فى السابع من شهر فبراير الجاري 2023حلّت الذكرى العشرون لرحيل القاصّ الغواتيمالي أوغوسطو مونطيرّوسّو . خلق هذا الكاتب من المرويّات الشعبية ،والخرافات، والحكايات، والأساطير، والحياة اليومية المعاشة قصصاً قصيرة اعتبرها العديد من النقاد من أجود القصص القصيرة في الآداب المكتوبة بلغة سيرفانتيس في العالم . " آنّا ماريا ماتّوتي"، الاديبة الاسبانية (جائزة سيرفانتيس في الآداب الإسبانية) تقول تقول عنه: "كان مونطيرّوسو كاتباً إستثنائياً في عالم الإبداع الأدبي، كانت قصصه القصيرة مبطّنة في معظمها بهالة من السّخرية والتهكمّ اللاّذعين، وكانت كلماته، وتعابيره، وأسلوب كتاباته في قصصه تبدو للقارئ وكأنّها شِعر منظوم أو عِقد موضون، فلا زيادة فيه ولا نقصان، بل كانت كلمات قصصه منحوتة كمرمر مسنون، ولا حشو يعلوها ولا إطناب، إنه كان يقول الكثير بإستعمال القليل الموجز من الكلمات، لم يكن مُقلاّ في كتاباته وحسب، بل كان مُقلاًّ في كلامه كذلك، مثلما كان مقلاّ في هيئته وشكله، كان قميئَ القامة، سمينَ الجسم،ولكنّه كان رقيقَ النفس، طريف الرّوح، وكان لون وجهه ورديّاً مثل الأطفال". ويقول عنه الناقد الكوبي من أصل إيطالي إيتالّو كالفينو في ذات السياق: "تعتبر القصص القصيرة التي أبدعها مونطيرّوسو من دون منازع من أجمل القصص في العالم، لقد كان هذا الكاتب بحقّ ظاهرة فريدة لا تتكرّر في عالم الآداب المكتوبة باللغة الإسبانية، كان بارعاً في الإيجاز البليغ، ومجيداً في الإختصار البارع، كان شخصية أدبية فريدة في بابها،". ويقول عنه الصّديق الحميم للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا مركيز الرّوائي والشاعر الكولومبي ألفارو موتيس: "تعرّفتُ على أوغوستو منطيرّوسو عام 1956 ، كان كاتباً جيّداً، وعالماً متفقها في اللغة الاسبانية، كنا نمضي ساعات طويلة ونحن نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، ونستمتع بقراءة رائعة سيرفانتيس " دون كيخوته دي لا مانشا"، لقد أعجبت إعجاباً كبيراً بأسلوبه الأصيل الذي يميّزه الوضوح، وتطبعه المرونة والمرح، ويتّسم بالزخم والقوّة، وعدم الإلتواء، كان معروفاً ومميّزاً بأسلوبه الشخصي، لدرجة أنه في إمكان القارئ الجيّد أن يتعرّف على أسلوبه حتى وإن لم يكن إسمُه مكتوباً إلى جانب عمله الأدبي". بين بورخيس ورولفو ومونتيرّوسُو يقارن أو يشبّه النقاد كتابات أوغوستو مونطيرّوسو بالأديب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس، في إعتماده،ورجوعه،وإغترافه، ونهله من بعض الخرافات، والأساطير، والحكايات، والقصص الغريبة، والمرويات الشعبية المتوارثة، ممّا جعله يخلق له عالماً أدبياً متميزاً خاصاً به، يقوم على إنتقاداته اللاّذعة للمجتمع، والملاحظات الذكيّة الدقيقة،الموفية والبليغة لبواطن الأمور. كما أنّ العديد من معاني قصصه، ومضامينها مستقاة، ومستوحاة في معظمها من الأمثال السّائرة، والحِكم المأثورة، والأشعار البليغة، بل ومن صلب المجتمع ذاته، إنه يحوّل كل ذلك إلى نصوص بالغة وبارعة في الإيجاز تقوم أساساً على التهكّم والإزدراء، والسخرية المرّة من مظاهر الحياة ومفارقاتها، و تبدوهذه الأعمال القصصية الإبداعية في مجملها وكأنها تنظر إلى المجتمع بمِجهر دقيق، وتشرِّحه بمبضعٍ حادّ. القاصّ المكسيكي المعروف خوان