حديث الساعة هو إقدام المؤسسة العسكرية على عزل الرئيس أو الانقلاب عليه. وطبعا ما زال الأمر في بدايته ويصعب التكهن بما ستؤول إليه الأوضاع في الأيام القادمة. سوف يتساءل كثير من الناس عن حقيقة ما يجري وخلفياته وتداعياته. ولن يهدأ بال المتتبعين إلا بعد أن يُكشف الغطاء عن الملابسات. ولا شك أن محللين سياسيين بالغوا في ربط ذلك بدوافع داخلية، وآخرين بدوافع خارجية، وصنفا آخر دمج العاملين معا. وللمصداقية وللتاريخ نسجل أن العرب، منذ القديم، يربطون إخفاقاتهم بالآخرين؛ وكأن أولئك الآخرين لا تحاك ضدهم المؤامرات، ولا يخطئون، ولا ينال منهم. سندع الخوض في هذه الإشكالات الجدلية، ونحاول الاقتراب من طبيعة الحكم في الدول العربية وربطه بالديمقراطية الغربية. فلا أحد يمكنه إنكار الصراعات والتجاذبات والدماء التي سالت في أوربا قربانا لهذه المقولة التي يريد بعض السياسيين العرب تطبيقها في المجتمعات العربية من دون مقدمات ولا تهيئة الحقل السياسي والذهنيات المختلفة. فالمشكل يكمن في الإرادة المحمومة لتطبيق الديمقراطية كدرس لا كممارسة وثقافة وسلوك تقتضي آليات وسيرورة وتدافع مجتمعي. إن تطبيق الدرس الأول في الديمقراطية التي تعتمد الأغلبية أساسا لممارسة السلطة فشل فشلا ذريعا، ليس لكون السيد محمد مرسي لم يكن مؤهلا لتسيير دفة الحكم، وليس لكون الإخوان لم تكن لهم الجرأة والحزم والعزم على فتح الأوراش الكبرى، بل على العكس من ذلك، فهم قد دشنوا ولايتهم بانتخاب مجلس تأسيسي، ووضعوا دستورا صوت لصالحه ثلثا المصوتين. وعمل السيد مرسي أيضا على تشبيب القيادة العسكرية، وحاول تطبيق الدستور والعمل بالمبادئ الأولية للديمقراطية التي تعطي صلاحيات واسعة لذوي الأغلبية. وأمام هذه الممارسات الديمقراطية المطبقة بحذافيرها من لدن الإسلاميين، نهضت قوى معارضة تطالب بوأد المسلسل الديمقراطي ليس لكونه مسلسلا زائغا عن الطريق، ولكن لكونه يعتمد مقاربات ديمقراطية خالصة تمتح من مرجعيات الخصوم. وليست هذه هي المرة الأولى التي تجهض فيها العملية الديمقراطية في مهدها، بل قد رأينا كيف أجهزوا عليها قبل ذلك في الجزائر. والذي يبدو لي هو أن العيب ليس في الرئيس ولا مؤيديه، وإن كان لا يخلو منه، وإنما الأمر يرجع في الأساس إلى النهج الديمقراطي الذي أريد له أن يُطبق في الحال من دون مقدمات زمنية وإديولوجية وحزبية وثقافية. لأن النظام المصري في عهد مبارك لم يكن يؤسس هيكلة حزبية سياسية بقدر ما كان يرمي إلى خلق تعددية حزبية متحكم فيها من فوق. إن الخلل بنيوي؛ فالشعب المصري الذي يعاني من الأمية والفقر، ويعاني من مشاكل السكن وكل المرافق الاجتماعية، ليس في مستوى الأفق السياسي العالمي، ولا هو في مستوى الديمقراطية، وما يستتبع ذلك من احتكاك وتنافس وتجاذب. والنظام السياسي ألف الاستبداد واستحكم على مقدرات الشعب. وعلى المستوى الإقليمي هناك إسرائيل التي لا تريد قوة ديمقراطية تنافسها. ومن غير المستبعد أن تكون قد انطلت حيلة العسكر وكلمته التي من خلالها أزاح مبارك ويعيد اليوم نفس السيناريو ويطيح بمرسي مع اختلاف شاسع بين الرئيسين على مستوى التمثيلية الشعبية. فليس في الدستور المصري ما يعطي الحق للعسكر للانقلاب على رئيسهم؛ فزمن الانقلابات في مصر قد ولى لكون الرئيس منتخبا بطريقة ديمقراطية. وأما إن قال قائل إن