يعتبر موضوع الجهوية من أهم المواضيع التي استأثرت باهتمامها المجتمعات الحديثة، نظرا لارتباطه بترسيخ الديمقراطية و بناء صرح التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و تكريس العدالة المجالية من خلال توزيع الاختصاصات و المشاركة المحلية في صناعة القرار. و هكذا نجد معظم دول العالم في عصرنا الحالي يزداد اهتمامها بالمؤسسة الجهوية، كإطار ملائم للمساهمة في بلورة استراتيجية جديدة للتنمية؛ حيث نجد ألمانيا قد تبنت سياسة الجهة لتنظيم إداري و سياسي؛ في دستورها لسنة 1949، أما إيطاليا فقد تبنتها في دستور 1948؛ و إسبانيا في دستور 1978، حيث جعلت من الجهة العنصر الأساسي في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية. ﴿1﴾ أما في المغرب فقد انطلقت فيه الجهوية مع صدور ظهير 16 يونيو 1971، الذي أسس للجهة كأحد الشركاء و الفاعلين الاقتصاديين الرئيسيين للدولة إلى جانب المؤسسات العمومية و المقاولات الخاصة.لكن مع فشل هذه التجربة في تحقيق أهدافها التنموية، و عملا على مسايرة التحولات التي تفرضها التنمية الاقتصادية، و لمواكبة التطورات الإقليمية و العالمية عمل المغرب عل تثبيت برنامج تقويم هيكلي في إطار إصلاح إداري و دستوري، جعل المشرع يعترف بأهمية الجهة و يرتقي بها إلى مصاف الجماعات المحلية،﴿2﴾ كما هو مبين في المادة 94 من دستور 1992:′′ الجماعات المحلية بالمملكة هي الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية ، ولا يمكن إحداث أي جماعة محلية أخرى إلا بقانون′′﴿3﴾. و هو ما سيؤكده دستور 1996؛ و في هذا السياق صدر القانون 96 47 المنظم للجهات و الصادر بمقتضى الظهير الشريف 02 أبريل 1997، ليؤكد أن الجهة أصبحت وحدة ترابية لامركزية تتمتع بالشخصية القانونية و الاستقلال المالي و الإداري. و مع استمرار التناقض المجالي بين جهات المملكة مع النموذج الجهوي الأخير لسنة 1997، و عودة ثنائية المغرب النافع و المغرب غير النافع، بفعل سيادة السلطة المركزية و ضعف اختصاصات السلطة اللامركزية الجهوية؛ ستثور الحاجة إلى جهوية حقيقية تستجيب لمطالب التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المجالية، و لكن بمعايير علمية دقيقة، و وفق نموذج قادر على بناء أسس عدالة مجالية؛ تقوم على رهانين: ← الرهان الاقتصادي: يروم إلى الزيادة في مؤشر التنمية الاقتصادية، من خلال الرفع من الطاقة الإنتاجية للجهة، و تنويع مواردها الاقتصادية، و تعزيز إمكانياتها الطبيعية، بهدف تحسين مؤشرات التنمية البشرية؛ ← الرهان السياسي: يتعلق بتقسيم السلطة بين الدولة و السلطة المنتخبة، و وضع تصور جديد لها في علاقتها بهذه الأخيرة، عبر إعادة النظر في تحديد و تعريف دور الدولة تخفيفا من مهامها و مسؤولياتها في مجال اللامركزية. ﴿4﴾ لذلك سأقوم بمقاربة هذا الموضوع من زاويتين: 1: تصور الوثيقة الدستورية و تقاطعها مع خلاصات اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الجهوية المتقدمة بالمغرب؛ 2: الأوطونوميا أو التسيير الذاتي في إطار جهوية سياسية قائمة على المفهوم الجديد للدولة الموحدة، و ذلك على ضوء النموذج الاسباني و مقترح الحكم الذاتي للصحراء المغربية. ● تصور الوثيقة الدستورية حول الجهوية : لقد برز في الخطاب السياسي بالمغرب مصطلحين حول الجهوية سواء في الخطاب الرسمي، أو لدى الهيئات السياسية و النخب الأكاديمية، و هما الجهوية المتقدمة و الجهوية