رولفو يقول عن قصصه، وعن فنّ كتابة القصّة القصيرة بشكلٍ عام: "القصّة القصيرة.. ضرباتُ فأسٍ هنا وهناك، وعملياتُ مراجعةٍ، وحذفٍ، وإضافةٍ، وطرح وجمعٍ، والقصّة لها فرصة واحدة في الزّمان والمكان، و يتقرّر حظّها في الحين مباشرة بعد مرحلتين إثنتين: كتابتها، ثمّ قراءتها. فأيّ طلبٍ، أو تعديلٍ، أو إضافةٍ، أو وصيّةٍ لاحقةٍ، أو تفسيرٍ أوشرحٍ أو تنميقٍ أسلوبيّ لها لا جدوى منه، بل إنّ ذلك كله قد يفسدها". سلطان السّخرية في أمريكا اللاتينية الروائي البيروفي (الحاصل على نويل في الآداب وعلى الجنسية الاسبانية) ماريو بارغاس يوسا كانت تربطه صداقة متينة بالكاتب أوغوستو مونطيرّوسو منذ سنوات بعيدة، إنه يقول عنه: "كان مونتيرّوسو رجلاً لطيفاً، طيّبَ المعشر، خفيفَ الظلّ، إنه واحد من هؤلاء الكتّاب القلائل المعاصرين الذين أعتزّ بمعرفتهم. كان إنساناً بسيطاً ومتواضعاً، يميل للسّخرية وهو من أقطاب النقد المبطّن بالتهكّم اللاذع وسلطان التهكّم في الأدب الاميركي اللاتيني المعاصر، وهو معروف بتضامنه وتعاطفه مع المُستضعفين والمُهمّشين، وكان معروفاً بأسلوبه المرح الخاص به، وبكتابة نصوص أدبية مفرطة في الإيجاز، إلاّ أنه كان يجعل من هذه النصوص على قصرها، وإقتضابها، وقلتها تتفجّر بالأفكارالنيّرة، وتحفل بالمعاني الكبيرة،والرموز العميقة وقد خلّف لنا عالماً أدبياً متميّزاً له بصمته الخاصّة به، وبطريقة كتابته ونوعية أسلوبه، إنطلاقاً من القصّة القصيرة، والقصّة القصيرة جدّاً على وجه الخصوص". وكان الكاتب والرّوائي المكسيكي الكبير كارلوس فونيتيس من أشدّ المُعجبين كذلك بأوغوستو موطتيرّوسُو، إنه يقول عنه: "كان معروفاً بجمالية نصوصه، بل لقد كتب أجملَ النصوص في الآداب الأميركية اللاتينية في القرن العشرين،فما كان يتطلب منّاّ كتابته في مئة صفحة، كان مونطيرّسو يُوجزه في صفحة واحدة أو في عبارة واحدة ". أقصوصة الديناصور أوغوستو مونطيرّوسو اشتهر بأنّه صاحب أقصر قصّة قصيرة جدّاً في العالم، وهي تحت عنوان: "الدّيناصور" وهي كما يلي: "عندما إستيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك."!.. هذه القصّة القصيرة للغاية على قصرها، وصغرها، تحفل بالإشارات، والإيماءات، والإيحاءات والمجاز . وقد كُتب عنها الشيء الكثير بمختلف اللغات، كما قيل في حقّ هذه الأقصوصة أنّ تفاسيرها ومجازاتها لا حصر، ولا حدّ، ولا حدود لها، إنها مثل الكون ذاته. هناك أقصوصة أخري قصيرة جدّاً عنوانها "المُهاجر" يزعم بعض النقّاد (وهم قلّة) أنها أقصر من قصّة مونتيرّوسو وهي للكاتب المكسيكي لويس فيليبي لوميلي: "هل نسيت شيئا؟ أتمنّى"، (إنتهت.)ولكنّ معظم النقاد الثقات (وهم كثر) يجمعون على أنّ هذه الأخيرة لا ترقى إلى مستوى وعمق ورمزيّة أقصوصة "الدّيناصور" . التي طبّقت شهرتها الآفاق، وما زالت تعتبر إلى يومنا الحاضر من أقصر الاقاصيص القصيرة جداً البليغة التي كتبت في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس وربما في العالم أجمع . الزّرافة ونسبيّة أنشتاين ! وفي ختام هذا العرض نقدّم للقرّاء الكرام نموذجاً للقصص القصيرة عند هذا الكاتب الفريد، وهي بعنوان: كلّ شئ نسبي".. ! وهي كما يلي: "منذ زمن بعيد، وفي بلد ناء، كانت تعيش زرافة ذات قامة متوسّطة، كان بالزرافة غفلة، إذ خرجت ذات يوم