"خذ هذا الكتاب لتتعلم كتابة رواية جيدة". نصيحة قالها في زمن مضى مدير دار نشر لصاحب جائزة نوبل غابرييل ماركيز، والمقصود بالكتاب هنا هي رواية بيدرو بارَّامو لمواطنه خوان رولفو. نصيحة ثمينة لم يقابلها صاحب الابتسامة الطفولية بالجحود، إذ بعد أن ألهمته في كتابة مئة سنة من العزلة، سيعمل رفقة كارلوس فوينتس على رد الجميل بإنقاذ بيدرو بارَّامو من الغرق في بئر النسيان من خلال التعريف بها ومدح عبقرية كاتبها. فصاحب الرواية الحي الميت، الحاضر الغائب يعشق العزلة، يمقت محادثة الناس ويكره الجلوس تحت الشمس. شمس الشهرة والمجد، فهو كما ظل يردد دائما " أنا لست كاتبا محترفا، أكتب عندما تأتيني الهواية". القارئ للرواية سيجد نفسه تائها في عالم بلا خرائط، سيصطدم ببناء روائي بدون علامات تشوير، متاهة، حلم حيث تتماهى الذكريات مع الهلوسة والهذيان. أحداث الحبكة زائغة متموجة لا مسار خطي لها. تقرأ نصف الكتاب ولا تعرف هل الشخصيات حية فعلا أم ميتة. رواية بدون فصول ولا أجزاء وقد يقول البعض أيضا بلا منطق ولا معنى. لفهم المعنى يجب أن ننحاز لوجهة نظر Sainte-Beuve وليس Proust. أي أن ننبش في حياة الكاتب لاكتشاف سر الكتاب. أن نرجع إلى بداية القرن الماضي، إلى المدينة المكسيكية الصغيرة Saint-Gabriel مسقط رولفو، حين كان عمره إحدى عشرة سنة، حين خرج الناس سنة 1925 صارخين ليحيا المسيح الملك… ليحيا المسيح الملك في تمرد سيحمل اسم Los Cristeros اعتراضا على تفعيل الحكومة لبنود من الدستور تفرض العلمانية، تقزم دور رجال الدين وتأمر بإغلاق الكنائس الكاثوليكية. أربع سنوات من التمرد والعنف سيقتل فيها الاب، سيشنق فيها الجد وتبتر أصابعه وتموت فيها الأم حزنا وكمدا. أربع سنوات من المشاهد البشعة المرعبة ستطبع حياة خوان رولفو طيلة حياته: حرب بلا مساجين، جثت متعفنة تملأ الشوارع والساحات، جثت معلقة على أغصان أشجار البرتقال وعلى أطراف الصليب داخل الكنائس. في هذا العالم الممزق المتناقض سيجد رولفو الصغير عزاءه في مكتبة جارهم القس، المليئة بكتبه الشخصية وبالكتب الممنوعة المصادرة من سكان المدينة المخالفة لتعاليم الكنيسة. من هنا إذا، من رحم تراجيديا الحرب، الحرب الأهلية، الحرب الدينية، الحرب من أجل استرجاع الأراضي المنهوبة، الحرب من أجل الانتقام، الحرب من أجل دفن كريم للموتى، الحرب من أجل الذاكرة، من أجل فضح الأوهام، الحرب من أجل القبل والهمسات والحب كتب خوان رولفو روايته الوحيدة بيدرو بارَّامو.