بعد أن كان المعتصمون متجمعين في ميادين متحكم فيها من قبل المنظمين داخليا، ومن الشرطة والجيش خارجيا، انفرط العقد الآن إثر اقتحام الشرطة والجنود لهذه التجمعات البشرية السلمية بالرصاص الحي وبشكل عنيف. ولا شك أن أعداد القتلى ستكون بالمئات والجرحى بالآلاف في الساعات الأولى من الهجوم، أما الحصيلة النهائية فسوف تكون كارثية بالمعنى الحقيقي بعد حين لما سيكون للفاجعة من آثار جانبية ومن ارتدادات لاحقة عاجلة وآجلة. و من دون الدخول في التفاصيل التي ليس مجال الخوض فيها واضحا، ومن دون البحث في شرعية الاحتجاجات من عدمها يجب بداية القول إن الهجوم على المتظاهرين السلميين بالأسلحة الرشاشة والدبابات والمدرعات لا يقبله أي منطق ولا أي قانون. ليس في هذا الهجوم سوى دليل بيّن على همجية الفعلة الشنيعة التي ما كان للجيش أن يقدم عليها لولا مباركة بعض القوى الوطنية وتأليب خارجي. وهذا يوضح بجلاء الوجه الحقيقي للحكم العسكري الذي كان يتقنع بالسادات ومبارك. نتذكر جيدا خطاب السيسي الذي دعا فيه دعوة صريحة للعنف مقسما الشعب المصري إلى شرفاء وغير شرفاء. وغير خاف ما لهذه الدعوة من تحريض على الفتنة والإرهاب المجرّم دوليا. ومن منا ينسى قولته الشهيرة "إن الجيش المصري أسد والأسد لا يأكل أبناءه" ولكنه تناسى تذكير شعبه أن الأسد يمكنه أن يقتل أبناءه إن رأى منهم منافسة أو مطالبة بحقوقهم. وهو ما صرح به وزير الداخلية مساء الأربعاء 14 غشت حين اعتبر أن قتل 148 مصريا يعتبر إنجازا (وهذا الرقم كذبته حصيلة وزارة الصحة في اليوم الموالي حيث أعلنت 343 حالة فيما تذهب المنظمات الحكومية إلى سقوط أكثر من 2000 قتيل). وهذا يبين بخس قيمة الدم العربي والإسلامي فما فقتلت الشرطة والجيش في بضع ساعات لم تقتله إسرائيل في هجومها على غزة في 22 يوما. ما نشاهده اليوم من تقتيل وترويع للمرابطين في الساحات سلميا من أجل استرجاع الحقوق هو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا، وسوف تكون انتكاسة مخزية لكل اعتدال في العالم العربي والإسلامي. وإن لم تتحرك الدول الكبرى عاجلا لحماية الشعب الأعزل واسترجاع الشرعية وتقديم الإنقلابيين للعدالة سوف تشهد المنطقة انفلاتا أمنيا تنعكس سلبياته على المحيط الإقليمي والدولي بأوخم العواقب ويكون من العسير جدا أن لم يكن مستحيلا استتبابه لاحقا. إن هول المشهد سوف يربك الحسابات الظرفية لبعض القوى الوطنية التي راهنت على حسن نية العسكر، كما سيحرج الدول العظمى التي تُسوّق الديمقراطية عبر أبواقها في الدول المتخلفة. فهي كانت وما تزال تدعو الإسلاميين إلى القبول بالديمقراطية ونبذ العنف والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ولكن حين قبل هؤلاء باللعبة وأعطتهم الانتخابات الفوز الساحق انقلبوا عليهم، وحين أرادوا المطالبة باسترجاع حقوقهم المشروعة بالوسائل القانونية المتعارف عليها والمضمونة عالميا نكل بهم وسجنوا وقتلوا. أعداد القتلى والجرحى تجاوز كل المقاييس، وكشفت عن مجزرة رهيبة يندى لها جبين الإنسانية، وتُنكس لها شعارات العالم الحر الذي بقي شبه صامت على الرغم من هول الجريمة. فلا تكافؤ بين الفريقين؛ فهؤلاء بالعصي والحجارة وأولئك بكل أنواع الأسلحة العصرية التي لا تستعمل إلا في الحروب. شعب أعزل داهمته سيول من الجيوش الجرارة وطوقته من كل مكان فأثخنته جراحا وأشبعته قتلا وفتكا وتنكيلا. إنها قمة الوحشية التي لا وجود لتوصيف دقيق لها في معاجم