ألم يحن الوقت بعد ليرحل فيصل العرايشي؟ سؤال لا يزال يؤرق المغاربة، منذ ما يقرب عن حقبتين ونيف. تغلست فيها شاشاتنا الوطنية البئيسة، وانغلقت على ذواتها، حتى صارت جزءا من الصخور الصماء، التي لا تملك روحا أو إحساسا بالمسؤولية. ولا حتى حقنا لمزيد من النفور والفزع والانقباض، المعاين شعبيا وجماهيريا على نطاق واسع. يستعيد هذا التحليل المتجاوب مع كل لحظات الحشر الجديد لتفاهات تلفزيوننا في زمن الذروة الرمضانية، ومعها مثبطات الحجر الصحي في ظرفية الجائحة الكريهة، يستعيد راهنيته وحضوره القوي في كل أبعاد وماجريات أسئلة التدبير العمومي، ومعه مزالق دمقرطة أجهزتنا الإعلامية السمعية البصرية، وامتثالها للرقابة الدستورية والقانونية والإدارية، على ضوء ما خلفته من رزايا ومخاطر عميقة، ما زالت تكرسها اختلالات الحوكمة ومسوغات انحراف تقييم حصيلة سنوات من الخراب الهوياتي والمادي، الذي لا تزال تنتجه عقول تنهل من سلطة القرار الفوقي ومقاسات تحقيق رؤية إعلامية أو فنية بألبسة محورة ومدسوسة، دون منهجية أو فكرة بانية. في كل عام، وبعيدا عن كل تدليل مناسباتي، أو سياق للحديث بنفس الموضوع والمعرفة، وكشفا لما هو محيط بهذه العلامة المتحلقة حول أسباب وخلفيات هذا التعتيم والتدجين في قضية مصيرية تهم كل المغاربة والعارفين بالطريق الغامضة التي ما انفكت تخلف العديد من الضحايا، بمن فيهم أجيال التضبيع وغربان المسخ والاستنساخ، تشتعل منصات التواصل الاجتماعي ومجموعات على الأون لاين أو الأوف لاين. وتعيد محاصرة الرهق السيروري المتغافل لسلعة الهبوط الفني، الذي رجعت مخلفات تلفزيوننا الوطني إلى عرضه خلال الشهر الفضيل هذا العام الوبائي. ونعود مع كل أولئك وهؤلاء لنلوك نفس أسطوانة الأمس القريب والبعيد. "عادت فاطمة إلى عادتها القديمة"، و"متى يغادر فيصل العرايشي دفة حكم القطب الإعلامي العمومي وننتهي من مغامراته الشاردة؟"، و"متى ينصلح حال تلفزيوننا البليد ويعود إلى رشده؟"، و"هل حان الوقت لوضع حد لماخور إعلامنا التلفزيوني الهابط؟"، و"ما مصير تقارير المجلس الأعلى للحسابات حول حجم اختلالات ميزانية التلفزيون المغربي؟"... إلخ. أسئلة وانتظارات تعيد تدوير نفسها على أسطوانة مشروخة، أضحت علامة بارزة في غمرة القبح اليومي والسنوي الذي تفرضه شاشاتنا الوطنية، بل وتقبض عليه صكوكا لتحيا على قفا المقهورين والمحطمين؟ أية سبيل ستفلت من جحيم هذا الوضع المتنامي لماكينة إعلامية تفتك بالعقول وتحرف الحقائق وتطمس الهوية وتغسل الأمخاخ وتشفط القدرات على التفكير وتنفض الأيادي من مرجعيات الأخلاق والتقاليد والأعراف، وتخنق البدائل وتصنع الأفاعيل العقيمة؟ قلنا سابقا، وسنعيد تذكيرا وتحذيرا، إن العقلية التي لا تزال تدبر أمور إعلامنا العمومي تتقصد الامتناع عن تقدير وضعية ما يعرض على الأنظار من سخافات وحقارات ودناءات وتوافه بلا طعم أو ذوق. وهي بهذا التيهان المهلك والمفازة التي لا علامة فيها ولا استحقاق، تزيد من تقويض ذكاء المغاربة واستشعارهم بمغافل الاستحمار والاستغلال غير المبرر. وإن إدارة هذا القطب العمومي، التي لا تستحي من واقع التغيير وراهن العقل الرافض والمحتج على الاقتراف الشنيع في حقوق الحرية والتعبير وبإزائهما تحقق النزاهة والجودة والعطاء النبيل، لتسائل قانون إبقائها قيودا على رؤوس المغاربة وفزاعة تنصب في عمق هويتنا الوطنية واللغوية والأخلاقية والحضارية، بهدف التشويه والتحريف والتزييف والإذعان والمجاراة والتلف والتعييف. من يسأل عن ذلك كله؟ هل يساق القطيع على منوال ما تؤسس عليه ماكينة هذا الرهط، حتى لا يرى الناس ما هم بأحق العودة إليه؟ أم ترى لا تريد الدولة أن تطلق اليد الطولى لشاشاتنا، حتى لا يفعل الإعلام الحقيقي ما هو أهل له، كما ارتقى به وله دستور المملكة؟ شخصيا، لا أتصور انتقالا ديمقراطيا حقيقيا دون دمقرطة أجهزتنا الإعلامية العمومية. وما ينفثه المنظرون لاستمراره بهكذا شكل وقيمة، في كل علاماتهم السحرية وتربصاتهم الاحتيالية، كتسخير أيادي الاسترزاق لدحض مطالب تغيير هياكله وحاشريه إلى القحط واللامعنى، وتفتيق مثالب البروبجندا، التي ما فتئت تعززه وتسمنه وتروج له، يزيد من اتساع هوة تحويل أنظارنا لما هو أجدى وأنفع. أقول لكم مرة أخرى، أيها الحائرون في غلس الإصلاح، قول الشاعر العارف بخبايا النفس والوجدان: وَما المَرءُ إِلّا مَن يَضَنُّ بِنَفسِهِ إِباءً وَلا يَرضى مِنَ العِزِّ بِاللَفا وَمَن لا يَعيفُ الطَيرَ إِن سَنَحَت لَهُ وَإِن خالَطَ الماءَ اِمتِنانٌ تَعَيَّفا