يقوله الكردودي عن الحرب وعن المدافعة ؟ ماذا يوجد في متنه عن هذه المسألة؟
لا توجد أي مادة معرفية عن نظريات الحرب في كشف الغمة، وحتى العموميات غير متوفرة في هذا المتن القاحل.
تمثل دراسة بنجلون لنص كشف الغمة نموذجا لنوع من الأبحاث المفارقة للواقع المدروس، وتتضمن تأويلات وتعسفات تؤدي إلى تقديم صورة خاطئة عن الواقع المدروس، فالنص في واد والدراسة في واد آخر، كما أنه يتضمن الكثير من السرقات العلمية خاصة من كتابات الدكتور أحمد العماري، فقد انتحل من أطروحته عن الحدود من خلال رحلة علي بن محمد السوسي السملالي ومن كتابه نظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار : المغرب نموذجا، وسنعود لهذه السرقات العلمية والانتحالات في قراءة أخرى ستنشر قريبا، ويكفي معرفة اسم المشرف على هذه الدراسة للتأكد من أن القاعدة في البحوث غدت البلاجيا وسرقة الأفكار وتبنيها واعتمادها.
بدون نقد تاريخي للأعمال المطبوعة لا شك سيتراكم الإنتاج الغث ليصبح هو القاعدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.