نولد صدفة أو اعتباطا، يُلقى على كاهل المولود الجديد منذ اللحظة الأولى جملة أخطاء اقترفها الآخر، ثم يغدو وضع صخرة سيزيف واقعا جاثما بلا ريب، يؤثر منذئذ تطوره على طبيعة مستقبله و حتما توجيه مناحي خطوطه الكبرى. بغض النظر، عن السلطوية العبثية لعملية الإنجاب؛ في بعدها العام، التي تخرج فردا جديدا إلى هذه الحياة، دون استئذان وبكيفية تفتقد لكل معاني المسؤولية الأخلاقية والمعنوية، فالأمر يزداد فظاعة وتعقيدا واستفحالا حينما يجترّ هذه الفرد خلف ظهره، فيما بعد، منظومة طويلة تختزل في جوهرها، نتاج حيوات أخرى متداخلة ومعقدة، مصدرها آخرون، ستشكل في نهاية المطاف أفقا بنيويا، لهذا القادم الجديد. ربما، تسيَّدت مصيره الشخصي طيلة حياته، أو أقل من ذلك بقليل أو أكثر، حسب القدرات الفعلية للشخصية، ومدى تحقق مستويات ممكنات وعيه وإرادته وإدراكه المتوقد والشجاع لطبيعة مصيره. بالانحدار، من هذا المستوى الوجودي المحض في بعده الأصيل، إلى الثاني المتمثل في تحقق و قائعية المجتمع الإنساني بكل تفاصيل حيثياته الماثلة للعيان، التي يختلف مستوى تأثيرها السلبي أو الايجابي، ثم تبلور معطياتها التحفيزية أو الارتدادية، تبعا لاختلاف درجات تطور المجتمعات، والمدى الذي بلغه وعي أفرادها؛ حيال مصيرهم الذاتي والموضوعي. هكذا، تختلف وطأة الماضي ومدى ثقل حمولته على الأجيال المتلاحقة، ارتباطا بوازعيْ الحرية والمسؤولية، في ظل مجتمع مدني/ إنساني ينعم قلبا وقالبا بجذور الحداثة؛ يحتكم تدبير شؤونه الحياتية، إلى مؤسسة العقل وعقلانية مؤسساته الديمقراطية ذات الحس البشري. أو على العكس من ذلك، حينما يكون حظ المولود في غاية السوء ،أحاطت به اللعنات عبر كل حَدَب وصَوْب، فيصادف وجوده وجود مجتمع غير قابل أصلا للوجود ومن ثمة الحياة، لأنه لم يعرف قط سبيلا لمعنى هذه الحياة حتى في أبسط دلالاتها. هنا، تفقد أيضا الموت شعريتها الرحيمة. يولد الفرد، يقذف به شخصان إلى العالم، جزافا ودون مشروع مبرَّر ومبرِّر في الغالب الأعم ، بالتالي لاسلطة له بالمطلق على هويات : والديه، جنسه، قومه، وطنه، سلالته، عائلته... ثم السياق التاريخي والجغرافي الذي يكتنف حضوره. والحال كذلك، سيعيش الأفراد طيلة حياتهم يجرجرون، أرادوا أم رفضوا، مدركين أم غير آبهين، ثِقَل خلفيات وموجهات ثقافية تشكلت وتحددت سلفا وقد استمر مفعولها في التوطّد و التكرّس، إلى أن يحدث الوعي بما حدث وما يحدث وما يمكن حدوثه، بناء على المعطيات الأولية القائمة. هنا يكمن مربط الفرس، والنقطة المفصلية بخصوص المصير الذاتي،من خلال طبيعة الوجهة التي يأخذها الجواب عن السؤال التالي : حينما يدرك الفرد أخيرا بأن مقدمات ومرتكزات الماضي، وماترتب عن مختلف ذلك غاية لحظة تبصره وتفطنه، شكلت اغتيالا وقتلا رمزيا لكل ممكنات هويته المفترضة، فهل يجدر به التوقف هنا، كي يحدث القطيعة ويغير المسار صوب الوجهة التي تتماثل وتتماهى أخيرا مع قناعاته الحقيقية، أم يستمر الانقياد والإذعان والاستعباد والامتثال والخضوع والتنميط ، قصد استمرار هامش سلامة أنس الجماعة؟ حقيقة، إنها ورطة مفجعة، بلا مرافئ ولا ضفاف، ومعركة المعارك، تحتاج إلى رؤية فلسفية عميقة في غاية الشجاعة كي تنسلّ وتتخلص من تحت خراب أنقاض البناء المتوارث،بهدف التحوُّل نحو التشكُّل الجديد.أساسا، القدرة على إدراك حدود القطيعة، ثم استثمار الخيارات الماثلة أمامك، حيث يمكنك الاشتغال عليها بوعي ونفاذ بصيرة، كي تبلور على نحو ملموس النقلة النوعية، وكذا تجربة حياتك التي تنتمي إليك في نهاية المطاف.وأنت صاحبها. الغاية،حياة جديدة تستحق الحياة حقا، يعيش وفقها الكائن المولود ثانية، بحرية ورغبة وإرادة وقناعة داخلية، غير ولادته البيولوجية الموسومة بكل أنواع القهر و الاستلاب. أقصد بكل ذلك اتسامه بإرادة شجاعة على الاختيار الحر و المسؤول. بناء على قواعد من هذا الصنف : *أريد هذا ولا أريد ذاك ! أرغب في هذا الأمر وأرفض ذاك ! *لا أريد أن أكون مثل جدَي وأبي حتى لايتوقف التاريخ.أريد تاريخا ذاتيا خاصا. * لا يمثل قطعا السائد المجتمعي مرجعية، ولا يعني اتفاق الجماعة ضمنيا أو عرفيا على نسق ثقافي بعينه أن اختيارها سليما وصحيحا.لأن الجماعة تحكمها حتى النخاع، بكيفية لاواعية نحو أهداف بعينها، سياسوية بالدرجة الأولى، مجموعة أجهزة إيديولوجية وإعلامية وتربوية وعقائدية، لايتلمس حقا مفعولها الجهنمي التدميري سوى أفق الفكر النقدي.منظومة ازدادت مكرا وخديعة قدر بؤسها مع التطورات التي بلغها جشع الليبرالية المتوحشة. *يمثل الفكر النقدي والوعي المتسائِل،المرجعية المطلقة. * قوام العلاقات المجتمعية الحية فعلا، احترام الاختيارات المشروعة لأفرادها ومكوناتها.