مقدمة: تحل بنا هذه الأيام ذكرى فاجعة من أفظع الفواجع التي حلت بالعرب و المسلمين منذ منتصف القرن الماضي، و صفعة مهينة على جبين أمة عربية تجاوز تعداد سكانها 300 مليون نسمة، و سبة عار لشرف أمة الإسلام التي التي تمثل قرابة ربع سكان الكرة الأرضية بأزيد بكثير من مليار نسمة، أما الطرف المؤذي و المتحدي، َصدِّقْ أو لا تصدق، فهو في حدود حوالي ستة ملايين يهودي مشبعين بعقيدة التلموذ الصهيونية جاثمين على تراب تراب فلسطين !! أية معادلة هاته، أليست مفارقة أغرب من الخيال ؟! نعم و لكن الأمر لا يتعلق بالكم العددي و لا بالركام المادي ، بل بالكيف المعنوي، بالجدوى التنظيمية و التعبوية و العملية، أمتنا الضخمة الغثائية غير المنظمة، غير الموحدة، كم مهمل في مواجهة فئة قليلة منظمة منجمعة تعرف كيف تسخر الطاقات و تعبئ ليس قوتها فحسب بل و قوى العالم من حولها لأجل قضية مصيرية بالنسبة إليها و مسألة و جودية. سالت الأقلام بالكثير من المداد للحديث عن ملابسات هذه القضية التي باتت تعتبر قضية الشعوب العربية ذات الأولوية القصوى، و شغلت العالم و لا تزال منذ 1948 بتاريخ النصارى إلى الآن، فيتحدث العرب بأسى و حسرة عن مصطلح النكبة، بينما تتباهى الدولة العبرية الوليدة من رحم الصليبية العالمية و المسماة ب "إسرائيل" و تفتخر بالنصر على العرب " الأشرار" و التمكن من تأسيس وطن مشروع على أرض "مشروعة" للشعب اليهودي المضطهد المحروم، و الانتشاء باسترجاع الأرض " المقدسة" من أيدي أفاعي العرب، هكذا يعتقد الصهاينة، لذلك فلم يدخروا جهدا في قتل العرب شر قتلة، و طردهم و التنكيل بهم تنكيلا ما له مثيل على مرآى و مسمع من عالم الغاب و منظمات حقوق الإنسان، و الأجدر بها أن تسمى "عقوق الإنسان"، و بدعم و مباركة القوى الفرعونية الطاغية على ظهر البسيطة، فهل مصيبة فلسطين هي أعظم مصيبة لحقت بالأمة في تاريخها على الإطلاق؟ أم النكبات: القليل هم من يبحثون في جذور هذه الوضعية المنحطة التي نعيش فصولها الآن، جنبا إلى جنب مع فصول العديد من المشكلات الأخرى و الأزمات التي تنخر كيان هذه الأمة، من تخلف على جميع المستويات و الفقر المدقع الذي ترزح تحته الملايين من أبنائها في مقابل الترف الفاحش الذي يعيشه الحكام و بطانتهم، و ما إلى ذلك من الأمية و الجهل و المرض و البؤس الاجتماعي و الفساد الإداري و المالي و الخلقي و الظلم السياسي، من الذي و ما الذي أردى الأمة إلى أسفل سافلين،حتى غدت محل سخرية الأمم، و كيف هوت من حال المجد التليد إلى حال المقلد البليد؟ قدر الله و ما شاء فعل، وكل شيء عنده بقدر و أجل مسمى سبحانه، بعين الحقيقة ننظر إلى ما يحدث في الكون على اعتبار أنه لا تتحرك ذرة في العالم إلا بإذنه عز و جل، لكن بعين الشريعة نفهم عن الله تعالى أنه ما من مصيبة تمسنا إلا بما كسبت أيدينا و يعفو ربنا برحمته عن كثير، و لقد علمنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم تنبيها و تحذيرا: " أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، و أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون"، و بالفعل فقد حدثت فتن بعد التحاق سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات و أزكى التحيات بالرفيق الأعلى، لعل أهم ما آلت إليه هو ما سماه الإمام المجدد عبد السلام ياسين رضوان الله عليه بالانكسار التاريخي، و هو تحول أمْرِ الأمة من شورى وعدل و إحسان إلى ملك عضوض ظالم مسيء، تدحرج عبر التاريخ إلى أسوأ أشكاله و صوره في ملك جبري طاغ مدمر لمقدرات الأمة، مستبد بالمال و السلطان و خائن للأمانة، ذاك أصل الداء الذي أذهب ريح هذه الأمة، و تلك أم المهالك و النكبات التي ظلت الأمة تتأذى من جرائها و تؤدي ثمنها باهضا لقرون من الزمان، و ما كان لأعداء المسلمين أن يتمكنوا من استباحة بلادهم و تقسيمها لو كان أمرها بيد خيارها و صلحائها، و ما كان لها أن تحتل مراتب الذيلية في مؤشرات التقدم و التنمية لو تمت صيانة كرامة أبنائها و بناتها، و تولى خبراؤها و ذوو المروءة و الكفاءة فيها تدبير شؤونها، لكن الأمور قد أسندت