الإنسان، ذاك الكائن الغامض، الملتبس إلى الأبد، بنية نفسية وذهنية سحيقة العمق، بدون نقطة إرساء ،متشعِّبَة ومتداخلة خيوطها للغاية، بحيث استحالت دائما؛مهما بلغت دقة تأويل المؤوِّل، إمكانية بلوغ حقيقة ثابتة؛ قد تضع شخصا معينا ضمن إطار محدَّد،وتصنفه في نهاية المطاف على سبيل الاطمئنان. الإنسان حكاية خارقة بامتياز،عصيَّة على الإدراك الأحادي.يضمر الإنسان أكثر مما يبلور،يخفي أكثر مما يظهر،يبطن أكثر مما يكشف. مايقوله غير مايفكر فيه. فكره عكس سلوكه .سلوك أقرب إلى طاقة الديناميت بل زيادة؛خيرا أو شرا،تتجاذبه خلال الآن ذاته دوافع لامتناهية. نزوعات ظرفية متباينة، تتفاعل في الآن ذاته،بين طيات الذات الواحدة.هكذا، تتأجل هوية الإنسان باستمرار؛لأنها مجرد ممكن يرتبط تحققه بالمحتمل. بناء عليه،يتضح بأنَّ أكبر معركة يجدر بالإنسان خوضها في هذه الحياة،حتى يحظى افتراضا بمعنى وهوية،تكمن في سبره لأغوار نفسه وتوخي استبطانها قصد الوقوف على جانب من أرخبيلات مغاراتها الظلماء. لذلك، تظل باقي المعارك تالية،لأفق صراع الإنسان مع ذاته،قصد اكتشافها أولا،ثم تبيُّن ملامحها ثانية،بالتالي امتلاك الإنسان زمام مصيره الشخصي،وبلوغه على وجه التقريب مرتبة الحرية الباطنية. عندما يخوض الإنسان صراعه بوعي متوقِّد ونفاذ بصيرة،تبدأ ترسُّبات هذا الجانب المظلم في التآكل؛ رويدا رويدا،بالتالي، التخفيف من غلواء اللا– توازن بين وجهي الذات، مصدر جلِّ الأمراض المجتمعية والمساوئ الواقعية،التي تتخبَّط داخلها المجموعات البشرية؛ بكيفية متفاوتة.أنساق نتائج سلبية وهدَّامة أساسا،تترتب عن سوء الطوية وانتفاء الانسجام الصادق بين دواخل الإنسان ومايعيشه عفويا بكيفية خاصة مع ذاته،حين إلغاء رقابة الوعي وكذا بنود اللاوعي الجمعي، ثم الوصفة المهيَّأة عمدا مثلما يقدمها في المقابل؛ تمويها واستعراضا لحظة التواصل مع الآخر. غالبا، مايُنظر أساسا إلى هذا المُكَوِّن وفق منحى الثنائية المانوية،غير القابلة للحسم، ولن تحسم قط،غاية آخر لحظة في تاريخ الإنسان،نظرا لارتباطها مفصليا ببناء لعبة الوجود، التي اشتغلت مبدئيا على منطق الثنائية.أقصد السؤال الوجودي المؤرق، فيما يتعلق بجوهر الكائن البشري : هل الإنسان مجبول على الخير أم الشر؟أين تكمن حقيقة الإنسان الأصيلة :ممارسة الفضيلة، أو بثِّ لبنات صناعة القبح والمكائد الشريرة؟ هكذا،يتجلى الإنسان بمثابة منبع للحياة،أو بالعكس من ذلك،قد يختزل حضوره مختلف معاني الموت.حتما،لايمكن تقديم جواب أحادي البعد بهذا الخصوص،على منوال باقي الأسئلة الوجودية، التي تعتبر إثارتها في نهاية المطاف،أهم حقيقة من الإسراع إلى صياغة جواب لها،مادام كل جواب يضمر سؤالا ثانيا أعقد من سابقه. الإنسان بغير أقنعة،ليس عنوانا سواء للخير أو الشر،ويصعب الانحياز كليا بطمأنينة خَطِّية نحو نموذجي اللاهوت ونقيضها الناسوت:راهب أو شيطان.لاأحد يولد مجرما، ولاضمانة تذكر، كي يستمر غيره فاضلا.الإنسان مجرد حالة،أولا وأخيرا،يتداخل في خضم تعبيراتها المباشرة الذهني، النفسي، الوجداني، القيمي المكتسب،ارتباطا بمعطيات وشروط السياقات المختَبَرة،والتجربة الفعلية وحدها تشكِّل محكَّا فعليا للمثيرات والدواعي ثم نوعية ردود الفعل.