صاحب تعديل مدونة الأسرة في سنة 2003 حالة من الاستنفار الإعلامي والاستقطاب السياسي والإيديولوجي، بين التيار الإسلامي وأنصاره من المحافظين، وبين التوجه اليساري والليبرالي الحداثي بأذرعه الحزبية والمدنية والحقوقية والثقافية، لكن حالة الاستقطاب هذه المرة مع مقترح تعديل 2023 الذي دعا إليه الملك محمد السادس، تبدو أكثر هدوء وأقل حدة لأسباب: أولها: عدم وجود حكومة ذات خلفية إيديولوجية كحكومتي اليوسفي وابن كيران، ولعدم تزامن توقيت التعديل مع استحقاق انتخابي، وهو ما جعل التجاذب السياسي باهتا إلى حد بعيد اللهم بعض المشاغبات السياسوية هنا وهناك. وثانيها: عدم وجود حالة من التجاذب الثقافي والإيديولوجي القوي الذي ساد خلال بداية الألفينات بسبب التحولات العالمية والإقليمية، وبسبب شدة الصراع بين التيارين اليساري الواصل قريبا إلى الحكم في المغرب، وتياري – ما اصطلحا عليهما- بالإسلام السياسي والإسلام الجهادي الذين طبعا المشهد السياسي والثقافي خلال تلك الفترة. وثالثها: لأن التعديلات ذات طبيعة تقنية في غالبيتها تنصب على المساطر والإجراءات، وتحاول أن تعالج أوجه الضعف والقصور في تطبيق مدونة 2003 وما صاحبها من صعوبات في تطبيق نصوصها وأحكامها، لهذا نصت الرسالة الملكية الموجهة إلى اللجنة المكلفة بالتعديلات على أن التأهيل المنشود، يجب أن يقتصر على "إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة، وعلى تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع المغربي والقوانين الوطنية" هذا "الهدوء" الحذر الحالي، والذي يعبر في أحد معانيه -إلى حد بعيد- عن نضج فكري وسياسي بات يعرفهما المجتمع المغربي، خاصة بعد تجربة أربعة عقود من المشاركة السياسية في إدارة الشأن العام تقاسمهما اليسار المغربي والتيار الإسلامي بين حكومتي التناوب اليوسفية والحكومة البنكيرانية للعدالة والتنمية، وهي تجربة جعلتهما يلامسان طبيعة التحديات المرتبطة بموضوع شديد الحساسية والتعقيد، كموضوع مدونة الأسرة. هو بالطبع هدوء عام، تشوش عليه بعض الآراء والمواقف المتشنجة والمستفزة من هذا الطرف أو ذاك، خاصة على المستوى الإعلامي، أما سياسيا وعلى مستوى الشارع، فلم يعد أي طرف يهدد بالنزول إلى الشارع كما وقع إبان مرحلة إعداد خطة "مشروع إدماج المرأة في التنمية" لحسم المعركة لصالحه، وقد يكون لتعهد الملك بأن الشريعة خط أحمر لا يمكن تجاوزه، أو لانتشار وسائط التواصل الحالية التي لعبت دورا تنفيسيا في تخفيف حالة الاحتقان. هذا النضج أو التحول العام الذي رصده عدد من المتتبعين، يمكن تسجيله على مستوى حدوث تقارب بين مختلف ألوان الطيف الفكري والسياسي والإيديولوجي، وارتفاع نبرة الخطاب البراغماتي في صفوف الحركات النسوية التي غلبت منطق المطالب الحقوقية الاقتصادية والاجتماعية والتمكين، على الخطاب التأطيري الإيديولوجي الشمولي مما وسع مساحة المتفق عليه على حساب المختلف فيه. وربما تكون هذه الحالة من النضج وعدم الاحتقان أو التجاذب هي ما شجعت جماعة العدل والإحسان ومن منطلق مبدئي ومسؤولية