الموسعة؛ و لقد دأب الخطاب الرسمي على توظيف مصطلح الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية: ← المسيرة الخضراء ( 06 نونبر 2008) ؛ ← عيد العرش (30 يوليوز 2009) ؛ ← افتتاح البرلمان ( أكتوبر 2009) ؛ ← تنصيب اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الجهوية المتقدمة ( 03 يناير 2010) ؛ ← خطاب ( 09 مارس 2011). ← خطاب 17 يونيو 2011 . في حين أن الهيئات السياسية ( من خلال مذكراتها المتضمنة لمقترحات تعديل الدستور) و كذلك النخب الأكاديمية من خلال إصداراتها و مشاركاتها العلمية في أعمدة الجرائد و صفحات المجلات، دأبت على توظيف مصطلح الجهوية الموسعة. و انطلاقا من مضامين الخطابين فإن المصطلحين لا يخرجان عن سياق و معنى الجهوية القائمة على اللامركزية الإدارية التي تحتفظ بهيمنة و توجيه السلطة المركزية مع التوسيع الشكلي لاختصاصات الجهات على المستويين المالي و الإداري. إلا أن الدستور المغربي الصادر بتنفيذه ظهير 29 يوليوز 2011 فضل أن يستغني عن المصطلحين معا (5)، في كل الفصول من (135)إلى (146) الواردة في الباب التاسع تحت عنوان (الجهات و الجماعات الترابية الأخرى)؛ و هو ما يعني الإبقاء على نموذج الجهوية القائمة على اللامركزية الإدارية التي تحتفظ فيها السلطة المركزية بالوصاية؛ و سنبين ذلك من خلال التعقيبات الآتية: تندرج وظيفة الجهة من خلال الدستور الجديد (الفصل 137) في شقين: ● تفعيل السياسة العامة للدولة: و هو ما يعني تكريس التوجه الحكومي الذي يضع ضمن أولوياته قضايا المركز على حساب قضايا الهامش، في إطار ثنائية المغرب النافع و المغرب غير النافع ؛ ● إعداد السياسات الترابية من خلال ممثلي الجهة في مجلس المستشارين: دون الإشارة إلى توسيع صلاحيات البرلمان الذي يظل مقيدا في اقتراحاته و سلطته التشريعية أمام الحكومة التي تزاحمه بسلطة تنظيمية قوية تخول لها في أحايين كثيرة تجميد أو تعديل قوانين و قرارات سبق للبرلمان أن صادق عليها. و يعتبر القانون المالي أحد أبرز مظاهر تحكم و تقييد الحكومة لسلطة البرلمان، و هو ما سينعكس سلبا على مالية الجهات حيث سترهن مخططاتها التنموية بمدى الصلاحيات المخولة لغرفة المستشارين التي تمثل الجماعات الترابية داخل المؤسسة التشريعية كما هو وارد في (الفصل78) من الدستور؛ لذلك سأعمل على ذكر بعض أوجه سلطة التقييد الحكومي على البرلمان فيما يلي: ← تصويت البرلمان مرة واحدة على نفقات التجهيز التي يتطلبها في مجال التنمية و إنجاز المخططات التنموية الاستراتيجية و البرامج متعددة السنوات (الفصل 75) ؛ ← تصويت البرلمان مرة واحدة على النص المتناقش فيه من أجل التعديل، مع الاقتصار على التعديلات المقترحة أو المقبولة من الحكومة (الفصل 83) ؛ ← منح الدستور للحكومة وحدها صلاحية تقديم مشاريع قوانين ترمي إلى تغيير ما تمت الموافقة عليه في الإطار المذكور حول النفقات(الفصل 75) ؛ ← للحكومة الحق في أن تدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون ؛ ← للحكومة حق رفض المقترحات و التعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، (الفصل77) و (الفصل 83). تغييب الدستور الحالي لقواعد السلطة التنظيمية المحلية، و منحها إجمالا للحكومة في إطار وصاية تنظيمية و تشريعية؛ تحدد بموجب(الفصل 146) من الدستور في : ← شروط تدبير الجهات و الجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بينالانتدابات، و كذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة؛ ← شروط تنفيذ رؤساء مجالس الجهات و رؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى لمداولات هذه المجالس و مقرراتها، طبقا للفصل(138) ؛ ← الاختصاصات الذاتية لفئدة الجهات و الجماعات الترابية الأخرى، و الاختصاصات المشتركة بينها و بين الدولة و الاختصاصات المنقولة إليها من هذه الأخيرة طبقا للفصل (140) ؛ ← النظام المالي للجهات و الجماعات الترابية الأخرى ؛ ← مصدر الموارد المالية للجهات و للجماعات الترابية الأخرى، المنصوص عليها في (الفصل 141) ؛ ← موارد و كيفيات تسيير كل من صندوق التأهيل الاجتماعي و صندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليهما في (الفصل 142) ؛ ← شروط و كيفيات تأسيس المجموعات (من أجل التعاضد في الوسائل و البرامج) المشار إليها في (الفصل 144) ؛ ← المقتضيات الهادفة إلى تشجيع تنمية التعاون بين الجماعات، و كذا الآليات الرامية إلى ضمان تكييف تطور التنظيم الترابي في هذا الاتجاه ؛ ← قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر، و كذا مراقبة تدبير الصناديق و البرامج و تقييم الأعمال و إجراء المحاسبة. لا شك أن هذه الوصاية التنظيمية للحكومة التي حددها الدستور بشكل مفصل في (الفصل 146) على حساب قواعد التنظيم الجهوي، تنزع السلطة من الجهة و تقيد اختصاصاتها و تحد من مرونتها، و تفرغ (الفقرة الثانية من الفصل 140) من مضمونها : ′′تتوفر الجهات و الجماعات الترابية الأخرى في مجالات اختصاصاتها، و داخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها′′. تنحو الدساتير في البلدان الديمقراطية من خلال فصولها إلى تقريب واضح لاختصاصات الجهة و لرئيسها المنتخب بما يساعد على إجلاء الفرق في الاختصاصات بين سلطة اللامركزية و اللاتمركز؛ في حين أن الدستور المغربي لا يتطرق لعرض (و لو على سبيل العمومية) لاختصاصات رئيس الجهة، باستثناء إحالتين عابرتين: الأولى: في (الفصل 138) : ′′يقوم رؤساء مجالس الجهات و رؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى، بتنفيذ مداولات هذه المجالات و مقرراتها′′ ؛ الثانية : في (الفقرة الثانية من الفصل 143) : ′′تتبوأ الجهة، تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد و تتبع برامج التنمية الجهوية، و التصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية′′. كما يعتمد الدستور مفاهيم واسعة تحيل على فهم غامض لحدود الفصل بين اللامركزية و سلطة اللاتمركز ، من قبيل ما هو وارد في(الفصل 136) : ′′يرتكز التنظيم الجهوي و الترابي على مبادئ التدبير الحر، و على التعاون و التضامن، و يؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، و الرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة و المستدامة′′. تنصيص الدستور في (الأولى و الثانية من الفصل 145) على تمثيل ولاة الجهات و عمال الأقاليم و العمالات للسلطة المركزية في الجماعات الترابية، و يعملون باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، و تنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة و مقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية. بناء على السالف ذكره حول الوصاية التنظيمية للحكومة على الجهات، فإن الولاة و العمال سيحضون بتمثيل تلك الوصاية على رؤساء الجهات، بل سيتقاسمون معهم اختصاصات