منذ مدة ليست بالقصيرة، وأنا أتابع باهتمام شديد تصرفات الشباب المغاربة، الذين أتقاسم معهم الجيل والوطن. وأراقب نوعية الأفكار السائدة بينهم، محاولاً استنباط طبيعة العقلية الشبابية المغربية، أو عن الأقل، عقلية ومنحى تفكير السواد الأعظم، وذلك في عدد لا بأس به من السياقات: الدين، التوجه السياسي، العلاقات الاجتماعية... فقد لا يخفى على عارف بالأساسيات الأولية لعلم الاجتماع، أن مجتمعات العالم تنقسم في هذا الصدد إلى تيارين كبيرين: مجتمعات محافظة، وأخرى دعونا نسميها "ليبرالية" أو "متحررة" أو أي شيء من هذا القبيل... فإلى أي المجموعتين ينتمي شباب المغرب ؟ ذاك هو السؤال الجوهري الذي حاولت الإجابة عنه، خاصة أننا نحن المغاربة ننتمي لبلد ألقت به الطبيعة بين المطرقة والسندان. فقد كان قدر المغرب، نتيجة موقعه الجغرافي، أن يكون نقطة تلاقي الثقافات والحضارات لكونه بوابة الغرب الأوروبي، وحيث تنتهي القارة الإفريقية، وخاصة، أحد أكثر الدول التي ساهمت في نشر وحمل مشعل الثقافة الإسلامية ذات الأصول المشرقية، تاريخياً... طبعاً دون أن نبخس حق حضارات وثقافات أخرى ساهمت في تكوين الهوية المغربية. كما لعبت العولمة دورها في تكريس هذا الانفتاح على ثقافات أخرى "دخيلة". فأي عصارة سينتجها خليط الثقافات هذا ؟ وأي نكهة ستكون طاغية عليه ؟ خاصة في مواضع الاختلاف بين ثقافة وأخرى ؟ أطلت الملاحظة، معتقداً أن مزيجاً كهذا من شأنه أن ينتج مجتمعاً في قمة التحضر والرقي، مجتمعاً يأخذ بكل ما هو مفيد وجميل من هنا وهناك، لكني للأسف لم ألحظ غير السلبيات! رأيت شباباً فاقداً للهوية، لا علم له بمن يكون ولا بما يريد، متشبع بقيم متناقضة، متشبث بمعتقدات لا يعتنقها، مدافع عن مبادئ لا يؤمن بها ولا تبدو عليه وعلى سلوكياته... انه مجتمع مصاب بداء "السكيزوفرينيا"، أو ما تطلق عليه اللغة العربية مصطلح "الفصام" أو "انفصام الشخصية". شباب يعتز بأخلاق الإسلام ويدافع عنها، لكن سلوكه يوحي بغير ذلك، شابات متحررات في المظاهر وأشكال اللباس، عليهن آثار القرن الواحد والعشرين بأبهى تجلياته المظهرية، لكن بعقلية اقل ما يقال عنها أنها تعود للقرون الوسطى... ولعل الحدث البارز لهذا الأسبوع، وهو اعتقال شابي الناظور، بسبب قبلة، شكل النقطة التي أفاضت الكأس ودفعتني للكتابة حول الموضوع. تفاعل الشارع المغربي مع القضية كان من الغرابة بمكان : حين يتحول ذلك الشاب الذي يربط علاقات "خارج مؤسسة الزواج"، ذلك الذي لطالما تبادل القبل مع صديقاته، المتعددات، في عتمة قاعات السينما وظلمة ليالي الحدائق العامة، حين يتحول فجأة إلى مدافع عن "أخلاقيات المجتمع"، والى رافض لتلك الممارسات "اللا أخلاقية"، فاعلم أنك في المغرب. كيف يسمح شاب لنفسه أن يتحرش بكل بنات العالم، في الشارع العام أمام أعين العباد "بلا حشمة بلا حيا"، وينتفض وتقوم قائمته إذا ما ضبط أخته أو إحدى المنتميات لعائلته في موقف مشابه ؟ كيف لشابة لا ترتدي حجاباً ولا حتى أبسط شروط "اللباس الإسلامي المحتشم"، أن تصبح في لحظة مناهضة لقبلة بريئة بحجة أننا في "بلد مسلم" ؟ ... أبعد من ذلك، كم مرة التقطت أذناي انتقادات شديدة اللهجة لما يسمى ب"العلمانية"، سمعتهم يتهمونها بالكفر وتشجيع الانحلال الأخلاقي، قبل أن يتحول الحديث على حين غرة، إلى "خمريات منتقدي العلمانية" وحكاياتهم المضحكة عن لياليهم الماجنة مع مومسات في ملهى ليلي، بعد أن أذهب السكر عقولهم ؟ كيف لمعظم هؤلاء المدافعين عن أخلاقيات وقواعد المجتمع أن يشكل الكلام النابي جزءاً لا يتجزأ من فلسفتهم الكلامية؟ يحدث هذا الأمر في المغرب بكثرة، وهذا النموذج كما يقول المغاربة "جاري به العمل"... فعن أي أخلاق عامة يتحدثون وعن أي ثقافة مجتمعية يدافعون؟ وحتى لا أكون قاسياً على أفراد المجتمع فقط، الذين ما هم في الواقع إلا ضحايا شكل من أشكال التنشئة المجتمعية المتناقضة، والتي تتحمل الدولة الجزء الأكبر منها، باعتبارها مسئولا مباشراً عن كل ما يقع داخل المجتمع المغربي، بل المضحك المبكي في الأمر، أن هذا الجهاز المسمى "المخزن"، حتى نسمي الأشياء بمسمياتها، هو الآخر مصاب بانفصام الشخصية ! فحين يلقي المتتبع نظرة على نوعية الأفلام التي تعرضها قاعات السينما المنتشرة عبر كل ربوع المملكة، وما تبثه من مشاهد "ساخنة" دونما حسيب ولا رقيب، بل أن بعض الأفلام الوطنية بدأت تتبنى هي الأخرى سياسة "القبلة" أو "المشهد الساخن" الذي يزيد من عدد المشاهدات.. وحين ترى الكم الهائل من المسلسلات التركية والمكسيكية والأمريكية المدبلجة باللهجة الدارجة أو اللغة العربية، والتي تغزو القنوات العمومية وتعرض آناء الليل وأطراف النهار، وهي التي تطرح دائماً مواضيع متعلقة بال"حب وغرام"، وتظهر فيها أشكال من اللباس، لا يعقل أن تعرض على قنوات دولة لا تزال متشدقة ب"الآداب العامة"، ناهيك عن ما يتبادله "الحبيبان" أو بطلي المسلسل من كلمات ونظرات وعبرات... ظلت إلى وقت قريب من طابوهات المجتمع، هذه القنوات نفسها تطل علينا من حين لآخر بمسابقات تجويد القرآن الكريم، ولا تفوت عرض آذان الصلاة... هذا دون الحديث عن عدد لا بأس به من صحفنا الوطنية التي جعلت من صفحاتها الأخيرة مكاناً لنشر صور "الجميلات" بلباسهن "العصري". حين تسمح الدولة لكل هذا أن يحدث، يصبح من قبيل النكتة اعتقال مواطن من أجل "قبلة"، وتجريم هذه الأخيرة وتسميتها "إخلالا بالآداب العامة"... ويصبح من "الحمق" أن نتوقع من مواطن يعيش وسط كل ما ذكر، أن يحترم تلك الأخلاقيات، التي ساهمت الدولة نفسها في محاربتها وإبادتها، وجعلها تظهر بثوب القيم البالية والمتجاوزة. هل نسيت الدولة أنها خرجت بالكاد من فضيحة إطلاق سراح شاذ اغتصب عدداً من أطفالها ؟ هل نسيت أنها مصنفة في المرتبة الثانية، على مستوى العالم، في السياحة الجنسية ؟ هل نسيت الإحصائية الأخيرة التي تفيد بأن المغرب ينتج 35 مليون قنينة "روج" في السنة؟ بمعدل قنينة لكل مواطن... هل نسيت كل هذا ؟ فلماذا لا تعاقب الدولة نفسها بتهمة "الإخلال بالآداب العامة ؟" بل انه يفترض متابعتها كذلك بتهمة "زعزعة أخلاق مسلم". أنا لست بالمناسبة من دعاة الرجعية والعودة إلى السلف الصالح، أو التشبث بقيم العصور الوسطى، لست من كارهي القبل، ولا من معارضي الأفلام التي تعرض في قاعات السينما، ولا من أعداء حرية الشخص في الاختيار بين المسجد والملهى الليلي... لكني أحلت على هذه الظواهر حتى أفضح التناقض الكبير في عقلية الشباب المغربي وخاصة الدولة المغربية. ما أدعو إليه : هو فرد واضح ملتزم بقناعاته سواء كانت سلبية أو ايجابية، ودولة تترك منطق الحرباء في التعامل مع قضايا المجتمع.