دعوية وتاريخية رغم أنها غير معنية مؤسساتيا بالموضوع باعتبارها ليست جزء من بنية النسق السياسي المغربي، وليست تنظيما مرضيا عليه مخزنيا، أو معترفا به سياسيا، حتى تدعى للتشاور أو للحوار مع اللجنة المكلفة بتعديل المدونة، على المبادرة لطرح تصورها لقضية "تعديل المدونة" أو قضية المرأة عموما، وبسط قراءتها ومقترحاتها لعموم المغاربة ونخبهم بقوة وإلحاح، ووفق رؤيتها عبر ثلاث محطات مركزية ومهمة وبشكل غير عاد وغير مسبوق، وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول البواعث والدواعي: حددت رسالة مجلس إرشاد الجماعة الصادرة بتاريخ 04 أكتوبر 2023 مساحة المتوافق عليه والمختلف عليه، وكانت في عمقها رسالة سياسية وتحذيرية للنظام وللنخب "الحداثية" الليبرالية واليسارية من الإقدام على أي تجاوز للشريعة وأحكامها، أو القفز على دور العلماء فهي تعتبر وظيفتهم ومسؤوليتهم حاسمة وكبيرة في أي تعديل، كما تعتبر الشعب مسؤولا مع نخبه الدعوية والسياسية والمجتمعية عن الدفاع عن دينه وهويته، في وجه أي انزلاق أو ردة تترتب عن وضع المدونة بين يد شخصيات ومؤسسات غير محايدة أو ناشزة فكريا وإيديولوجيا، وتعتبر ذلك مؤشرا غير مطمئن، لكنها رغم ذلك كانت واضحة في التمييز بين مساحات المتفق عليه ومساحات المختلف فيه، مبدية استعدادها للتجاوب المرن مع كل تعديل يحترم مرجعية الأمة ويحقق الإنصاف والعدل للأسرة ومكوناتها " إننا مع إصلاح وطني توافقي لمدونة الأسرة، غير متناقض مع الثوابت الدينية في شرعنا الإسلامي الحنيف" مساحة المتفق عليه: * الاتفاق على التشخيص، فالجميع يتفق أن وضعية المرأة في مجتمعاتنا مأزومة وواقعها واقع كارثي بكل المقاييس اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا وتشريعيا. * الاتفاق على أن الغاية من أي إصلاح أو تعديل أو تصويب هي أن يحقق الانصاف والمساواة، ويحسن وضعية المرأة ويمكن لها، فالقضية أكبر من المزايدات السياسية والمماحكة الأيديولوجية والإثارة الإعلامية. * الاتفاق على أن الشريعة الإسلامية هي الأرضية المشتركة وهي منطلق أي حوار أو تشريع – وهذا أمر يذعن له الحداثيون على مضض لعدم قدرتهم على التصريح بمخالفة الإرادة والرسالة الملكية علنا وإن كانوا يناورون- فالشريعة خط أحمر خاصة أحكامها القطعية المحسوم، إذ لا مجال لمناقشتها ولا محيد عن الاعتصام بالشريعة الإسلامية، مع التأكيد على سمو الشريعة الإسلامية على كل المرجعيات، فالإسلام دين المغاربة عقيدة وهوية وواقعا وتاريخا ومن يقل غير ذلك فليعلنه صراحة ولينتحر سياسيا. لهذا كان موقف الجماعة حاسما «إننا نؤكد على سمو المرجعية الإسلامية في أرضها وبلادها وبين ظهراني شعبها، ونرفض كل اقتراح يتناقض معها، وأن الاجتهاد المتخصص من داخلها فيه فسحة للإجابة عن كثير من الإشكالات والمعضلات، ولا مجال نهائيا للتنازل عن أي حكم قطعي جاءت به شريعة الإسلام" وعلى نفس الوتر يعزف حزب العدالة والتنمية إذ يعتبر أن تعديل مدونة الأسرة لا يمكن أن يتم إلا في "إطار المرجعية الإسلامية"، وهذا" ليس اختيارا