التنفيذ تحت مسمى ′′المساعدة′′، وذلك حسب منطوق (الفقرة الثالثة من الفصل 145) : ′′يساعد الولاة و العمال رؤساء الجماعات الترابية، و خاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات و البرامج التنموية′′. منع الدستور في (الفقرة الرابعة من الفصل 07) تأسيس الأحزاب السياسية على أساس جهوي، إشارة قوية إلى توجه الدولة المركزية نحو احتكار السلطة التنظيمية و التشريعية في إطار لامركزية إدارية تقوم على المقاربة الأمنية للحفاظ على المفهوم التقليدي للوحدة الوطنية أو الترابية؛ دون مراعاة لخصوصيات الجهات التاريخية و ما حققته من تراكم في التدبير و التسيير الذاتي لشؤونها الجهوية و المحلية (جهة الريف الكبير نموذجا) . ● التصور الوارد في تقرير اللجنة الاستشارية حول الجهوية المتقدمة: عرض مقارن بين اختصاصات رؤساء الجهات و الولاة و العمال. صلاحيات رؤساء المجالس: يحدد التقرير صلاحيات و اختصاصات رؤساء المجالس في النقط الآتية: رئيس المجلس هو الآمر بصرف المداخيل و النفقات المتعلقة بتسيير المجلس الجهوي؛ التنفيذ المباشر لقرارات المجلس ذات الطابع الإداري، الفردي أو الجماعي، أو ذات الطابع المعياري؛ توضع رهن إشارته وكالة لتنفيذ مشاريع الاستثمار التي يقررها المجلس الجهوي. ﴿6﴾ صلاحيات الإدارات المركزية / الإدارات الجهوية / العملات و الأقاليم: أما صلاحيات و مهام الإدارة، فيحددها التقرير في النقط الآتية: تضطلع الإدارة المركزية بمهام التوجيه و التصور و التنشيط و المواكبة و المساعدة و التقييم و المراقبة في اتجاه تفويض موسع بالتدريج للمهام الإجرائية و التدبيرية للمصالح الخارجية القريبة من السكان؛ تناط بالإدارة الجهوية مهام التنسيق و تحقيق التماسك بين برامج و أعمال المصالح و الهيئات العمومية، و أيضا مهمة التعاقد مع الإدارة المركزية و تتبع التفعيل؛ تقوم إدارة العمالات و الأقاليم بمهام إخراج الأعمال و المشاريع إلى حيز التطبيق، و بالصيانة و التدبير اليومي؛ نظرا لما للولاة و العمال من مهام السهر على تطبيق القوانين و الأنظمة و القرارات الحكومية و تمثيل الدولة في الجهات و العمالات و الأقاليم، ينبغي أن توكل لهم صلاحيات واسعة و فعلية ليتمكنوا من تنسيق المصالح اللاممركزة، و التأكد من حسن تسييرها و من حسن سير برامجها و مشاريعها في حدود دائرة اختصاصهم الترابي؛ ينبغي أن تجد مجالس الجهات و العمالات و الأقاليم و الجماعات في الولاة و العمال مخاطبيها المباشرين باسم الدولة بامتياز في علاقات تلك المجالس بمجموع الإدارات العمومية في مجالات الحصول على المعلومات و التخطيط و إنجاز المشاريع و المساعدة التقنية... لا مناص من تحديد مسؤوليات و صلاحيات الولاة، من حيث التنسيق بين المصالح اللاممركزة و مجمل الهيئات العمومية .. بقدر عال من الدقة و الوضوح؛ لزوم اعتماد آليات للتنشيط و التتبع و التقييم تجعل مسؤولية الولاة و العمال في التنسيق أمرا فعليا و ناجعا؛ يحاط الولاة و العمال علما بما يزمع عقده من مشاريع العقود / البرامج بين كل إدارة مركزية و بين مصالها اللاممركز، و لهم أن يدلوا بملاحظاتهم عنها قبل تبنيها...