عندما يتأنسن ويترحمن الأنسان، بغض النظر عن ثقافته أو دينه، أو عرقه، ترى قلبه ينبذ الحقد، والضغينة، والعنف، وتكون روحه متسامحة وصبورة، وخير مثال على ذلك المهاتما غاندي رحمه الله، الذي حرر الهند من الانجليز المحتلين بالصمت! وكان يعالج مشاكل امته بالصبر، والصوم (الاضراب عن الاكل)! هذا الرجل العملاق كان هندوسياً، وحتما إستمد هذه السماحة من دينه، في حين أن ديننا أيضاً دين سماحة، بل هو دين الرحمة، وإن نبينا نبي الرحمة، اقرأ قرآننا ماذا يقول في سورة الانبياء: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " الآية 107. أليس حرياً بنا نحن الشعوب الاسلامية أن نتميز عن سائر الشعوب بالرحمة؟ ما لاحظته في مجتمعاتنا العربية والاسلامية أن الغالبية قلوبهم خالية من الرحمة! بدءاً من قمة الهرم الدولة، الى قاعدة الهرم الاسرة والمواطن! قرارات دولنا معظمها تعسفية وخالية من الرحمة مع ابناء الوطن وشعوب دول الجوار، محاكمنا مرعبة في أحكامها التعسفية، لم اسمع في العالم أن يعدم الانسان بالمتفجرات، أو إذابته بأحواض الحوامض مثل حامض النتريك أو الكبريتيك، أو يفرم (يطحن) بمكائن خاصة أُعدت لهذا الغرض، تفرم البشر ثم رمي لحمه المفروم للاسماك في النهر، أو رمي الانسان من شاهق بعد ان تعصب عيناه وتكبل يداه، او فصل رأسه عن جسده بعد ان يقلع لسانه! نعم هذا حصل في العراق، وفي دول عربية واسلامية كثيرة! في حين الدول العلمانية الحديثة الغت عقوبة الاعدام كي لا يقتلوا انساناً ظلماً وان كان احتمال الظلم قليل، كما ان بعض الدول تبقي المحكوم بالاعدام عقود من الزمن في السجن يبحثون جريمته بدقة كي لا يعدموه ظلماً، واذا لا بد من إعدامه تراهم ابتكروا طرقاً رحيمة بأعدامه، كأن يخدروه كي لا يتألم، أو بصعقة كهربائية أو بجرعة سم. أما مدارسنا فهي مرعبة بعنفها، أتذكر عندما كنت صغيراً في الابتدائية يومياً أدعو الله أن يخسف الارض بمدرستي! وعندما تمطر السماء في الشتاء مطراً غزيراً كنت أفرح، وأعتقد ان الله إستجاب دعوتي وسوف يهدم المطر مدرستي! اتعرفون لماذا؟ لانهم كانوا يمارسون الارهاب معنا ويعاقبوننا "بالفلقة" لاتفه الاسباب ونحن أطفال لا حول ولا قوة لنا! (الفلقة هي ضرب القدمين بعصى الخيزران، بعد ان توثق بالحبل). أما في البيت، كان الاب والعم والخال في كثير من الاسر ارهابيين، لاتفه الاسباب يعاقبون الابناء بالصفع على الوجه والرأس وخلف الرقبة، واحياناً تصل الى الرفس واللكمات في الوجه! والبعض يضرب بالنعال وهذا يعني الم جسدياً ونفسياً، لما يلحقه من التحقير! هذه هي عقليتنا في التربية لذلك اصبح العنف هو جزأ لا يتجزأ من ثقافتنا! الموضوع ممكن يتسع، بأختصار: نحن أقوام قلما تحوي قلوبنا الرحمة والشفقة، وسوف اسلط الضوء في مقالي هذا على الظلم الذي لحق بشريحة مهمة من المجتمع العراقي، وهم العراقيون ذوي الاصول الفارسية (التبعية الايرانية). أنا متأكد من أن فينا ومنا اناس يفرحون لظلم هذه الشريحة لا لسبب إلا كونهم من اصول فارسية! وإن هذه الظاهرة موجودة في كل المجتمعات العربية والاسلامية او ما يشابهها، مثلا يُكرَهْ الانسان على اساس مذهبه، او عرقه، أو لونه، ومثال على ذلك يُكره لان اصله فارسي، او كردي، او امازيغي، او عربي، أو شيعي، أو سلفي، أو زيدي، أو سني، أو سحنته داكنة...الخ، وقبل أن أخوض في عمق الموضوع لا بد من أن اوضح كيف أوجدت هذه الشريحة في المجتمع العراقي؟ عزيزي القاريء، المدائن كانت عاصمة كسرى تقع في بغداد وبغداد اسم اعجمي وليس عربي حتى في علم الصرف لا يصرف لانه اسم عجمة، والعراق يمتلك حدود مع ايران من شماله حتى آخر نقطة من الجنوب اي حوالي الف وأربعمائة وخمسون كيلومتر، وعقلية الايرانيين ليس بدوية، فهم ليس عندهم ما يمنع من تزويج بناتهم للاجنبي، على العكس من الشعب العراقي الذي يتمتع بعقلية بدوية تمنعه من تزويج بناته للاجنبي استنكافاً (أنا أزوج بنتي لشخص فيه رس العجمة؟؟ مستحيل)! لذلك تزوج كثير من العراقين بالايرانيات، خاصة وهن يتمتعن بالجمال وفنانات في تدبير الشؤون المنزلية، هذا حصل على مدى التاريخ واختلطت دمائنا معهم، فمن الطبيعي تجد عندنا في العراق عوائل لها اصول فارسية، وعدد هذه العوائل ليس قليلاً، ومنهم ظهر علماء أجلاء، وأساتذة في الجامعات والمدارس، وكتاب، وشعراء، وموظفون كبار، وتجار كبار، وحرفيون مهرة خاصة في البناء، والميكانيك (تصليح السيارات) والخياطة، وصناعة الخبز والمعجنات، والحلويات، وغيرها من الحرف المهمة، هم عراقيون اباً عن جد بالولادة، ولا يمكن لاحد ان يشك بوطنيتهم، وأحدهم شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري الذي يذوب حبا في وطنه العراق، وشعره يؤكد ذلك: يا دجلة الخير يا نبعا افارقه على الكراهةِ بين الحين والحين إني وردتُ عيون الماء صافيةً نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني أيضاً، كانت الدولة العثمانية تجند العراقيين إجبارياً على اعتبارهم رعاياها، والامبراطورية العثمانية كانت كبيرة ومترامية الاطراف، وكان العراقيون لا يرجعون الى الوطن عندما يجندون في الجيش التركي العثماني، لذلك التجأوا العراقيين الى السفارة الايرنية لتجنيسهم بالجنسية الايرانية كي يتخلصوا من التجنيد (الجندرمة) ومن هنا برزت في النسيج العراقي مجموعة جديدة تحمل الجنسية الايرانية في حين هم عراقيين! نفس الشيء عمل العراقيين من الكرد الفيلية بالتجنس بالجنسية الايرانية تخلصا من التجنيد الالزامي (الجندرمة) وكذلك التخلص من ظلم الدولة العثمانية لهم على أعتبارهم شيعة، هؤلاء الكرد الفيليين والعرب كتبت على وثائقهم تبعية ايرانية ! في حين هم عراقيين أبا عن جد، ، لكن النظام الصدامي استغل اوراقهم القديمة على اعتبارهم تبعية ايرانية وقام بمصادرة جناسيهم العراقية ومصادرة اموالهم المنقولة وغير المنقولة ورميهم على الحدود الايرانية! اذن صار واضح امامك عزيزي القاريء كيف أوجدت هذه الشريحة من العراقيين (التبعية الايرانية). يا سيدي، مهما تكن لبقاً، حتى ولو كنت شاعراً فحلا مثل المتنبي أو شكسبير، لا يمكنك أن تصف الاجحاف والظلم الذي طال هذه الشريحة من العراقيين! لايمكنك وصف ثانية من ثواني الرعب التي عاشتها الامهات خوفا على بناتهن من الاغتصاب، أو على ابنائهن الشباب الذين تنتظر تخرجهم من الجامعات ان يعدموا! لايمكن وصف معاناة اعداد هائلة من البشر بشكل مفاجيء تصادر جناسيهم، وابنائهم، وبيوتهم، وسياراتهم، وذهبهم، وأموالهم ويرمون على الحدود الايرانية العراقية في منطقة المنذرية فقط بملابسهم، ويقال لهم اذهبوا الى وطنكم ايران، وان العراق لم يعد موطنكم، لايمكن على الاطلاق، أن تصف هذه الآلام الا أن تعش فصولها لحظة بلحظة بنفسك! بعد انقلاب البعثيين على عبد الرحمن عارف في تموز من عام 1968 بدأت فصول مظالم هذا المكون من الشعب العراقي (التبعية الايرانية) حيث أخذ النظام البعثي العفلقي يعد العدة