اجتهاديا، وإنما هو الإطار المرجعي الإلزامي الذي تنطلق منه مدونة الأسرة في حد ذاتها، …فلا حاجة للتذكير بأن أي تعديل أو تغيير يتعلق بنصوص المدونة ينبغي أن يتم في إطار المرجعية الإسلامية، ولا يقبل نهائيا من مؤسسة دستورية أن تسمح لنفسها باقتراح بعض الأمور التي لا تراعي الأحكام القطعية للشريعة الإسلامية وتتعامل مع مقتضيات الدستور وفق هواها" * الاتفاق على أن تعديل المدونة لا ينفصل عن إصلاح شامل أوله المدخل الدستوري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي، ومنطلق كل هذا القطع مع أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، وإرساء ديمقراطية حقيقية وتنمية ناجعة وفعالة، رغم اختلاف مقاربات وأولويات الفاعلين. * الاتفاق على أن مسؤولية الدولة قائمة، فيما وصلت إليه وضعية المرأة بسياساتها وأجهزتها وخططها، وأن الجميع يسجل تقصيرا ويعترف بوجود تحديات وصعوبات على كل المستويات رغم الجهود المبذولة من المجتمع والدولة. مساحة المختلف فيه: * سمو المرجعيات الدولية والاتفاقيات والقوانين والتشريعات الدولية التي يعتبرها الحداثيون ملزمة للمغاربة، ويتخذونها دينا ووثنا يعبد من دون الله، في حين أن الإسلاميين يتعاملون معها بانتقائية وفي حدود، لهذا نص بيان مجلس الإرشاد باعتباره أعلى هيئة تنظيمية في العدل والإحسان بشكل قاطع على "إننا مع كل تواصل وتعاون عالمي على قاعدة العدل الدولي والتراحم الإنساني. وندعو إلى الاعتراف والالتزام بالمعاهدات والمواثيق الإقليمية والدولية الحافظة للفطرة الإنسانية والمقرة للسلم الاجتماعي، والتي نحضرها ونسهم في إنضاجها؛ شريطة ألا تتعارض مع سيادة الدولة، أو تتصادم مع أصول ديننا وقطعياته، ومع خصوصياتنا الحضارية والثقافية، لاسيما وأن قضايا الأسرة ترتبط بالهوية مباشرة، وبمدى استقلالية الدولة فعليا عن الخضوع لابتزازات الغير" وبالتالي فالموقف محصور بين القبول بكل الاتفاقات الدولية، التي تكرس العدل والحرية والكرامة الإنسانية وتحترم الهوية والخصوصية، وترفض الضغوطات والإملاءات الدولية التي تدمر وتفسد أخلاق المجتمع وقيمه وتكرس التبعية الاستلاب. * الإسلاميون والمحافظون عموما يلحون على ضرورة الوعي بوجود إرادة افسادية ومحاولات لضرب منظومة الأخلاق والقيم وتفتيت النسيج الاجتماعي، عبر مؤسسات دولية تفرض إملاءاتها بواسطة اتفاقيات ومعاهدات ومؤتمرات كالقاهرة وبكين وسيداو، بل إن هناك من يرى أن لها أذرع سلطوية وسياسية ومدنية وإعلامية وثقافية في بلداننا، يصفونهم بالمرتزقة والسماسرة الذين يتاجرون بقضية المرأة مع جهات مانحة دولية، في حين يعتبر التيار الحداثي تلك اتهامات باطلة تريد فرملة دافعية تطور المجتمع وتريد أن تجعله رهينة للفكر المتطرف والدعوات الماضوية والرجعية. * يرى كثيرون أن المدونة هي التعبير التشريعي والقانوني على طبيعة المجتمع المراد تأسيسه مستقبلا هوية ونموذجا، وبالتالي فالنصوص القانونية ترهن المجتمع لها، وأي تنازل أو تمكين هو تغليب للنموذج الذي يرجحه هذا الطرف أو ذاك سواء كان حداثيا أم محافظا، ومن