؛ يسهر الولاة و العمال على تتبع إنجاز البرامج و المشاريع، و لهم حق النظر في سير المصالح اللاممركزة و الاطلاع على نتائجها، مع حق استفسار و تنبيه القيمين عليها و اقتراح التدابير التصحيحية على الوزراء المعنيين عند الاقتضاء؛ يمكن للولاة و العمال أن يقترحوا على الوزراء المعنيين كل تجميع وظيفي للمصالح الخارجية ذات المهام المتقاربة؛ تبعا للصيغ التي سيحددها نص تنظيمي، يطلع الولاة و العمال بانتظام الوزير الأول و الوزراء المعنيين على تطور مسار اللاتمركز في مجال اختصاصهم الترابي و على رأيهم في تسيير المصالح اللاممركزة و سير مشاريعها و برامجها. ﴿6﴾ خلاصة ما نستنتجه، أن التقرير يقر بفاعلين أساسيين: ← الإدارات المركزية من خلال مصالحها الخارجية و الولاة و العمال بصلاحيات واسعة؛ ← المجلس الجهوي المنتخب بصلاحيات جد محددة. فبناء على صلاحيات الوالي أو العامل و كونه يمثل الدولة و الحكومة، و استنادا على المفهوم السائد ل اللامركزية و اللاتمركز، فكل تقوية لصلاحياته يصب حتما في النهاية إلى تعزيز سلطته كصاحب القرار في الجهة. ﴿7﴾ و سيتعزز هذا المنحى الذي سارت فيه اللجنة بفرض المراقبة على المجالس دون الإدارات، من خلال: الرفع التدريجي للمراقبة المسبقة بعد الحد منها ؛ تعزيز المراقبة البعدية على المجالس المنتخبة؛ الإبقاء على المراقبة القضائية و تعزيزها من طرف المجالس الجهوية للحسابات على شرعية الأعمال و القرارات الصادرة عن المجالس المنتخبة و رؤسائها. ﴿8﴾ إن هذا النموذج من الجهوية يبقي على الطابع الإداري لوظيفة الجهة، و يعزز هيمنة الدولة على جميع الوظائف. وهو توجه تتقاطع فيه الوثيقة الدستورية في تصورها حول الجهوية، مع تصور تقرير اللجنة الاستشارية لإعداد مشروع الجهوية المتقدمة. ● الأوطونوميا أو التسيير الذاتي: نحو اعتماد جهوية سياسية. تتخذ الأوطونوميا أو التسسير الذاتي للجهات، أشكالا متعددة و مختلفة بحسب طبيعة الدولة : بسيطة أو مركبة ؛ و بحسب نوع الجهات:تاريخية و قومية، أقاليم، مناطق جزيرية...لذلك سأقتصر في معالجة موضوع الأوطونوميا على نموذج الجهوية السياسية التي تحافظ على وحدة الدولة و سيادتها، على ضوء النموذج الجهوي الاسباني . مفهوم الجهوية السياسية: تعريف الدكتور حميد أبو لاس: ′′ تحتل الجهوية السياسية مكانة متميزة داخل التنظيم الإداري و السياسي، فهي تتقاسم مع السلطة المركزية الوظائف السياسية في الميدان التشريعي و التنظيمي؛ و قواعدها محددة دستوريا. و هي تمثل أعلى مستوى من مستويات اللامركزية الترابية دون الوصول إلى مستوى الدولة الفيدرالية التي تتوفر فيها الجهة على سيادتها التامة مع احترام القوانين الاتحادية′′ (10) تعريف الأستاذ عبد الكبير يحيا : ′′تعتبر الجهوية السياسية أقصى درجة اللامركزية في إطار الدولة الموحدة دون الوصول إلى مستوى الدولة الفيدرالية التي تتوفر فيها الجهة على سيادتها... و الجهوية السياسية أساسها دستوري ... و تمثل سلطة سياسية حقيقية متميزة عن سلطة الدولة...و هي أعلى مرتبة في مستويات اللامركزية الترابية، إذ لا تتوفر فقط على اختصاصات إدارية و إنما أيضا لها اختصاصات تشريعية و تنظيمية أصلية محددة دستوريا′′(11) يتبين من خلال التعريفين أن الجهوية السياسية تقوم على أساس دستوري كضمانة أساسية لتوزيع الاختصاصات بين المركز و الجهات، و امتلاكها للسلطة التنظيمية و التشريعية ، وهي عموما تعبير عن الارتقاء الديمقراطي ، و اعتراف بالخصوصيات التاريخية و الثقافية و القومية المتعددة داخل البلد الواحد لمنع الانفصال أو الاستقلال الوطني. نموذج الجهوية السياسية بإسبانيا(12) تعتبر التجربة الاسبانية نموذجا متميزا في الجهوية ′′ فالبعض اعتبرها نموذجا غير موحد و آخرون