بغير حق إلى غير أهلها، فماذا عسانا ننتظر و نتوقع غير النكبات تلو النكبات، نسأل الله اللطف فيما جرى به قدره، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم. عاش المسلون "شعباً و قيادةً" بالمصطلح الرائج، أعزة مظفرين مرفوعي الرأس أيام النبوة و في كنف الخلافة الراشدة التي لم تدم سوى ثلاثين سنة بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، ذلك مما أخبر به الصادق المصدوق محمد بن عبد الله عبد الله و رسول الله: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك"، فما لبث أن استولى بنو أمية على مقاليد الحكم فحولوه إلى "كسروية" وراثية يعبث فيها الغلمان السكارى بكرامة أشرف الناس و يقطعون رأس سبط النبي سيدنا الحسين عليه السلام، أليس ذاك التحول أشد نكبة مرت على أمة الإسلام، فما جاء بعدها على مر العصور و القرون من ويلات إلا توابع لها و نتائج منطقية و منسجمة مع ذاك المنطلق، قد يقول قائل لقد حقق المسلمون الكثير من الفتوحات أيام الأمويين و العباسيين و غيرهم، و تم تحقيق منجزات عظمى أيضا أيام العثمانيين، فهل الخير منحصر في أيام الخلافة الراشدة الشورية؟ فبالتأكيد لا يمكن إنكار وجود ملوك مجتهدين في الإصلاح بين ثنايا الحكم العاض و الجبري، و وجود رجال مؤمنين صابرين محتسبين في تحصيل العلم و العمل به بالتعليم و الجهاد و البناء و العمران، فكانوا رحمهم الله بمثابة مصابيح الهدى في ظلام هذه الحقب الزمنية الطويلة، لكن الأمة المحمدية ظلت في عمومها مكلومة مهانة منكوبة، و قد سبق أن نشرت مقالا بعنوان: تحقيق الكرامة طريق التنمية، أقصد فيه أن عطاء الإنسان لا يمكن أن يبلغ ذروته في غياب كرامته، فهو يستشعر أنه معني بتنمية ذاته و غيره و بلده و أمته عندما يعيش حرا كريما محترما، و إلا فالبديل كما يقال هو " أنا و بعدي الطوفان" ، إن ما تحقق من حضارة في ظل الحكم العاض المستبد العابث بمصالح البلاد و شرف العباد، بالإمكان تحصيل أضعاف أضعافه لو سادت الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية، خاصة في زمن تقهقر المناوئين المجوس و ضعف الخصوم النصارى، الذين يعيشون عصر الظلمات يومئذ، لكن الأوضاع تطورت في المراحل الموالية لصالح الخصوم الذين استطاعوا الاستيلاء على بلاد الإسلام، و انتهى الأمر بعد ذلك إلى تشتيتها إلى إلى دويلات صغيرة و أقطار ممزقة متناحرة بعد جلاء عساكر الاستعمار، وبقيت بلاد فلسطين و لا تزال فريسة بين مخالب التحالف الصهيو-صليبي، تنتظر جند محمد صلى الله عليه و سلم و أحفاد صلاح الدين قدس الله سره. فهل من أمل؟ بلغت الأمة أسفل دركات الضعف و التشرذم و التبعية و الهزيمة بما كسبت أيدي الناس، و خصوم الإسلام في أشد جبروتهم و علوهم في الأرض بغير حق، يتركون خلافاتهم جانبا إذا تعلق الأمر بمحاربة و معاداة المسلمين، ويسومون المستضعفين سوء المهانة و العذاب، و يعلمنا ربنا الكريم أن مع العسر يسرا، كما يهيب بنا ألا نيأس من روحه و لا نقنط من رحمته، ثم نستبشر في الطريق الشاق بالبشارة النبوية بالخلافة الثانية على منهاج النبوة مقبلة مشرقة مفرحة لكل مؤمن و مؤمنة، تعيد معنى لكرامة المواطن و شرفه، ينبغي أن يكون هذا بشارة نبثها في العالمين، و ليس تهديدا لأهل الغرب الذين يقول قائلهم "إن الإسلام عملاق نائم، ويل لكم منه إذا قام من سباته" و لا وعيدا لغيره من الرافضين لمقتضيات الالتزام بأحكام الإسلام، المتوجسين خيفة من الإكراه عليها، على رسلكم يا خلق الله، يقول تعالى في محكم تنزيله: " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، لكن رد أهل الغي عن غيهم و إيقاف الظلمة عند حدهم فهو من صميم الرحمة الحقيقية التي بعث بها الحق سبحانه سيدنا محمدا صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم، و ما من شك أن هذه الهبة المباركة للشعوب المسلمة هي مقدمة لإعادة الاعتنبار لأمة المليار و نيف من المسلمين، و تحرير أولى القبلتين و ثالث الحرمين الشريفين، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله. تم بحمد الله عصر يوم الأربعاء 5 يونيو 2013 م.