الجيش قد حد من تفاقم الوضع "وخير الدواء الكي" فإن في هذا القول مزايدة غير مقبولة دستوريا وأخلاقيا. فالجيش يعني القوة التي تضرب بيد من حديد خارج حدودها وتدافع عن السيادة، أما أن تنقلب قوة الدولة ضد مؤسساتها فهذا هو الخطر عينه. فإن تابعنا نفس التحليل ونفس التوجه فقد يؤدي بنا الأمر إلى اعتبار الجيش هو أعلم وأذكى من النخب السياسية المصرية وهو ما لا يقبله العقل. إن المؤسسة العسكرية مؤسسة وطنية ينضوي تحت لوائها كل أطياف الشعب المصري، لذلك يجب أن تكون فوق الشبهات، وليس من حقها أن تعزل أحدا إلا بقوة القانون. وهو ما سيقوله القانونيون في حينه أو بعد هدوء العاصفة. والخلل في نظري يكمن في أن مرسي ومريديه الإسلاميين اعترفوا بالديمقراطية خيارا وحيدا وقبلوا بالانتخابات وبقرار الشعب. ولكن معارضيهم لم يستسيغوا هذا الأمر باعتبار الديمقراطية منهجا وسلوكا خاصا بهم على أساس أنهم ليبيراليون وحداثيون وعلمانيون. فهؤلاء كانوا يستشرفون الوصول إلى السلطة بمجرد إزاحة مبارك، لأن الإسلاميين في نظرهم سوف يكونون متشددين ولن يقبلوا بكثير من شروطهم إلا أن توقعاتهم لم تتحقق، فبيّن الإسلاميون أنهم أكثر ديمقراطية من الديمقراطيين أنفسهم. وكلنا نتذكر حين نافس شفيقُ محمد مرسي وانهزم بفارق ضئيل فإن تلك الذكرى كانت وما تزال حاضرة في أذهان العسكر. ولا ريب أنه كان يتحين الفرص لمعاودة الكرة عساه يحظى بثقة الشعب، وينال حظ رئاسة الدولة، ويعمل دستورا على مقياسه الفرعوني بمساعدة بعض الليبيراليين الذين سيرضخون للتنازلات خوفا من عودة الاسلاميين الذين هم بؤبؤ لهم وللذين يتحكمون فيهم من وراء البحار. وسوف تكشف لنا الأيام القادمة نوعية الرئيس المأمول ومرجعيته وأصوله. لعل بؤرة الصراع بين الفريقين تتجلى في استشعار الليبيراليين لاستهدافهم من قبل الاسلاميين عن طريق صناديق الاقتراع. فما دام الإسلاميون انتزعوا الأغلبية وخصومهم خسروا فلم يحطوا سلاحهم ويهيئوا أنفسهم للرئاسيات القادمة بعد أربع سنوات بل أرادوا الحكم بالأقلية بدل الأغلبية المتعارف عليها دوليا. وحجتهم في ذلك الخوف من الرجوع بالبلاد إلى العصور القديم وعهد الحسبة. فما يقع في مصر يقع في تونس والمغرب مع وجود فروقات نسبية بين كل دولة. وما دامت صورة الجزائر ما زالت ماثلة بين أعين هؤلاء وأولئك فإن الليبيراليين قد أخطأوا حين أثّروا على الجيش إما باختراقه أو بإبرام صفقة سرية معه، وإما حين ساوم الجيش خصوم الإسلاميين على ما قد يظهر لاحقا. أما الإسلاميون فأظن أنهم صبروا وتحملوا وسوف يصابرون ليبينوا للعالم أجمع أنهم أصحاب الحق ومع ذلك سوف يعملون على استرداده سلميا ولن يلجأوا إلى العنف الذي لا يثمر إلا العنف. ومسيرة الديمقراطية مسيرة معقدة ومحفوفة بالمخاطر، ولن تستوي على سوقها وتؤتي أكلها إلا عبر مد وجزر، وأخذ وعطاء، وتنازلات مؤلمة، وتضحيات جسيمة. فيخطئ من يحكم على هذه الانتكاسة بالفشل. والجيش لا يحمي الديمقراطية ولا يبني أسسها بقدر ما يزيد في شرخ اللحمة الوطنية إن تطاول على اختصاصاته المنصوص عليها في الدستور. أما خير حام للديمقراطية فهو الشعب. ومن يزرع بذور الشك من خلال التشكيك في سلامة هذا الحراك الشعبي أو التنقيص من قيمة هذا الفريق أو ذاك فهو يصطاد في الماء العكر. فالصراع السلمي هو السبيل الوحيد نحو التقدم والرقي.