من الغابة وتاهت، فلم تدر أين تسير ولا أين تتّجه، فصارت تمشي على غير هدى من هنا الى هنالك، حاولت البحث عن طريق العودة فلم تهتد إليه، وهكذا، ظلت تتجوّل في أرض الله الواسعة، حتى وجدت نفسها في فجّ بين هضبتين حيث كانت تدور رحى معركة حامية الوطيس. على الرّغم من أن عدد القتلى كان مرتفعا في الطرفين، لم يستسلم المتحاربان، ولم يسمحا بالتفريط في سنتيمتر واحد من الأرض التي كانا يذودان عنها. كان الضباّط يحثّون جيوشهم على الصمود والإستمرار في القتال بضراوة، والسيوف مرفوعة إلى أعلى، في الوقت الذي كان الثلج يكتسب اللون الأرجواني بدم الجرحى. وبين تصاعد الدخان، ودويّ المدافع وضجيجها كنت ترى الموتى يتساقطون في صفوف الجيشين الذين يسلمون الروح في كل حين. الأحياء كانوا مستمرّين في إطلاق النار بحماسة منقطعة النظير، وهكذا حتى يأتي دورهم هم الآخرون في السقوط، إلا أنهم كانوا في تلك اللحظات يضعون في حسبانهم أنّ التاريخ سوف يذكرهم بفخر الأبطال، لأنّهم كانوا يهبون أنفسهم دفاعا عن شرف علمهم، أخذ التاريخ بالفعل إقدامهم وشجاعتهم بعين الإعتبار، وكان عادلا، فقد حكم وقضى بالقسطاس لصالح الطرفين بأنهم أبطال، إذ كل طرف كان يكتب تاريخه الخاص، وهكذا أصبح "ويلنغتون" بطلا مغوارا بالنسبة للإنجليز، وأصبح "نابليون" بطلا مقداما بالنسبة للفرنسيين. إستمرّت الزرافة في المشي، حتى وصلت إلى جانب من الفجّ حيث كان هناك مدفع كبير. وفي تلك اللحظة ذاتها إنطلقت رصاصة طائشة مرّت بالضبط على بعد عشرين سنتيمترا من رأسها من الجانب الأعلى، وعندما رأت الزرافة الرصاصة تمرّ بالقرب منها، وبينما كانت تتابع بنظرها طريقها، فكّرت وقالت: الحمد لله الذي لم يخلقني طويلة القامة أكثر ممّا أنا عليه، إذ لو كان عنقي يزيد ثلاثين سنتيمترا فلا بدّ أنّ الرصاصة كانت قد أصابتني في رأسي. والحمد لله كذلك على أنّ هذه الجهة من الفجّ، حيث كان يوجد المدفع، ليست منخفضة أكثر ممّا هي عليه، إذ لو كان إنخفاضها يقل ثلاثين سنتيمترا لكانت الرصاصة قد أصابت رأسي، ثم أردفت قائلة: الآن فقط فهمت أنّ كلّ شيء نسبي". (هذه الاقصوصة من ترجمة صاحب هذا المقال، وهي مُدرجة ضمن كتابه أنطولوجيا القصّة القصيرة في أميركا اللاتينية تحت عنوان: "عدالة الهنود وقصص أخرى"... ثلاثون قصّة قصيرة من الأدب الأميركي اللاّتيني المعاصر، الصّادر عن المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة – القاهرة، عام 2001). بقيت الإشارة ان أوغوستو مونطيرّوسو حاصل على جائزة" أمير أستورياس الاسبانية في الآداب "، التي تُعتبر من كبريات الجوائز الأدبية في إسبانيا وفى اللغة الإسبانية على العموم إلى جانب جائزتي "سيرفانتيس" و" بلانيتا" . هذا كما سبق له أن حصل على" جائزة خوان رولفو"، في القصّة القصيرة التي تعتبر من أكبر الجوائز الأدبية في الآداب الأميركية اللاتينية والكاريبي التي تمنح في المكسيك . تُضاف إلى ذلك جائزة الآداب الوطنية في بلده الأصلي غواتيمالا، بالإضافة إلى جوائز أدبية أخرى عالمية عديدة .ينحدر مونطيرّوسو من أصل غواتيمالي، وهو من مواليد الهندوراس في21 يناير 1921، والمتوفّى في 7 فبراير 2003 بالمكسيك . كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية -الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.