لحظة، تعكس بكل شفافية حقيقة الإنسان. قد يجسِّد حينها صورة الإنسان/ الحَمَل،أو الإنسان/ الذئب،لذلك يظل التصرف الإنساني ارتباطا بمحددات ظرفية مقامية معينة،أصدق دلالة.بمعنى ثان،الإنسان موقف. تحقُّق،يطرح جانبا –غاية إشعار ثان – مختلف المبررات المعيارية، الدينية أو الأخلاقية، الساعية إلى تحديد ممكناته بناء على افتراضات،تخمينات، وكذا استدلالات صورية، تحتمل في نهاية المطاف كل التأويلات،مادامت الطبيعة البشرية زئبقية بامتياز، يصعب معها غالبا الرهان ضمن السياق المذكور على الثبات واليقين. الإنسان وضعية متقلِّبة،قبل كونه موضوع وصفة جاهزة لما يلزمه أن يصير إليه.صاحب ممكنات لانهائية.ليس فضيلة راسخة ولا شيطانا ماردا. باختصار، كيانه حمولة دينامية، قابلة باستمرار للتقلُّب والتحوُّل نحو الأفضل أو الأسوأ،المقدَّس أو المدنَّس،المثالية أو الابتذال،التسامي أو الانحدار، الخير أو الشر. إذن،الإنسان معطى فوري معقَّد للغاية. وحدها،التجربة الفعلية يمكنها تشكيل سند راسخ فيما يتعلق بمعرفة هويته دون التباس، ومعاينة وجهته، مع ضرورة استحضار، انفتاح مشروعه الوجودي،على صيرورة لامتناهية، تظل فاعليتها مرتبطة بحساسية الوعي الوجودي. تؤسِّس ثنائية الحالة والمشروع،مضمارا ملائما قصد اقتفاء آثار البنية النفسية للإنسان،من خلال تجلياتها على طبيعة التصرفات ثم التفاعلات المقابلة،في خضم موقف معين يقتضي تجاوبا حاسما،عندئذ تبرز إلى السطح خبايا جانبه المظلم،وينبعث كيان الخير أو الشر.تارة يتحقق المنحى بكيفية قصوى،وتارة أخرى بمرونة. تطلُّع الإنسان نحو الخير،منتصرا لفترة قد لاتطول،وربما تتأبَّد كما الحال مع بناة البشرية وعظمائها،تتأتى من القدرة على مجابهة المنطقة المظلمة،وتفكيك معالم ترسباتها، عندما يتحقق الوعي الإنساني بذاته، ثم إمكانية ارتقائه صوب انبجاس شفاف،يفسح المجال أمام حدوث تقلص لتلك الهوَّة الفاصلة بين الإنسان وذاته،جراء تراكم سلبيات المنطقة الحالكة. حينها،ينطلق الوعي الإنساني؛ المدرك فعلا لمضمون هويته،كي يشتغل ثانية دون عوائق مصطنعة،فتحيا الذات كنه وجودها حسب الكيفية المطلوبة،وتبلغ مستويات استثنائية بخصوص معانقة الأسئلة الوجودية الأصيلة،التي تجعل من الإنسان إنسانا حقا، ومن وضعه حالة مميَّزة،كما يغدو موته ذكرى خالدة. التفسير الوحيد لمستويات الإنسانية،ودرجات النقاء التي يبلغها إنسان معين،تكمن في مدى قدرة كل واحد على استنطاق بنيته المظلمة،بالتالي سعيه العميق إلى إضاءتها بالتهذيب والتقويم، قصد بلوغ لحظة الذات المتوازنة والمتصالحة مع نفسها. سيقول قائل،هذا تصور طوباوي،مادام الإنسان تبعا لمفهومه الطبيعي،يستحيل تبلوره فعليا على أرض الواقع دون اجترار شخصيته لتراكمات مكامن بنيته النفسية والذهنية بكل تفاصيلها. المقصود،هنا تحديدا،ضرورة ترسُّخ هاجس مقاومة الدوافع الشريرة للجانب المظلم لدى الإنسان،حتى يتخلص من القَدَرية والعمى.المنطقة المظلمة،مثلما هي، ينبوع إحباطات عدَّة، ابتداء من سؤال معنى الحياة؟ غاية سؤالي ما الموت، ثم مابعد الموت؟ فزع، تيه، مجهول يلفُّ آفاق الوجود الإنساني، يكتنفه جملة وتفصيلا، مع غياب أجوبة قطعية. إذن، نواة الجانب المظلم عند الإنسان،الإشكاليات الكبرى المترتِّبة عن تلك الأسئلة، مع الشعور بالعجز،فيسود الخوف،والأخير مصدر لايضاهى لمختلف الشرور المظلمة القابعة في جوف الإنسان.