قليلٌ جدا من الناس من سينظرون في المرآة ويقولون : هذا الشخص الذي أراه هو كائن متوحش ، بدلًا من ذلك سيختلقون تفسيرًا ما ليبرروا ما يقترفون. – نعوم تشومسكيهذه حال حكومتنا، تحادي أبراج السماء، وهي عنها ذليلة، كرَأْس ضَخْم بزِعْنِفَة ظَهْرِيَّة كَبِيرَة. والقصد أنها أصغر من ثقب إبرة، وأدنى من ذلك وأكثر. وعلاقة بالموضوع، فإن إعلامنا المغربي لا يكاد يثير قضية مشتبكة عائقة، تتمرغ فيها مواقع التواصل الاجتماعي وتتآكل، حتى يطلع الناطق الرسمي باسم الحكومة، أو من يقوم مقام الحزب الأغلبي، ليمني العامة بجلاجل الأمور وعظائم الأقدار، بين فتنة الراهن الدولي وموبقاته، ومخاطر الحروب وتجارتها. ثم تخفت الموانع التي تسرف وقتا قليلا في انتقاد تدابير الحكومة وفشلها في حصار الأزمة وتداعياتها. ولا تكاد تسكن ضائقة وتبرد أخرى، حتى تطلع فضيحة أو حائل دونها المصائب، لتذهل عقول الحائفين الخانقين، وتفتن أقلام الصحافة وحقوقييها عن مواكبة حجم خسارات الحكومة وتدابيرها الآفلة المأفونة. فمن يقصد هذه الدائرة ويديرها؟ ومن يكسر شوكة "الرفض" و"الهاشتاغات الغاضبة" و"الضرب على الدفوف" و"شحن الضمائر" و"احتدام الصراع"؟. خلال عامين من الكورونا الشنعاء، واشتعال حرب الروس والأوكران، جن جنون تجار السياسية وأزلام الأزمات، وصار الخوض في الأسعار والفقر المستوطن في الهوامش، وتراجع مستوى المعيش اليومي لمحدودي الدخل، واستشراء الفساد وتغوله في بنى وهياكل الإدارة العمومية والمجتمع المخملي، (صار) نظاما وبائيا للإلهاء والمغامرة واستمراء العبث وقلب الحقائق، ومنها نبعت نظريات التحشيد وغصب الحقوق بكل وسائل التدجين السياسوي، القائم على البروبجندا والتطبيل واستغلال المواقع واستنبات كل ما من شأنه أن يؤخر معرفة ما يجري ويدور في دهاليز الحكم وإقطاعياته التي تنمو على ظهورها كائنات ما يحاول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه "الإنجازات الهائلة للبروباجاندا"، توصيفها ب"ديمقراطية المشاهد والالتفافات"، حيث يزعق الموظف الحكومي وتابعيه، ليثير اللغط قدر ما يستطيع، ليعيد صناعة الكذب والخيال الجانح المسجى بالكثير من السقوط الفكري والارتماء في أحضان اللامعنى، و"كيف أنه في صميمية المجتمع الديمقراطي (الموعود) يتم تقسيم المجتمع إلى طبقتين ؛ طبقة قائمة بالفعل ( وهي النخبة المتخصصة ) ، وطبقة المشاهد للفعل (وهو القطيع الحائر والضال) الذي يحدد دورها في المشاهدة، ثم تأييد أحد أفراد الطبقة المختصة ". هذه الوصمة التوسعية، التي تمارسها "حكومة ديمقراطية المشاهد" ، هي نفسها التي تستهوي جزءا كبيرا من مشاريع ملفقة ومدسوسة، تراكم على مدى سنوات من تنزيلها على أرض الواقع، خيبات وإخفاقات، توازيها نفس الأداءات الضعيفة في الميدان وعلى طول الخط؟. إن ما أضحى يعتمل في صلب العملية الإعلامية، عند نقل ما يجري في "مشاهدنا الحكومية" إياها، هو نفسه ما استنتجته نظرية تشوسكي في كتابه الآخر : "من السيطرة على الإعلام إلى السيطرة على العالم بالإعلام "، حيث يعدو الرأي العام الإعلامي ومستعملو المواقع الاجتماعية ووسائطها التكنولوجية المثيلة، "مروضا ومدربا ومسوسا بألبسة مستعارة ومقنعة أحيانا"، فلا هو قام بتحويل الأنظار لقضايا الأزمة، ولا أفلح في توجيهها على النحو الذي يضمن حياديته وتواصله مع المجتمع المستقبل؟ وبالتالي، فنحن أمام "ضرورة لإعادة النظر أو بعبارة أخرى توجيه نظرة نقدية إلى طبيعة الرسائل التي يمررها الإعلام في صيغته (الحالية)؟. أعتقد أن أزمة الرأي العام وفق التصور الجديد للقابليات الإعلامية وقضاياها المثارة راهنا، تفرض علينا إعادة مناولة الأبعاد العميقة لحجم "الدعاية الإعلامية" المضللة، التي تتقن فن التلاعب بالعقول وتزييف الواقع و"تصنيع الإجماع"، حيث إن هذا الالتباس المأفون في سياق ما نسميه ب"تخريب الرأي العام" وتدجينه، أصبح عائقا حقيقيا في بؤرة الإضلال وتغييب الوعي وتجفيفه، في مقابل إنتاج إعلام يسلك منطق المفاوضة على التغرير والاستغفال والاستمالة والاعتداء على الحقوق الطبيعية للمواطنين.