لتهجير هؤلاء الى ايران، وبدأوا بتنفيذ مخططهم في العام 1971 في عهد الرئيس أحمد حسن البكر، هذا الرئيس كان أكثر تعقلا من صدام بحكم السن، فكان في البداية يهجر فقط أبناء الجالية الايرانية التي تحمل وثائق الاقامة من وزارة الداخلية، وكان يسمح لهم بأخذ ممتلكاتهم معهم، وقسم منهم كانوا يمتلكون دوراً مسجلة بأسم عراقي من معارفهم لم يتسن الوقت لهم ببيعها رجعوا بعد اتفاقية الجزائر عام 1975 مع شاه ايران وباعوا ممتلكاتهم ورجعوا بها الى ايران، ما عدا أعداد بسيطة منهم غدر بهم الذين أئتمنوهم! لكن الطامة الكبرى حدثت عندما ازاح صدام البكر واصبح هو الرئيس الرسمي والفعلي، في نهاية السبعينات، أخذ يلقي القبض على العراقيين الذين عندهم اصول ايرانية قديمة جدا، مثلاً اتوا الى العراق قبل قرون من الزمن، وكذلك شريحة (التبعية الايرانية) التي وصفتها فيما سبق، ويصادر وثائقهم العراقية، من البطاقة الشخصية، وشهادة الجنسية، ودفتر الخدمة العسكرية، والهوية العسكرية او الجامعية أو أي وثيقة أخرى، كذلك يصادر كل أموالهم المنقولة وغير المنقولة وحتى مقتنياتهم من الذهب والفضة، وسياراتهم، ويفصل عنهم الشباب ذات الفئة العمرية من 17-40 سنة ويضعهم في السجون، ثم يرمي اسرهم على الحدود الايرانية ويهدد بالقتل كل من يرجع!! ممكن يعتقد القاريء بأن رميهم على الحدود خالي من المخاطر! بل العكس كانت المخاطر تلاحقهم لكثرة حقول الالغام التي زرعها الجيش العراقي في ذلك الحين بسبب الحرب الظالمة التي شنها صدام التكريتي على الجمهورية الاسلامية الايرانية، أيضاً برودة الطقس خاصة في ايام الشتاء وبين هؤلاء الناس شيوخ وعجزة، واطفال، ومرضى غير قادرين على عبور الحدود في هكذا طقس، وهكذا تضاريس أرضية صعبة، فمات الكثير منهم ودفنوا في نفس المكان!! تخيل نفسك عزيزي القاريء انت واحد من هؤلاء الناس، ويموت امامك أبيك الهرم، أو ابنك الصغير، اوتلد زوجتك في ذلك الحين كي تعرف مدى الالم الذي لحق بهم! في البداية سجنوا الشباب في سجن رقم واحد في بغداد، والعجيب كان يسمح لمعارفهم بزيارتهم! على ما اعتقد كي يلقوا القبض عليهم فيما بعد! بعدها سجنوهم في سجن ابي غريب، وهناك ثار الشباب في السجن وقتل حوالي الف شخص منهم، ثم نقلوا بقية الشباب الى سجن نكرة السلمان، وبعدها أغلبهم صفوا إلا اعداد نادرة جدا اطلق سراحهم، لا اعرف سبب اطلاق سراحهم، يقال انهم عملوا كجواسيس للجيش العراقي بعد ان ساوموهم! أنا بنفسي قابلت عدداً منهم بعد اطلاق سراحهم وسألتهم عن بقية السجناء وأحوالهم لان لي اصدقاء وزملاء دراسة بينهم، لكنني لم أحصل على اجابة واضحة، وكان واضح عليهم الخوف في التكلم عن هذا الموضوع، حيث قال لي أحدهم ما المفروض أن تسأل هكذا أسئلة! ما انقله هنا هو من ذاكرتي لفصول عشتها عن قرب ولمستها بنفسي، وهذا غيض من فيض! كان الله وحده يعلم بأحاسيس وآلام هؤلاء البشر: أطفالاً وشباباً اناثاً وذكوراً، ونساءً ورجالاً، وشيوخاً وعجائزاً، ولا يمكن لاي مخلوق تقدير الاذى الذي لحق بهم. بقى علينا نحن العراقيين أن نتعظ من هذه الآلام، ونكون شجعان ومنصفين بالاعتراف بها وتحمل مسؤوليتها بكل أمانة، وعلى مجلس النواب العراقي أن يجعل مظلومية هذه الشريحة من أولوياته بدلاء عن الانشغال بمسألة رواتبه التقاعدية، وأني على يقين لو عوضناهم بمال الدنيا كلها، سوف لا تساوي ثانية من ثواني الآلام التي انفجر فيها لغماً على احدى العوائل اثناء عبور الحدود.