هنا الإصرار على التدقيق وتحقيق أكبر عدد من المكاسب في النص التشريعي، وهو ما أشارت له وثيقة "منطلقات مؤسسة لإصلاح مدونة الأسرة" حينما نبهت إلى أن" تجربة الغرب مع الدين إبان العصور الوسطى مخالفة تماما لتجربة الدين في واقع المجتمعات المسلمة"، وبالتالي ترفض "كل إسقاط للأحكام، أو محاولة لاستنساخ نفس التجربة التاريخية" التي جعلت من إقصاء الدين والتصادم معه وتجاوزه شرطا لتحقيق الحداثة، وبالتالي ينبغي التحذير من كل محاولة "تسعى إلى إحداث بنى وأنظمة فكرية ومجتمعية واقتصادية وسياسية جديدة والإطاحة بالبنى والأنظمة القديمة القائمة، كما تسعى إلى الفصل بين قطاعات الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية"، وهذا الاختلاف نابع من التناقض الإيديولوجي الواقعي، وأيضا من الاختلاف في تأويل مضامين الرسالة الملكية التوجيهية التي تبحث عن التوافق مما يجعلها غامضة وحمالة أوجه كما يقال، يستدل بها كل طرف ضد الآخر "ومن هذا المنطلق، فإن المرجعيات والمرتكزات تظل دون تغيير، ويتعلق الأمر بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف، وكذا القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب" * هذه عموميات الاتفاق والاختلاف، لكن هناك مواقف قاطعة وحاسمة من قضايا تفصيلية اعتبرها الإسلاميون خطوطا حمرا، وعدها الحداثيون خطوط دفاع ينبغي إسقاطها ولو جزئيا لرمزيتها، ولإحداث اختراق في المجتمع، وخاضت وثيقة مدونة الأسرة-وجهة نظر جماعة العدل والإحسان في قضايا تفصيلية فيها بشكل تفصيلي غير مسبوق، كتعديل نظام الإرث، أو إسقاط تعدد الزوجات، وتزويج الفتيات والفتيان دون سن الرشد القانوني أو تغيير مفهوم الأسرة وتركيبتها، أو زواج المسلمة من غير المسلم، أو إثبات النسب وغيرها من القضايا. وختاما يمكن الملاحظة أن موقف العدل والإحسان من تعديل المدونة حظي بأهمية خاصة إعلاميا وسياسيا وحقوقيا، لحجم الوثائق الصادرة بالمناسبة ثلاث وثائق رسمية، ولتعدد المؤسسات التي تدخلت في الموضوع، كمجلس الإرشاد واللجنة المشتركة، التي ضمت هيئات الجماعة الدعوية والحقوقية والقانونية والسياسية والاجتماعية، والقطاع النسائي، وأيضا لأنه صادر عن حساسية مجتمعية واسعة ومعارضة إسلامية ظلت لفترة طويلة تستنكف عن الخوض في هذه التفاصيل، من منطلق أنها تعتبر الإصلاح السياسي الشامل هو المدخل لتحقيق العدل والمساواة في المجتمع، لكنها اختارت هذه المرة التعبير عن مواقفها واختياراتها التفصيلية، واقترحت إطارا عاما وجديا لإنجاح هذا التعديل أو الإصلاح، كما جاء في رسالة مجلس الإرشاد" إننا مع إصلاح وطني توافقي لمدونة الأسرة، غير متناقض مع الثوابت الدينية في شرعنا الإسلامي الحنيف، ويدار بشكل ديمقراطي ويخضع لنقاش مجتمعي وعمومي شفاف ومسؤول، بإشراك العلماء إلى جانب باقي المتخصصين، ويرتكز على إعلام في خدمة الأخلاق والقيم، وغير غافل عن تكامل المجالات التربوية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في كل إصلاح، ومستفيد من كل حكمة بشرية نافعة، وغير خاضع لإملاءات أجنبية"