اللغة والقانون، ولعلها أيضا بداية تصدع حقيقي للدولة المصرية التي لن تخرج منه، إن لم تتدارك أخطاءها، إلا بعد مرور أجيال لاحقة. وإن كان يستحيل التكهن بالمستقبل إلا أن ما يمكن قوله بكل اطمئنان هو أن السيسي ومن يقف معه أو وراءه نجحوا في تفكيك الوحدة الوطنية بزرع بذور الخلاف أثناء اعتصامات 30 يونيو المفبركة في غالبيتها من حيث تضخيمها ومن حيث ترغيب جانب بالمال والمستقبل الواعد والديمقراطية، وترهيب جانب آخر بالتعنيف وسوء المآل. وأقبروا آمال التسويات السلمية بعد سيلان أنهار من الدماء. إن مآل المنطقة بأسرها في كف عفريت. وتاريخ الإخوان المسلمين تاريخ سلمي في مجمله لذلك نتمنى ألا يجرهم بعض المتهورين إلى البحث عن الثأر فيحدث، لا قدر الله، ما عاشته الجزائر مع جبهة الإنقاذ أو ما تعيشه سوريا حاليا، كما نرجو أن تعي المؤسسة العسكرية خطورة ما أقدم عليه الفريق أول السيسي فتقدمه قربانا للوطن عوض أن تتصدع جبهتها القوية، ويعلوها شرخ الانقسامات. فالسيسي أظهر انحيازه المطلق لفصيل ضد فصيل آخر منذ أشهر خلت وهو ما لا يؤهله لقيادة المرحلة المقبلة بغض النظر عن تلطيخ أياديه بالدماء حاليا. إن القوة يمكن أن تفرض وضعا معينا في أي بقعة من العالم لمدة قد تطول أو تقصر كما هو الحال في فلسطين مثلا، ولكن يستحيل معها الاستقرار من دون توافق سياسي. فالوضع في مصر الآن مرشح لكل الاحتمالات وأضحى رقعة شطرنج مكشوفة للهواة والمحترفين والمتفرجين، فإذا ما وضعنا في الاعتبار صعود نجم القوتين الإقليميتين الإسلاميتين تركيا وإيران، وخوف أمريكا وإسرائيل من تنامي صعود دول إسلامية أخرى تشكل في المستقبل أرخبيلا عازلا وسوقا إقليمية كبيرة لها من مقومات السيادة المستمدة من الشعب ما يجعلها تتمنع عن الانقياد المجاني لأمريكا وأوربا. لذلك من السذاجة أن يكون الربط آليا بين الإخوان والعسكر وبعض مسانديهم العلمانيين. لقد نجح السيسي في نقل الصراع السلمي بين الأطياف السياسية من أجل بناء دولة ديمقراطية إلى صراع بين الإخوان وبين العلمانيين لتلعب المؤسسة العسكرية في الوقت الضائع. إنها تعلم جيدا كيف يمكنها خلق أسباب الشقاق والفرقة التي تجعلها تتحكم في السلطة أولا من خلال إعادة الأجهزة الأمنية السابقة المكلفة بأمن الدولة وإعادة حالة الطوارئ وخلق مشاكل قد تؤجل التفكير في العودة إلى الديمقراطية، وهو ما يمنحها الوقت الكافي لترتيب الملفات، وتحييد كل الدلائل، وإقبار بعض الملفات المحرجة لإضفاء صفة الجريمة الكاملة على عهد العسكر. تحدث المناوئون لمرسي وشرعيته عن وجود أسلحة ثقيلة في ميادين الاعتصامات، كما أشاروا إلى وجود تعذيبات لبعض معارضيهم، وهي أمور في غاية السخافة. فإن كانت الأسلحة الثقيلة موجودة في الميادين فلم لم تستخدم للدفاع عن النفس؟ وإن كانت بعض التعذيبات من قبل هؤلاء أو أولئك فهل يمنح ذلك للشرطة والعسكر حق القتل في الشوارع أمام الملأ وأمام عدسات الإعلام من دون محاكمات عادلة؟ خلاصة القول لابد أن الضمير الحي للأمة سوف يصحو، وأتوقع استقالات من أجهزة الدولة واحتجاجات شعبية في جميع أنحاء العالم تنديدا بالقرار القاضي بتفريق الاعتصامات بالقوة المفرطة. وإن لم تتدخل الدول الصديقة لتقريب وجهات النظر بين الفئتين فإن الغد سيكون أكثر عتمة، ومصر سوف تدخل دوامة عنف عصابات في أقل الحالات خطرا ودوامة حرب أهلية لا قدر الله إن أصيبت المؤسسة العسكرية في عقيدتها وشكك البعض في ولائها لغير الوطن.