اعتبروها كدولة موحدة جهوية و البعض الآخر ينعتها بدولة الاستقلاليات في حين يرى البعض أنها تقارب الفيدرالية′′ عكس هذا فإن الكل يؤكد جذورها التاريخية ، فرغم غلبة مدد المركزية الشديدة في التاريخ المعاصر لإسبانيا فإنه تخللته مراحل ميزها نهج لا مركزي واضح كان انعكاسا لتجارب ديمقراطية وقتية ،ستكون فيما بعد النواة الصلبة لما سيتضمنه دستور 1978؛ هذا الدستور الذي كاد أن يتم وأده في المهد بسبب التباعد الكبير بين أطروحتين: أطروحة اليمين المحافظ المتشدد المنتصر للوحدة، و التيار الراديكالي الداعي إلى الانفصال، لولا التوافق حول الحلول التي تقدمت بها كافة أطياف الأحزاب السياسية الممثلة في اللجن التأسيسية المنتخبة لإعداد الدستور. وقد أمكن الإسبان التوافق نظام الحكم الذاتي الذي ترجمه دستور 1978 في فصله الثاني و الجزء الثامن المعنون بالتنظيم الترابي للدولة(الفصل 137 إلى 158) حيث جاء بوحدة ترابية جديدة هي المجموعة المستقلة, اختارت إسبانيا في النهاية شكلا وسيطا تميز عن الدولة الموحدة و لم يبلغ درجة الدولة الفيدرالية، تسمى ′′بدولة المجموعات المستقلة′′ هذه المجموعات التي سيصل عددها إلى سبعة عشر مجموعة جاءت مختلفة فيما بينها و ذلك يعود لتاريخ كل واحدة منها و إلى هوياتها الثقافية و كذا لتباعد تطلعات كل واحدة منها، و هو ما سيؤثر فيها على درجة استقلاليتها و قبل ذلك في كيفية حصولها على استقلالها الذاتي. إن دستور 1978 أتى بمستويين للحكم الذاتي مع ترك الباب مفتوحا لحالات خاصة هما: الطريق السريع لبلوغ الحكم الذاتي و الطريق العادي. المستوى السريع و الكامل في الحكم الذاتي نظمه الفصل 151 من الدستور و هوموجه أساسا للقوميات و الجهات التاريخية التي صادقت على أنظمتها الأساسية في استفتاء شعبي، و قد انطبقت هذه الحالة على بلاد تالباسك ، كاطالونيا، كاليسيا، نافارا؛ المستوى الثاني المسمى بالعادي فقد نظمه الفصل 143 من الدستور و فيه المبادرة من أجل نيل الحكم الذاتي تحتاج فقط إلى التصويت الايجابي للمجالس الاقليمية و ثلثي البلديات الممثلة على الأقل لنصف ساكنة كل إقليم أو جزيرة ، دونما حاجة إلى استفتاء. و من المجموعات التي نالت حكمها الذاتي بهذه الطريقة، نجد: أستورياس، كانتابريا، لاريوخا، مورسيا، فالنسيا، أراكون، كاستيا لامنشا، كانارياس، إكسترامادورا، جزر البليار، مدريد، كاستياوليون. و إذا ما صودفت حالات خاصة لم يستطع المستوى الأول و لا الثاني حلها فإنه يتم اللجوء إلى الفصل 144 من الدستور و في هذه الحالة المبادرة تنبع من الكورتيس بواسطة قانون تنظيمي. و إذا كانت المجموعات المستقلة تختلف في طريقة حصولها على حكمها الذاتي فإنها تشترك في الهياكل التي تنظمها حيث تتوفر كلها على رئيس و برلمان و حكومة ، هذه الأجهزة التي تعمل بالتزامن مع المؤسسات المركزية تجد مرجعيتها و مشروعيتها في الانتخابات الشعبية المنظمة و المؤطرة في النظام الأساسي لكل مجموعة مستقلة. و تعتبر المبادرة المغربية لمنح الأقاليم الصحراوية حكما ذاتيا في إطار التفاوض الأممي حول إيجاد حل نهائي و توافقي على قاعدة لا غالب و لا مغلوب إحدى نماذج الجهوية السياسية التي تأثرت بالنموذجين الاسباني و الإيطالي كونهما أثبتا جدارتهما في تحقيق الاستقرار و سلوك مدارج الارتقاء الديمقراطي. حيث سيتولى سكان الصحراء و بشكل ديمقراطي تدبير شؤونهم بأنفسهم من خلال هيئات تشريعية و تنفيذية و قضائية، تتمتع باختصاصات حصرية ( البند الخامس من نص المبادرة) تحتفظ فيها الدولة باختصاصاتها في ميادين السيادة، لا سيما الدفاع و العلاقات الخارجية و الاختصاصات الدستورية و الدينية للملك.