قوة الدول هي في قُوة وصَلابة مُؤسساتها الديمقراطية، التي تَضمن حُكم ومُشاركة الأغلبية عِوض الأقلية في صُنع القرار، وتَستند إلى مبادئ الشفافية والمحاسبة والتدبير الرشيد لمواردها الطبيعية والبشرية، و منح مواطناتها ومواطنيها هامش مُريح من الحقوق والحُريات الأساسية، وكبح جماح الفساد المستشري في دواليب الدولة والمجتمع. المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كانت تحت مجهر دراسات مُعمقة من طرف باحثين أكاديميين هُم دارون أسيموغلو وسيمون جونسون، الأستاذين فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجيمس روبنسون الأستاذ فى جامعة شيكاغو، انتهت بتتويج إنجازاتهم القيمة لنيل جائزة نوبل في الاقتصاد برسم سنة 2024. باحثون عَكفوا على تَشريح أدوار المؤسسات وتاريخ تطورها منذ فترات الاستعمار، واضعين جُملة من التفسيرات والتحليلات والبيانات حول مدى تقدم وفشل نماذج تلك المؤسسات الاقتصادية وتداعياتها على الشعوب. تم وضع مقارنات بين الدول سعيا لتوضيح مستوى التفاوت في العائدات والثروات فيما بينها، وصيغت حُزمة من الخلاصات تفيد أن الدول التي اختارت مسار تطوير مؤسساتها في احتضان الجميع تحت مظلتها بالرعاية الكافية وضمان سُبل حماية الحقوق ودعم المشاركة والمنافسة الشريفة، تحصد تنمية مستدامة لفترات أطول، بينما أخرى جنحت على درب التحيز لدوائر ضيقة لنخب من ذوي الجاه والحظوة والحسب والنسب، واغداق أرصدتهم بالمَكرمات والتسهيلات بغية تيسير إثرائهم السريع والفاحش، وتيسر احتكارهم للأسواق ونهبها، وترك الفُتات لعامة الناس، مُغرية إياهم بوعود لرفاه مُعلق على أوهام المستقبل، فقد كان مصيرها الفشل الذريع. على هذا الأساس فقد ميز أسموغلو وجونسن في كتابهما "لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر" الصادر سنة 2012، بين نوعين من المؤسسات، مؤسسات استخراجية همها استخراج الثروات على اختلافها من سطح وباطن الأرض ومن صلب المجتمع لصالح الأقلية تكريسا لتركيز السلطة والثروة، ومؤسسات شاملة تُشرك الجميع وتوفر فرصا متساوية للوصول للموارد وتوزيعها بشكل عادل، يؤدي إلى ازدهار المجتمع وقد أعطيت في ذلك أمثلة دول كوريا الجنوبيةسنغافورة وتايوان. بينما وَجَّها بَوصلتيهما في فهم علاقة التكنولوجيا بالتنمية من خلال كتابهما الآخر "القوة والتقدم" الصادر في سنة 2023، على ضوئه تم رصد جملة من النتائج مفادها أن التكنولوجيا ليست أداة محايدة ولا تولد من فراغ بل هي جزء من سياق سياسي واجتماعي معين، و تحمل وجهين متناقضين، وجه يُكرس مظاهر التفاوت بين فئات المجتمع، نتيجة لخيارات سياسية واجتماعية تصب في مصلحة النخب الحاكمة والشركات الكبرى التي راكمت أرباحا طائلة في مقابل تدهور وضعية الطبقات المتوسطة والفقيرة، ووجه آخر يضمن استفادة أغلب فئات المجتمع من ثمار التطور التكنولوجي، مع دعوة الكاتبين إلى توجيه مسار التكنولوجيا بشكل يخدم أغلبية المجتمع بدل الأقلية. هناك مؤسسات تحمل من الأسماء الرنانة، ومن الإمكانيات الهائلة والموارد الضخمة، لا تعدو في حقيقتها سوى محارات فارغة من أي محتوى ذي قيمة، إذ تغيب عنها الكفاءات المواكبة لروح العصر، والقادرة على مسايرة التطور، بل هي مجرد واجهة لتبذير الأموال والتلاعب بالميزانيات، وتسخير المناصب للحصول على امتيازات شخصية، مما يؤدي إلى خراب هذه المؤسسات وسحب الاقتصاد والمجتمع إلى مهالك التدهور والركود. تبرز أهمية أعمال هؤلاء الباحثين في تشخيص سلوك المؤسسات بدقة، مؤكدين على أن هذه المؤسسات ليست مجرد هياكل قانونية رسمية، بل هي قواعد وأعراف وسلوكيات تؤثر على كيفية توزيع الثروة والسلطة في المجتمع. كاتب ومهتم بشؤون المعرفة