أيّ متابع للسياسة في الشرق الأوسط يعرف أنّ هذه منطقة ينحو فيها المتطرفون نحو المضي إلى أبعد شوط، بينما يميلُ المعتدلون إلى الابتعاد. لكن في كلّ مرة و من حين لآخر، ينهض المعتدلون و يتخذون موقفاً (مفاوضات السلام في أوسلو 1993، انتفاضة الأنبار من قبل العراقيين السنة ضد القاعدة سنة 2006، ثورة الأرز عام 2005 بلبنان ضد سوريا و حزب الله). و حينما يقومون بذلك، يتوجب على أمريكا أن تدعمهم. إنه الأمل الوحيد لجعل هذه المنطقة – المسمومة بالطائفية و المثقلة بماض لا ينفك يحاول دفن المستقبل- تأخذ مساراً أكثر إيجابية. أصنّف في هذه الخانة ما حصل بمصر الأسبوع الماضي من انتفاضة شعبية و انقلاب عسكري- مجتمعين معاً- ضد الحكومة المصرية التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين. لا أصل إلى تلك الخلاصة بسهولة. إذ كان من الأفضل لو أن الرئيس محمد مرسي (من حزب الحرية و العدالة) ظل في منصبه لمدة ثلاث سنوات. حينها كان سيكون لزاما على الحزب أن يواجه عجزه و الرفضَ الشعبي له. و كنت أتمنى أيضا عدم تدخل الجيش المصري الذي له مصالحه الخاصة في الأمر. لكنّ المثاليَّ ليس في قائمة الاختيارات بمصر. ففي الواقع، حتى الطعام قد لا يكون متوفراً للفقراء في تلك القائمة بعد الآن. عدد كبير من المصريين أحس بأن انتظار ثلاث سنوات قد يدفع بمصر نحو الهاوية. الدولة تعوزها العملة الصعبة لتسديد واردات الوقود و لذلك فالنقص في الكهرباء و في خطوط الغاز عمّ كلّ البلاد. كان من الواضح أن مرسي لم يكن مركّزا على الحكم و على تعيين أكثر الناس كفاءة. بل كان مركّزا على ترسيخ نفسه و حزبه في السلطة. و جراء ذلك، كان من الممكن أن تكون مصر الأسوأ حالا في العالم خلال الانتخابات الرئاسية القادمة بحكومة لا تتزحزح و كارثة اجتماعية و اقتصادية غير قابلة للعلاج. الطريقة الوحيدة التي تمكّن مصر من كسب العملة الخارجية لشراء الغذاء و الوقود هي إنعاش السياحة ، التي تشكّل 10 بالمئة من اقتصادها. في هذا الصدد، تأتي حادثة تعيين مرسي ل 17 محافظ جديد في 16 يونيو لتكشف عن أولويات الإخوان : ففي الأقصر، قلب الصناعة السياحية المصرية: عيّن مرسي عادل الخياط، عضو في الجماعة الجهادية " الجماعة الإسلامية" و التي حُمّلت مسؤولية مجزرة راح ضحيتها 58 سائحا بالأقصر سنة 1997 ارتُكبت بهدف تدمير السياحة و ضرب حكومة حسني مبارك. لقد تخلّت هذه الجماعة عن أعمال العنف منذ عقد، على أنّها لم تتنكّر أبدا لهجوم 1997. وزير السياحة في حكومة مرسي استقال احتجاجا على هذا التعيين، و الخياط استقال هو الآخر. لكن هذه الحادثة جديرة بأن تعطيك فكرة عما كان يحصل. لقد كان هذا التعيين شبيها بتعيين محسوب من آل كابوني لإدارة مكتب السياحة بشيكاغو. بدلا من معاقبة المصريين على محاولتهم اليائسة في تغيير المسار قبل الانزلاق إلى هاوية، وجب على أمريكا استخدام مساعداتها و نفوذها مع الجيش لتستفيد أقصى ما يمكن من هذه الأزمة. هذا يبدأ بالإصرار على إطلاق سراح قادة الإخوان المسلمين و على حرية الحزب و إعلامه في خوض غمار الانتخابات البرلمانية القادمة و على ضرورة توفرهم على صوت في عملية كتابة الدستور. كل من حاول حكم مصر مستفردا سيفشل: مبارك، الجيش، الإخوان المسلمون، الليبراليون. مصر في حفرة عميقة رهيبة و الطريقة الوحيدة للخروج منها تكمن في تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على اتخاذ القرارت الصعبة و القيام بالمهام الجسام المطلوبة. في الحقيقة، السؤال الكبير في مصر ليس هو من يحكم، بل كيف يحكم؟ هل تستطيع ديموقراطية جديدة و هشة أن تسجّل تقدّما في مجابهة تفكك و محنة على المستوى الاقتصادي؟ لقد عدت للتو من مصر. إنها تنهار. لقد جلست قبل أسابيع قليلة في مقهى بالقاهرة في مقابلة مع محمود مدني ، باحث في مركز البحوث الزراعية في مصر و واحد من أهم خبراء البيئة في البلاد. يقول مدني، و الذي عمره 55 سنة: " منذ نحو 40 عاما، عندما كنّا في المدرسة المتوسطة، كنّا نغني أغنية تتحدث عن كيف أنّ العالم بأسره كان يخاطب 20 مليون مصري. و عندما توّلى مبارك الحكم سنة 1982 كنّا 33 أو 34 مليون" يتابع مدني " و اليوم، ها نحن ذا 80 مليون. و علاوة على هذا، فقد صاحب الضغطَ المستمر للتربة في دلتا النيل ارتفاعٌ تدريجي لمستوى سطح البحر نتيجة للاحترار العالمي. كلّ هذا يقود إلى المزيد من تسرب المياه المالحة لدلتا النيل. النيل هو شريان الحياة، -يكمل مدني- و الدلتا هو رغيف خبزنا. و إذا تم تحويل مساره بعيداً فلن تقوم لمصر قائمة". اجتماع كل هذه العوامل (الساكنة، المناخ، البطالة، ندرة المياه و الأمية) قد يجعل من مصر بلدا غير قابل للحكم – و مهمة الرئاسة مستحيلة- في ظل ساكنة متوترة و معبّئة. آمل ألا يكون الأمر كذلك، بيد أني أعرف أنّ مصر لا يمكن أن تظل تتأرجح بين نظام (علماني/عسكري) يقصي الإخوان المسلمين، و نظام إخواني يقصي الطرف الآخر. دارون أسيموغلو هو المؤلف المشارك لكتاب " لماذا تفشل الأمم؟". الأطروحة البسيطة تذهب إلى أن الأمم تنمو وتزدهر حينما تطور مؤسسات سياسية واقتصادية "شاملة" وتفشل عندما تصبح تلك المؤسسات "انتزاعية" تركّز السلطة و الفرصة في يد قلّة. مصر بدولتها الوازنة ،يلاحظ أسيموغلو، هي مجتمع كلاسيكي انتزاعي. ما تحتاجه بشدة هو قائد يقدر على الجمع بين روح الاستيعاب و التضمين مع الصدق العنيف الذي يصارح الشعب أنّ المصريين قد أضاعوا سنوات عديدة و أنّ عليهم البدء بتقوية التعليم، تقليص الدولة، وتحفيز ريادة الأعمال وتمكين المرأة وإصلاح الشرطة والقضاء. لم يكن هناك فرصة لكي يكون مرسي في مستوى اللحظة. لكن إذا ما تم إجراء انتخابات جديدة و وضع دستور جديد وتشكيل حكومة وحدة وطنية واسعة - بما في ذلك الإسلاميين- قد تكون هنالك فرصة تتاح لمصر لتدبير كل المشاكل التي لا يمكن أبدا تلافيها بعد الآن، و تفادي الدخول في مشاكل أكثر سوءا لا يمكن تدبيرها بأي حال من الأحوال. و لكنها فرصة فقط. و مهمة أمريكا هي دفع جميع الأطراف نحو هكذا ائتلاف وحدة وطنية. المقال منشور بجريدة النيويورك تايمز في 6 يوليوز http://www.nytimes.com/2013/07/07/opinion/sunday/friedman-can-egypt-pull-together.html?ref=opinion&_r=0 ترجمة : أسامة غجو – طنجة المغرب.