(البند 6) كما سيخضع نظام الحكم الذاتي، المنبثق من عن المفاوضات لاستشارة استفتائية للسكان المعنيين طبقا لمبدأ تقرير المصيرولأحكام الأممالمتحدة(البند 8) أهم مؤسسات المبادرة: ← مندوب الحكومة (البند 16) ؛ ← حكومة جهوية برئيس منتخب (البندين 20 21) ؛ ← برلمان جهوي (البند 18) ؛ ← محاكم جهوية (البند 22)؛ ← المحكمة العليا الجهوية ( البند 23)؛ ← مجلس اقتصادي و اجتماعي (البند 26)؛ ● جهة الريف التاريخية و مسوغات استحقاقها لجهوية سياسية: يتعزز المدخل الحقوقي في مقاربة موضوع جهة الريف التاريخية، عند عرضنا للحجم الهائل من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، بما فيها ارتكاب جرائم ضد الانسانية، التي خضعت لها المنطقة من الفترة الاستعمارية إلى ما بعد دولة الاستقلال، لذلك كان من المنطقي جدا لو أن اللجنة تعاملت مع جهة الريف الكبير أسوة بالنماذج الديمقراطية العالمية ﴿21﴾ ، من منطلق مقاصد العدالة الانتقالية، بدل تهميشها في كل أطوار و مراحل إعداد التقرير و خلوصها إلى نموذج مفتت و مجزء يعكس بؤس المقاربة الأمنية، أي ما اصطلح عليه بجهة الريف الشرق. و هذه بعض الأسباب الموجبة لإعمال المقاربة الحقوقية، و لتطويع آليات العدالة الانتقالية مع جهة الريف الكبير: ← قصف المنطقة عبر الطائرات بأسلحة الغازات السامة المحضورة دوليا بموجب معاهدة فرساي 1920، و بروتوكول جنيف 1925،﴿ اللوست/الفوسجين/الفسفور الأصفر...﴾ واستمرار انعاساتها الخطيرة على ساكنة الريف الكبير من خلال إصابتهم بأعلى نسبة مرض السرطان على الصعيد الوطني. ← التجنيد القسري لأبناء الريف في الحرب الأهلية الإسبانية 1936 1939، خاصة في صفوف الأطفال ، و ذلك تحت ضغط الجوع و الجفاف و التهديد، و هو ما يعني إفراغ المنطقة من الموارد البشرية النشيطة. إضافة إلى ما خلفته هذه الحقبة الاستعمارية التي قاربت الخمسين سنة، من تأخير لنموها الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي، و ذلك بعد القضاء على المشروع الإصلاحي النهضوي الذي كان قد بدأه الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي على صعيد الإدارة و المجتمع في بداية القرن ﴿20م﴾. ← التصفية الممنهجة لجيش التحرير: اختطافات / إعدامات خارج القانون / تعذيب في المعتقلات السرية ب تطوان، القصر الكبير، شفشاون، العرائش، تاونات، تازة، الناظور، الحسيمة... بسبب إيمانهم بالكفاح المسلح ضد المستعمر الغاشم، و هو ما يتناقض مع مصالح المحميين الجدد لدى المتربول الفرنسي. ← انتهاكات الدولة و جرائمها ضد الإنسانية في شخص حكومة عبد الله إبراهيم من خلال قمع الانتفاضة المجيدة 1958 1959 بسلاح الطيران الفرنسي... و استمرار هذه الجرائم مع حكومات لاحقة عبر القمع بالرصاص الحي للانتفاضات الشعبية ذات البعد السلمي، احتجاجا على التهميش و الأوضاع المعيشية المزرية في سنتي 1984 1987... ← الجرائم البيئية: المتمثلة في التدمير الممنهج للغطاء الغابوي و النباتي بالريف سواء في الفترة الاستعمارية التي اجتثت غابة الأرز، أو في دولة ما بعد الاستقلال التي تغض الطرف عن لوبيات المال و العقار التي تعمل على تحويل المساحات الخضراء و الاستغلاليات الزراعية إلى غابات اسمنتية