تتحدث الزعامات الحزبية عندنا كثيرا عن ضرورة الإصلاح، لكن هل تمتلك رؤية ومشروعا لذلك وهل لديها نية الإصلاح فعلا أم أنها تنوي فقط الهرولة نحو منابع الريع لتنهل منها ما يُشفي عطشها للأخذ؟ لقد تحوَّل مفهوم "الإصلاح" عندنا إلى كلمة سحرية، حيث نجدها مطروحة في كل لقاء ومحفل وفي مختلف وسائل الإعلام، وهو ما يدلّ على أن هناك فعلا إحساسا عميقا بالأزمة السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية لدى النخب والمجتمع، إذ يبدو أن هناك إدراكا لضرورة إجراء التغييرات المناسبة للمستقبل الذى يتحدث الجميع عنه. لكن إذا كان هناك إجماع على "عمق الأزمة"، فإن ما يُقال وما يُكتب يكشف عن غموض وتناقض كبيرين في مفهوم "الإصلاح" وعن كيفية إنجازه لدى الزعامات الحزبية، حيث لا نجد مشاريع مفيدة ولا حوارا جادا حوله... فالزعامات السياسية لا تتفق أصلا حول مضمون "الإصلاح" وهدفه وأساليب إنجازه، ما حوَّل الأمر إلى قفز إلى المجهول أو المراوحة في المكان نفسه وتكريس للواقع القائم! يرجع ذلك إلى معاداة الزعامات الحزبية للثقافة والمثقفين، لكن لا يمكن تخيُّل سياسة بدون ثقافة ولا فكر. والسياسة التي لا تنهض على الفكر والإبداع ليست سياسة بالمعنى السليم لهذا المفهوم. فهل يمكن تطوير المشاريع بدون بحث ولا تفكير؟ وهل يمكن بناء السياسة على الفراغ؟ ألا يشكل الفراغ الفكري عماء لا تنجم عنه سوى المآسي؟ وهل يمكن الانخراط في روح العصر والمستقبل بدون فكر؟... فلماذا يكره السياسيون المثقفين؟ يعود عداء السياسي للمثقف عندنا إلى جهل الأول بدور الثقافة والمثقف في حياة المجتمع، حيث يعتقد أنه لا ينبغي للمثقف أن يتدخل في شؤون السياسة لأنها لا تعنيه ولا يعرفها... لكن من المفروض أن يعرف المثقف كل ما هو انساني واجتماعي وسياسي...، ويُعنى به ويُنتج معرفة حوله. وإذا كانت الزعامات الحزبية في بلادنا تعتبر نفسها خبيرة ومسؤولة ومُفَوَّضة ومطلِّعة على كل شيء وعارفة للمصلحة العامة، فإنها تجهل، أو تتجاهل، أن المثقف ضمير يقظ يرفض أن تكون هناك خفايا ومعارف سرِّية في الشأن العام. وإذا كان الزعيم الحزبي عندنا يتذرَّع بأنه يتصرف حسب الوقائع وتوازن القوى وما تسمح به الظروف، فيعقد الصفقات ويقدم التنازلات، فإن المثقف يتصرف على أساس المبادئ والقيم التي لا يمكن التلاعب بها أو التحايل عليها. كما أن المثقف ناقد يسعى باستمرار إلى التطور والانتصار على الذات وتجاوز ما هو قائم، أما الزعيم الحزبي فهو "رسمي" يبحث عن الأمجاد والمكاسب المادية، ما يعني أن المثقف يرى "الثقافة قوة"، بينما يرى السياسي "القوة ثقافة". تعادي الزعامات الحزبية عندنا الفكر والإبداع، لأن الإنسان عدو ما يجهل. وليس العمل السياسي بالنسبة لها سوى تجارة ومصالح وحسابات ومنافع وريع... هكذا تتسم هذه الزعامات برغبتها الجامحة في التمتع بنعيم الحياة وشهواتها من مال وشُهرة وجاه وسلطة... كما أنها تحس بعقدة نقص تجاه الثقافة والمثقفين نظرا لأن فكرهم ونظافتهم وقيَّمهم وحُبَّهم للشعب والوطن واحترام الجميع لهم يذكرها بأوجه النقص فيها فتأكلها الغيرة والحسد... إنها تكره المثقفين لأنهم يهددونها في نفوذها وسلطتها ومصالحها ويسعون لتحقيق رسالة سامية في الحياة من أجل سمو وطنهم وشعبهم والإنسانية جمعاء. لذا ينفر معظم المثقفين من الأحزاب ويهجرونها.. هكذا، لا يفكر الزعيم الحزبي إلا بشهواته، ما يجعله عبدا لها ولمن يُشبعونها له، حيث يصير جبانا، ويفقد استقلاله ولا يفعل إلا ما يؤمر به. لذا، فالجاهل والجبان لا يمكن أن يقودا مؤسسة حزبية، لأنها لن تكون بين يديه سوى قطيع محكوم بالسيف. وفي مقابل ذلك، يملك المثقف فكرا نقديا، ولا يقبل أن يلعب أي دور في المسرحيات التي لا تحترم قيَّمه ومبادءه، ولا يكتب نصها ولا يقوم بإخراجها... يقف المثقفون ضد الظلم والاستبداد والتكفير والإرهاب وقتل إرادة الشعوب ونهب ثرواتها. إنهم يحسون بآلام الآخرين فيبدعون فكرا وأدبا وفنا. ومن لا يحس بالظلم والطغيان لا يمكن أن يكون مبدعاً. فالمثقفون والمبدعون هم دائما موقظو شعوبهم من أجل التحرر والسعادة. أما الزعامات الحزبية التي لا تهتم إلا بمصالحها فهي لن تكون بمنجى من التاريخ الذي سيكشفها وينتقم منها... يمارس المثقف نشاطا مدنيا، مما يجعله يحس بمأساة الإنسان ويفكر فيها. وتعمل الزعامات السياسية على الفصل بين المبدع وإحساسه المفرط تجاه الآخر، لتحول بين معانقة روحه لمشاكل مجتمعه، فتعزله عنها. لذلك يشكل النشاط الثقافي عملا من أجل الحرية والبناء الحضاري المفضيين إلى تقدم الإنسان ورفاهيته... وكلما ارتقى الإنسان معرفيا وثقافيا، ازداد نشاطا وتضحية من أجل حق الآخر وحريته وكرامته... إذا كانت الزعامات السياسية تكره الثقافة والمثقفين، فإنها تكون عاجزة عن التأطير، ولن تنخرط في أي تحديث أو أي بناء ديمقراطي، ما يعني أنه لا أمل معها في بناء دولة حديثة، وهو ما يشكل خطرا على الدولة والمجتمع... لقد قامت الأحزاب في الديمقراطيات العريقة على أكتاف الفلاسفة والمفكرين والمبدعين، ما يفرض على أحزابنا الانفتاح على الفكر والبحث والإبداع... لذا ينبغي أن تتصالح الزعامات الحزبية مع الثقافة وإزالة سوء الفهم بينهما... PAGE \* MERGEFORMAT1